ضِمن فعاليات المِهرجان السَنوي لمَسرَح (تـاك) الألماني، وبحُضورعَدد مِن أبناء الجالية العراقية في العاصِمة الألمانية برلين ومُمَثلين عَن السَفارة العراقية فيها، تم عَرض المَسرحية العراقية (عَزف نِسائي) التي أخرَجَها الفنان سنان العزاوي عَن نَص للكاتب مِثال غازي. عَزف نِسائي هي عَمَل مَسرَحي يَحكي جانِباً مِن مَأساة الشَعب العِراقي، وذلك عِبر تسليط الضَوء على مُعاناة أهَم عُنصُر في تركيبة هذا الشَعب وهي المَرأة العراقية، التي أصابَها الكثير مِن الظلم والحَيف والعُنف في السَنوات الأخيرة، إضافة لترَسّبات العُقود السابقة وما شَهدته مِن حُروب وحِصار وغَيرها مِن الأحداث المَأساوية التي شَهدها العراق وكانت المَرأة الضَحية الأبرَز فيها.
إن أبرز مايُميّز عَزف نسائي هو أنها إستلهَمَت تأريخ المَسرَح العراقي الجاد والهادِف وأرثِه الغني بالكثير مِن الأعمال الجَميلة، وأعادَت له الروح وذكرتنا بأيام عِزه التي غادرتنا مُنذ زمَن. نص فني جَميل تلاقفته بذكاء يَد المُبدِع سنان العزاوي، وعَمِلت عليه لسَنتين إضافة مُعالجة وإعداداً قبل أن يَرى النور على خشَبة المَسرَح، ثم جائت مَرحَلة تجسيد هذا النص التي أختار لها سنان وبحِرفية فنانتين مِن جيلين مُختلفين هُما الفنانة القديرة هناء محمد بخبرتها الطويلة وأرثها الفني الكبير التي لعبَت دَور أمرأة مُتطرّفة دينياً، والفنانة الشابة أسماء صفاء التي جَسّدَت دَور راقِصة وبنت ليل والتي عَرفناها مُمثلة تلفزيونية لكنّها فاجئتنا في عَزف نسائي وهي تقِف بكل ثِقة على خشَبة المَسرَح لتجَسّد وبإبداع شَخصيّة صَعبة مُركبة وأمام نَجمَة كبيرة كهناء محمد.
تدور مُجمَل أحداث المَسرَحية حَول شَخصيّتين فقط هُما(نور) المُتطرفة دينياً التي فقدَت أباً وأخاً في زمَن النظام السابق وتعيش في بَيت كئيب مُظلم،و(حياة) الراقِصة التي فقدَت زوجاً وإبناً في زمَن النظام الحالي، شَخصيّتان مُختلفتان في كل شَيء لكنهما متشابهَتان بمَأساة فقدانهُما لأحبائهما في مَرحلتين تأريخيتين مُختلفتين مِن تأريخ العراق، شائت الصُدفة أن تجتمِعا في بَيت واحد بَعد حادثة إطلاق نار. أثناء تواجُدهما سَوية بهذا البَيت يَدور حوار طويل بَين هاتين المرأتين مَليء بشُجون الشَخصيّة العراقية ومُعاناتِها، يُسَلط الضَوء على الكثير مِن تناقضاتها وسلبياتها وإشكالياتها، وإنعِكاس ما مَر به العراق خلال العُقود الآخيرة على هذه الشَخصيّة المُركبة والمُعَقدة أصلاً، حوار يَبدأ إنفعالياً مُتشنجاً نتيجة للإختلافات الظاهرة بَين شَخصيّة المَرأتين ثم يَنتهي وديّاً حَميميّاً بَعد أن تكتشفا تقاط التلاقي والتقارب بَينهُما، وبَعد أن تأثرت كل مِنهُما بالأخرى إيجاباً وإختلفت نظرتاهُما للحَياة وكادَتا أن تكمِلا طريقها سَويّة تسنُد أحداهُما الأخرى، لولا يَد المَنون وخفافيش الظلام التي خَطفت روح حياة برَصاص غادِر وهي في طريقها فجراً لجَلب الإفطار بَعد أن فتحَت سَتائر البَيت وسَمَحَت لنور الشَمس بإختراق نوافذه التي لم ترى النور مُنذ سنين، لكن نور بدورها لم ترجع القهقري بل أصَرّت على أن تكمل طريق الحياة في النور بَعيداً عَن الظلمة التي كانت تعيشَها سابقاً.
عَزف نسائي هي رسالة حُب تدعوا لنبذ التطرّف والعُنف والكره والطائفية وغيرها مِن الظواهر السلبية التي باتت جُزئاً مِن الواقع العراقي خلال السَنوات الأخيرة، عِبر تجسيد نتائج هذه الظواهر وضَحاياها وما تحدِثه مِن تخريب وتدمير للمَرأة تحديداً وللمُجتمع بشَكل عام. هي تمَثل مَحَطة مُهمّة في مَسيرة سنان الفنية المُمَيّزة، وإضافة جديدة ونوعية لمَسيرة أسماء خصوصاً في مَجال المَسرح، وعَلامة بارزة جَديدة تضاف للسجل الإبداعي للفنانة الرائدة هناء محمد التي عَوّدتنا على تأدية أدوارها بإقتدار وبَراعة وتلقائية النجوم الكبار. عَمَل بَسيط بقصّته لكنه عَميق بفكرته التي نجَح سنان في مُعالجتها إنسانياً وجَمع فيها بحرفية بَين الواقعية والتجريب، وكان خلاقا بعَمَل الديكور والسنوغرافيا ليَخرُج العَمل مُتكامِلاً ولتصِل الفكرة بوضوح الى عَقل المُشاهد وهو أمر نجَح فيه فريق عَمَل المَسرحية بإمتياز.
العمل رائع مِن جَوانب عديدة، رائع كونه عَودة نتمنى أن تستمر وتتواصَل الى زمَن المَسرَح الجَميل الجاد والهادف، ورائع كونه يُمَثل عُصارة جُهد شبابي لسنان وأسماء مُضافاً له خِبرة هناء محمد، ورائع لأنه مُبتكر بطريقة عَرضِه للفكرة وبطريقة إخراجَها، ورائع بجُرأته في مُحاولة تشخيص إشكاليات ونكأ جراح المُجتمع العراقي مُحاولا مُعالجَتها بجُهد خيّر بَسيط مَشكور قد يَنجح في مَسعاه يوماً ما إذا تظافرت مَعَه مَجموعة أخرى مِن الجُهود.