هناك تجارب متشابهة من حيث المشاكل الداخلية، والحروب الخارجية، التي مرت بها بعض الدول، وقد تكون مختلفة من حيث المخرجات والنهوض، ولدينا في هذه الورقة التجربة الألمانية، والتجربة العراقية، حيث أنهما يتقاربان إذ سادت المأساة ونهج الاستعلاء والحكم الاستبدادي في فترة ما قبل نهوض ألمانيا، صحيح أن ألمانيا تعد دولة موازية بالقياس إلى الجوار الجغرافي حيث أنها تعد قوة تمتلك مقومات الحضارة والقوة توازي فرنسا وحتى النمسا وسويسرا، وأحيانا متفوقة على دول جارة أخرى كبولندا وبلجيكا وهولندا، أما العراق صاحب الحضارة العريقة أصبح في العصر الحديث واقع بين دول إقليمية تمتلك مقومات الهيمنة والسيطرة والنفوذ، ومن المعلوم أن العراق ما قبل الأزمات التي شهدها بعد الحكم الجمهوري خاصة البعثي منه كان بلد يشهد استقرار سياسي، وديمقراطية متعثرة، وتقدم في مجال الاقتصاد والتعليم والصحة عندما كان تحت الانتداب البريطاني، في الوقت الذي كانت ألمانيا بلد يسعى إلى اكتساح أوروبا عبر ثلاثة حروب بدأت منذ الحروب الدينية، ثم الحرب العالمية الأولى، وبعدها الحرب العالمية الثانية التي أدت بهتلر مستشار ألمانيا إلى الهزيمة على يد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لاعتداده بنفسه وقوميته العالية التي لطالما تسببت للألمان كشعب بأزمات كارثية، وعزلته عن أوروبا وجعلت الأمم تتكالب عليه مرارا، وتتصيد له المكائد وفرص الانتقام، من حُسن حظ الألمان، أن أمريكا ربما قد خافت من ثأر ألماني قادم، أو أرادت أن تعول على العامل الاقتصادي بدل العسكري، ولذلك غيّرت كُل سياستها لتبدأ المساعدات الأمريكية تتدفق على غرب أوروبا، التي وصلت إلى 13 مليار دولار، وذلك بموجب برنامج التعافي الأوروبي الذي أشتهر باسم خطة المارشال، رافق ذلك خطة إستراتيجية النهوض بألمانيا إعتمدت العوامل الآتية:
أولاً: التعلم من الدروس
كانت الحرب العالمية الثانية، هي بداية لحقبة جديدة في العالم بأكمله، ففي نهاية هذه الحرب ظهرت القوى العظمى الجديدة وهي: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي. وبداية الحرب الباردة، بالإضافة إلى تدمير بعض القوى العظمى في العالم والتي كان على رأسها ألمانيا واليابان اللتين أصيبتا بأبشع أنواع الخسائر والدّمار بعد هذه الحرب. واللتان رغم الخسارة الكبيرة والتدمير لمدن كاملة فيهما، ولكنهما نهضتا من تحت الحطام والأنقاض لتعودا إلى قمة الدول في العالم بأسره في شتى المجالات المختلفة، ففي ما يخص ألمانيا رغم انقسامها بصورة تامة إلى ألمانيا الشرقية والتي عرفت بالجمهورية الألمانية الديمقراطية التي تتبع النظام الشيوعي السوفيتي، والغربية والتي عرفت بجمهورية ألمانيا الاتحادية والتي كانت تتبع النظام الرأسمالي الأمريكي، لما أراد الحلفاء المنتصرون على ألمانيا تغيير مسار ألمانيا الغربية سعوا إلى بناءها اقتصاديا وصناعيا وتعيش الاستقرار السياسي والعدالة الاجتماعية، وتعيش بسلام مع أعدائها وأصدقائها القريبين والبعدين، الأمر الثاني عمل الألمان وبدعم وتخطيط من قبل الحليف الجديد مراجعة لكل الأحداث والحروب التي شهدتها ألمانيا لغرض تجاوزها في المرحلة القادمة، وهذا ما تم بالفعل حيث اتجه الألمان في اتجاهين:
