18 ديسمبر، 2024 8:42 م

لعنة الذهب ألأسود-14

لعنة الذهب ألأسود-14

بعد إنقضاء عام على إستقرار عائلتي في بغداد أنهيت خدمتي العسكرية الإلزامية والتي استغرقت اثنان وعشرون شهرا وتسرحت من الجيش.

كنت ارغب بممارسة مهنتي كمهندس معماري في القطاع الخاص او التعيين في إحدى الدوائر الهندسية في مدينة الذهب الأسود، ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن احيانا، فقد صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بتعيين جميع الضباط المهندسين المتسرحين من الجيش في دوائر الدولة وذلك لسد إحتياجات هذه الدوائر من الكادر الهندسي وحسب تنسيب وزارة التخطيط وبصورة إجبارية وقضت التعليمات الصادرة بهذا الخصوص بتعقب ومعاقبة المتخلفين عن تطبيق القرار.

تم تعييني بموجب القرار في وزارة الإسكان والتعمير التي نسبتني إلى العمل في إحدى دوائرها التصميمية ، وكان المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية من نصيبي.

بعد تمردي على قرار التعيين لفترة وجيزة تيقنت بأنّه لا مناص لي من الإذعان للأمر الواقع لأنّ بعض الزملاء المهندسين الذين تمردوا على قرارات التعيين ولم يلتحقوا بدوائرهم قد تم إعتقالهم من قبل السلطات الأمنية وتم الإفراج عنهم بشرط الإلتحاق بالوظيفة بعد أخذ الضمانات اللازمة.

في صبيحة إحدى ايام شهر تموز من عام 1977 توجهت إلى مقر عملي الجديد وقد خامرني إحساس بأنّي مقبل على منعطف جديد في حياتي العملية، كان شعوري مزيجا من القلق الذي ينتابني عند الإقدام على المجهول والفخر لأنّي صرت موظفا مهما في جهاز الدولة، وكنت أتساءل وأنا في الطريق عن طبيعة عملي هناك وكيفية التعامل مع الرؤساء والمرؤوسين، فالوظيفة الحكومية كما كنت أتصورها غابة علي إختراقها وخوض الصراع الدائر فيها حيث البقاء للأقوى والأصلح والأذكى.

لكن الصورة التي كانت في مخيلتي للحياة الوظيفية تبدلت بعد فترة من مزاولتي للعمل في دائرتي الجديدة، حيث كان الزملاء المهندسون متعاونين وكان الكادر العامل في مقر عملي من النخبة الممتازة إضافة إلى أنّ جو العمل كان مماثلا لجو العمل في المكاتب الهندسية الإستشارية التي عملت فيها اثناء الدراسة.

كان رئيس قسم العمارة والتخطيط في المركز الأستاذ هنري زفوبودا احد اساتذتي المتميزين في القسم المعماري من كلية الهندسة، وهو مهندس معماري عراقي وأحد أحفاد عـائـلـة زفـوبـودا الـبـغـداديـة الّـتي بـدأت بـوصـول الـتّـاجـر الـمـجـري أنـطـون زفـوبـودا Antone Svodoba إلى بـغـداد في بـدايـة الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر، وإقـامـتـه فـيـهـا مـتـاجـراً بـالـكـريـسـتـال الـمـسـتـورد مـن بـوهـيـمـيـا وبـبـضـائـع أخـرى مـن أوربـا. وقـد تـزوّج أنـطـون في 1825 بـبـغـداديـة مـسـيـحـيـة مـن عـائـلـة أرمـنـيـة، وأنـجـب مـنـهـا أحـد عـشـر ولـداً وبـنـتـاً. رحب الأستاذ هنري بي ترحيبا حارا ووجهني خلال فترة عملي في قسمه إلى اسلوب العمل الهندسي الإستشاري بصورته المثالية وكان قدوة لي ولجميع المهندسين المعماريين العاملين في المركز.

كان قرار تأسيس هذا المركز الأستشاري الهندسي الحكومي يهدف إلى خلق مكتب حكومي رائد في تقديم الخدمات الهندسية وإلى خلق كوادر وطنية تستطيع ان تقود في المستقبل العملية الإستشارية في القطر.

لقد رسخت السنوات اللاحقة من ممارسة الحياة الوظيفية في هذا المركز من قناعتي بأنّي بدأت بممارسة مهنتي في المكان الملائم بالرغم من دخله المحدود.

إنّ الهيكل الإداري والفني للمركزالمتضمن لأقسام متكاملة للعمل الهندسي من جميع الإختصاصات كالتصاميم المعمارية والإنشائية والكهربائية والميكانيكية مكنتني من إستيعاب والدخول في خضم العمل الإستشاري الهندسي بصورته المثالية ووضعتني على الدرجات الاولى من سلم الصعود والإبداع في حقل إختصاصي.

بعد تكليفي من قبل رئيس القسم بإكمال التصاميم النموذجية لدوائر الإحصاء في المحافظات العراقية وتصميم خاص لدائرة إحصاء محافظة نينوى والإشراف على تنفيذ هذه المشاريع، بالإضافة لتصميم دائرة إحصاء للعاصمة بغداد ، انجزت المهمة الموكلة لي بكفاءة وتم توجيه كتاب شكر لي من قبل مجلس الإدارة مع صرف مكافأة تقديرا لكفاءتي وجهودي في إنجاز تلك المشاريع.

بعد هذه المرحلة دخل المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية في مرحلة جديدة نتيجة للإزدهار الإقتصادي التي تلا إنتصار تأميم النفط والبدء بالخطة الإنفجارية للتنمية القومية، حيث ازداد عدد المشاريع الحكومية التي تم تكليفنا بإعداد الدراسات والتصاميم التفصيلية لها زيادة مفاجئة وكبيرة ونتيجة لذلك ازداد عدد الكادر الهندسي في المركز زيادة ملحوظة فبعد ان كان عدد المهندسين المعماريين عند تعييني ستة مهندسين قفز العدد ليصبح خمس وعشرون مهندسا معماريا.

من المشاريع التي تم إعداد تصاميمها والإشراف على تنفيذها، تصاميم ابنية الوزارات كوزارات النقل والمواصلات والصحة والشباب، وكذلك تم التعاقد مع الشركات الأجنبية لتنفيذ هذه المشاريع وتقديم الخدمات الاستشارية لها.

من ضمن المشاريع التي تم تدقيق تصاميمها وتقديم الخدمات الاستشارية لها مشروع جامعة الرشيد ومشروع ساحة إحتفالات الكبرى في بغداد.

في تلك الفترة تم تكليفي من قبل رئيس القسم المعماري بتصميم مبنى الأقسام الداخلية لطلبة جامعة البصرة وبعد إنجازها تم تكليفي بإعداد تصاميم بناية اتحاد مجالس البحث العلمي العربية التابعة لجامعة الدول العربية في جانب الكرخ في منطقة علاوي الحلة، وقد تم تنفيذ المشروع من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية بمشاركة شركة فودو اليابانية.

يتبع