لا بد من الاعتراف بأن الفكر القومي تراجع في مستهل القرن الحادي والعشرين، وانحسرت الأضواء عنه بقوة. وبدأت الأحزاب التابعة له تضمحل يوماً بعد يوم، وتخسر جمهورها ساعة بعد ساعة.
إن نظرة واحدة إلى الأحزاب القومية في روسيا وألمانيا وفرنسا وتركيا وإيران .. كافية للبرهنة على صحة هذه الفكرة، رغم أن كل هذه الدول نشأت على أساس قومي. وجميعها ناضلت في وقت من الأوقات للفوز بكيان قائم على أساس الهوية الأم.
غير أن هذا لا يعني أن الفكرة القومية ماتت تماماً، أو أنها انتهت عملياً. كل ما في الأمر أنها لم تعد أساساً للعمل السياسي، بعد أن استقرت الدولة وغدت حقيقة واقعة. أي أن الأيديولوجيا القومية أنهت مهمتها بنجاح في تثبيت أركان الدولة، وتأكيد شخصيتها المستقلة. لكنها لن تتوانى عن العودة من جديد إذا ما تعرضت هذه الدولة للاهتزاز.
وفي البلاد العربية ماتزال الأخطار تحيق بالعديد من الكيانات القوية مثل العراق وسوريا وشمال أفريقيا، بعد أن اندلعت أعمال عنف أهلية فيها. فهي جميعاً مهددة بالتقسيم لوجود قوميات فرعية، تحاول النأي بنفسها عن الدولة، ولاختفاء الأحزاب العروبية أو تضاؤل دورها، فيها. وقد أصرت هذه الأقليات على استبعاد فكرة العروبة من الدستور، ومنعت استخدام العربية في مناطقها الخاصة.
وللأمانة فإن الأحزاب الإسلامية أبدت تعاطفاً واضحاً مع الفكرة القومية رغم أنها لم تعلن عن ذلك صراحة. فالفكر الديني العابر للحدود والقوميات والأعراق، لا يعني التنازل عن الوطن للغير حتى لو كان يحمل ذات العقيدة. وفي التأريخ أمثلة كثيرة على النزاعات الحدودية بين الإمارات الإسلامية.
بل إن بعض الدول الإسلامية الآن تتهم بأنها دول قومية ، لأنها تعمل على تحديث شعوبها، وتطوير قواها الأمنية، وإنضاج تجربتها الخاصة. مع أنها استبعدت الأيديولوجيا القومية منذ سنوات طويلة واستبدلتها بأخرى دينية. فقيام دولة قوية تحت أي مسمى يعني لدى الآخرين المحيطين بها كياناً قومياً صرفاً.
إن الالتزام بقومية الدولة هو الشرط الأهم في بقائها موحدة. ومن العبث التلاعب بهذه الحقيقة بسبب فشل الأحزاب القومية في بناء كيان عصري متقدم، أو امتلاك بعضها نزعة استبدادية. فهذا شئ والانتماء القومي شئ آخر. وستظل جميع الدول تحمل سمة قومية حتى لو اعتنقت أيديولوجيا أممية، فالتفكير لا يلغي الفطرة السليمة مهما كان.