الأول يقضي بإنهاء الإيديولوجيات القومية التي تعمل على إثارة الألمان خاصة في مرحلة حكم هتلر كألمانيا فوق الجميع، وألمانيا سيدة أوروبا، وعلموا أيضا على تقنين الحياة السياسية والحزبية من خلال الدستور والقوانين، كما قضى الأمر تداعيات الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية نهائيا، ومن أجل التعجيل في تنفيذ خططهم الرامية إلى تأسيس دولة في الجزء الغربي في ظل رعايتهم العسكرية، عمد حكام الأقاليم الغربية من دول الحلفاء إلى منح رؤساء الوزراء الألمان في الغرب صلاحيات تتضمن مهمات محددة. هذه الصلاحيات اشتهرت فيما بعد باسم (وثائق فرانكفورت). وقد نصت الوثيقة الأولى والأهم على تنظيم اجتماع يتمخض عن الدعوة إلى وضع دستور فيدرالي ديمقراطي، فيما كان القسم الشرقي تحت النفوذ الروسي، وبعد التقارب في أوائل السبعينات مع علاقات قادها المستشار فيلي برانت، والتي تضمنت قبول الأمر الواقع من خسائر في ألمانيا الإقليمية في الحرب العالمية الثانية واعتراف بجمهورية ألمانيا الموحدة كان ذلك مباشرة مع نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الأمريكي والسوفيتي وانهيار جدار برلين الذي بني في عام 1961 لمنع الألمان الشرقيين من الهرب إلى ألمانيا الغربية، أصبح رمزاً من رموز الحرب الباردة، وعندما هزم السوفيت بهذه الحرب التي لم تشهد أي عمل عسكري توحدت ألمانيا وتوحدت معها الرؤية المتطورة والحيادية.
من هنا، نرى أن ألمانيا من ذلك الحين وإلى اليوم لم تدخل حربا حتى عندما ضغط جورج بوش عليها من أجل المشاركة في التحالف الدولي في احتلال العراق في بداية عام 2003 رفضت ألمانيا وفضلوا البقاء على الحياد، رغم أن ذلك قد لا يؤثر على التقدم الذي تشهده ألمانيا وأمنها القومي.
ثانياً: الدستور
في آيار 1949 تم إعلان القانون الأساسي كدستور لألمانيا وكان هذا القانون دستوراً انتقالياً لحين إعادة توحيد شطري ألمانيا. الدستور الذي تحققت في ظله نجاحات نادرة أصبح مصدر إلهام لدساتير دول عديدة. يحتوي على 146 ويعد بالنسبة للظروف التي وضع فيها تعبيرا عن مبادئ الحكم والحياة السياسية الوطنية في ألمانيا الجديدة، ويعرفها بأنها دولة اتحادية ديمقراطية اجتماعية، تسود فيها قيم الكرامة الإنسانية والحرية الشخصية والمساواة أمام القانون، بغض النظر عن العرق أو الأصل أو اللغة أو الديانة.
من جانب آخر، أخذ الدستور باللامركزية لسلطة الدولة، يُخضع الدستور نفوذ الدولة لسيطرة محكمة من خلال مبدأ تقاسم السلطات، إذ لا يجب على الإطلاق أن يحكم طاغية ألمانيا مرة أخرى، ويشير الباحثين إلى أن ألمانيا من خلال الدستور، استقت ألمانيا دروسها من كارثة (الرايخ الثالث)، وهي فترة دكتاتورية الحزب القومي الاشتراكي بزعامة أدولف هتلر بين عامي 1933 و1945. خلال تلك الفترة، قتل الملايين من البشر جراء الحرب العالمية الثانية التي أشعلتها ألمانيا. كما قتل الكثير من الناس لأسباب دينية أو قومية. وبالنسبة لشكل الدولة، فقد تم إنشاء دولة فيدرالية ذات ثلاثة مستويات: الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات تتشاطر النفوذ السياسي، وفيما تترك الولايات للحكومة الفيدرالية صلاحيات مركزية، إلا أنها تساهم في صياغة القوانين. لكن في أوجه أخرى، تقوم الولايات بصياغة قوانينها بمفردها. اما المستوى الثالث والأدنى فهو البلديات، وتم إقامة عدد من الحواجز في وجه التيارات المتطرفة والمناوئة للديمقراطية، إذ يتيح مبدأ (تحصين الديمقراطية) فرض حظر على الأحزاب المناوئة للدستور. فعلى سبيل المثال، تم حظر (حزب الرايخ الاشتراكي) النازي عام 1952، فيما حظر الحزب الشيوعي في ألمانيا عام 1956. إضافة إلى ذلك، لا يمكن لأي حزب أن يدخل البرلمان (البوندستاغ)، حتى يتجاوز حاجز الخمسة في المائة من نسبة أصوات الناخبين. تم إقرار هذه القاعدة من أجل منح الاستقرار للبرلمان.
والجدير بالذكر، أن القانون الأساس تحول في تشرين الأول عام 1990، بعد توحيد شطري ألمانيا وإنشاء الجمهورية الاتحادية. تحويل إلى دستور شامل لكل أنحاء ألمانيا، وعليه بُني النظام الديمقراطي الضامن للحريات في البلاد.
ثالثاً: الدبلوماسية
تبنت ألمانيا سياسة خارجية مختلفة عن تلك السياسات القائمة أبان سيطرة هتلر قبل الحرب العالمية الثانية، إذ من سمات هذه الدبلوماسية الحرب والعداء للجوار الألماني وخلُصت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى أنها لن تعيد الكرة أبدا أي أنها لا ترفض فقط الدخول في حرب أو مجازر مرة أخرى، بل ترفض أيضاً أن تكون قوة عظمى مرة جديدة. لا عودة لسياسات عالمية مرة أخرى بالمعنى أنها لا تؤمن بالقطبية الواحدة وربما هذا ما يفسر خلافها في العقود الأخيرة مع حليفها الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن الدبلوماسية الألمانية ما بعد الحرب قائمة على أساس السلام والتفاهم مع النظام الدولي لاسيما دول الجوار الجغرافي خاصة فرنسا حيث أدرك الألمان أنهم لا يمكنهم إذا ما أرادوا الاستمرار في تبنى خيار الدولة الاقتصادية الحديثة، أما نزعة العظمة والتسلط وفرض الإرادات على دول الجوار فهذا لا يجلب سوى المصائب لها ولجوارها.
رابعاً: إعادة إعمار المؤسسات الصناعية
بدأت عملية إعمار ألمانيا بمشروع مارشال (خطة إعادة تشكيل الأموال وقع إدارتها بشكل أساسي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية) والذي قام الجنرال الأمريكي جورج مارشال بوضعه لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد قامت أمريكا بدعم أوروبا بحوالي 13 مليار دولار أمريكي، أي ما يقارب 130 مليار دولار أمريكي حالياً لإنعاش أوروبا بشكل عام وألمانيا واليابان بشكل خاص، وبدأت ألمانيا في بناء المصانع والمعامل وتشغيل كافة المؤسسات الصناعية، قد شملت عدّة مجالات من بينها صناعة السيارات، الكيمياء، الصناعات الميكانيكية والإلكترونية شيئاً فشيئاً وببطء بإستعادة قوتها، فقد قامت برفع مستوى المعيشة للشعب الألماني وتصدير البضائع المحلية إلى الخارج، والتقليل من مستويات البطالة وزيادة إنتاج الغذاء المحلي، والتقليل من السوق السوداء أيضاً، وأمّا السبب الرئيسي الآخر وراء النهضة الألمانيّة بعد الحرب العالمية الثانية فهو الثورة الصناعية التي حصلت في ألمانيا في شتى المجالات وخاصةً في الصناعات الثقيلة؛ إذ تحتلّ ألمانيا بفضل تلك الثورة الريادة في العديد من الصناعات المختلفة على مستوى العام في الوقت الحالي، وساعد دخولها إلى التعاون الأوروبي مثلا في مجال الطيران عبر شركة إيرباص في الإبقاء على ألمانيا من بين أبرز الإقتصاديات العالمية، ومع كل ما سبق نهضت ألمانيا، ولم يكن الهدف مجرد رغبة في التقدم والرفاهية فقط، بل أيضا نوعا من رد الكرامة والاعتبار، وهو ما بدأ على يد (لودفيج إرهارد) الملقب بـ(أب المعجزة الاقتصادية الألمانية)، حين شعر منذ عام 1944 بحتمية خروج ألمانيا مهزومة من الحرب فكتب مذكرة بعنوان (تمويل ديون الحرب وإعادة هيكلتها) شملت رؤيته عن كيفية إعادة بناء الاقتصاد الألماني على أساس فكرة (السوق الاجتماعي) التي تقوم على حرية السوق مع الاهتمام بالتوازن الاجتماعي، ليطبق سياسته فور انتهاء الحرب كوزير لاقتصاد مقاطعة بافاريا ثم بعد تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 كوزير لاقتصاد أول حكومة برئاسة كونراد أديناور.
يتأتى هذا التقدم في المجال الاقتصادي بعد عدة فرضيات تقول ما يجب أن تكون عليه ألمانيا بعد الحرب؟، فقد كان ايزنهاور يؤيد خطة مورجنتاو بقوة بتُحول ألمانيا إلى بلد زراعي، يعتمد بالدرجة الأساسية على الزراعة مصدر دخل مع استئصال كُل ما له علاقة بالصناعة فيها حتى يكون الألمان مشغولين وبعيدين عن العناصر التي من الممكن أن تقدمها الصناعة، وبالتالي تجعلها في ذات النفق السابق لكن انتصر العامل الاقتصادي بشتى مجالاته لاسيما الصناعة ووضع ألمانيا في الاتجاه الذي أريد لها بعد الحرب.
خامساً: عودة المهاجرين إلى ألمانيا
قبل الحرب العالمية الثانية هاجر الكثير من الألمان باتجاه بلدان أخرى، وكان أكثر من 12 مليون ألماني نازح. وكان معظمهم يعيشون في الأجزاء الشرقية من ألمانيا التي كانت تحت سيطرة القوات الروسية. بعد الحرب العالمية الثانية، تم إعادة رسم الخريطة الأوروبية بشكل دائم، وفقدت ألمانيا العديد من الأراضي في الشرق والتي كانت موضع نزاع منذ فترة طويلة.
شرق روسيا، على سبيل المثال، أصبحت جزءاً من روسيا وبولندا وليتوانيا، وسيليزيا أصبحت جزءاً من بولندا وجمهورية التشيك. بين عامي 1949 و 1961، غادر 2.7 مليون شخص ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية. وفي عام 1961، أغلقت ألمانيا الشرقية الحدود مع الغربية لمنع الناس من الرحيل، ولذلك بنت جدار برلين. وعلى الرغم من أن عبور الجدار كان صعباً جداً وغير قانونيّ، إلا أن عشرات الآلاف تمكّنوا من عبور الجدار في برلين وحدها بين عام 1961 وسقوط الجدار في عام 1989. وفقًا لمنظمات دولية انتقل أكثر من 700 ألف شخص من ألمانيا الشرقية إلى الغربية بين عامي 1961 و1989، وكثيرون منهم بشكل غير قانوني.
ولهذا السبب وغيره، فقد أصبحت الكثافة السكانية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ضعف ما كانت عليه قبل بدء الحرب. لكن بعد المباشرة بمشروع مارشال وتطوير ألمانيا الغربية دعت الحكومة الألمانية النخب بالعودة إلى ألمانيا مقدمة تسهيلات كبيرة ووفق خطط مدروسة للاستفادة منهم في تطوير الاقتصاد، والبنى التحتية والمؤسساتية، وساعدت فترة الازدهار هذه على توطين وإندماج حوالي 8 ملايين مُهجر من المناطق الشرقية التي رُحّلوا عنها بعد الحرب.
سادساً: الوحدة الألمانية وتحقيق العدالة الاجتماعية
توحدت ألمانيا بعد التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي ورغبة شعب ألمانيا الشرقية بالانضمام بعد سنوات من العزلة، ففي أواخر عام 1989 حيث إنتهت الحرب الباردة اقترح المستشار هملت كول مشروعا من 10 نقاط لإقامة الكونفدرالية الألمانية يؤدي في نهاية الأمر إلى توحيد الألمانيتين وفي عام 1990 إنهارت الحكومة في ألمانيا الشرقية التي كان يتزعمها الحزب الشيوعي وأعلن رئيس الحكومة الشرقية مودرو عن اقتراحات لتخطى انقسامات الأمة الألمانية وذلك عن طريق إقامة ألمانيا موحدة ومحايدة وقد وافقت ألمانيا الغربية على هذه المقترحات ودعت لمفاوضات مباشرة حول الوحدة الاقتصادية والنقدية، ومنذ ذلك بداية ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الشعب الألماني المورد الأساسي والأول للاقتصاد الألماني فالشعب الألماني يعتز بلغته وتاريخه وجنسه، لا يمكن أن تتحدث في ألمانيا مع أي ألماني غير اللغة الألمانية حتى لو كان يتحدث لغات أخرى، وهذه الوحدة قائمة على أساس العدالة الاجتماعية دون أي فارق بسبب الدين أو المنطقة أو أي سبب سياسي أو عرقي وهو مبدأ ضمنه الدستور الألماني ذاته الذي تنص المادة الثانية فيه بوضوح على صون كرامة الإنسان وحقوقه. والجميع يتحدث هنا كما في الدول الأوروبية الغربية عن (السوق الاقتصادية الاجتماعية) المختلفة عن (اقتصاد السوق الرأسمالي) الذي يرفض تدخل الدولة في مساره.
وفي ضوء ما تقدم، يمكن وصف التجربة الألمانية بأنها نجحت في تحدي عدد من العقبات وهذا النجاح جعل ألمانيا في مصاف الدول الكبرى من الناحية الصناعية والعسكرية والاقتصادية ولها إستراتيجية واضحة في التعامل مع القضايا الدولية وحتى مع الإتحاد الأوروبي التي هي أحد أعمدته الرئيسية وقوة أساسية في تحالفه العسكري (الناتو)، وهذا النجاح في التجربة الألمانية جعل منا نطرح تساؤل لماذا نجحت هذه التجربة وتجارب أخرى كالتجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية وفشلت تجارب مقاربة للمشاكل التي مرت بها ألمانيا؟، ومنها العراق لاسيما وهو لم يخض حرباً عالمية بالمستوى الذي خاضته ألمانيا أو اليابان، وقد تعود فشل التجربة التقدم في العراق خاصة بعد التغيير النظام الاستبدادي إلى المسببات الآتية:
1- صمم الدستور والقوانين الضابطة بطريقة المكونات الطائفية والعرقية التي تدير النظام السياسي ومؤسسات الدولة ما بعد سقوط النظام الاستبدادي بقيادة صدام حسين على يد ذات الدولة التي سقط بها النظام النازي بقيادة هتلر، وكل طرف مكوناتي أراد من خلال الدستور أن يضمن حق دويلته في إطار الدولة الواحدة وهذا أنسحب على إدارة الدولة بكل مؤسساتها العليا والدنيا وجعل من مرؤوسيها يحققون مصالحهم الفئوية.
2- لم يكن للدولة العراقية بعد تغيير النظام الاستبدادي دبلوماسية واضحة ومحددة في التعامل مع القوى الدولية والإقليمية لاسيما مع القوى المتخاصمة مع بعضها البعض على الصعيد الدولي والإقليمي.
3- لم تتبنى الدولة المحتلة للعراق أي خطة إستراتيجية لإعادة تأهيل وبناء مؤسسات الدولة وبنيتها التحتية، وشجعت بعض الحالات السلبية في إدارة الدولة كالمحاصصة.
4- أخطأت السلطات العراقية لاسيما وزارة النفط في استثمار الملف النفطي العراقي من قبل كبرى الشركات العالمية وكان لو أدخلت بنود أخرى في عقود الاستثمار تقضي ببناء المصانع أو البنى التحتية لكان الأمر الآن مختلف كليا في تحول الاقتصاد العراقي من الريعي الأحادي الجانب إلى الاقتصاد المتنوع، إلى جانب تطور في ملف السكن والبنى التحتية الحديثة، حيث أن الاقتصاد الريعي لا يساهم إلا سد حاجيات الموازنة التشغيلية.
5- كما أن هناك مشاكل رافقت التجربة العراقية بعد التغيير ولا تزال مستمرة وهي كانت سبباً في الانسداد السياسي الذي يشهده البلد كالفساد، والمحاصصة، والولاءات الخارجية، وتنامي النزعات الدينية المتطرفة كالإرهاب، ومشاكل في الاندماج الوطني والنزعة القبلية، وتحقيق العدالة الاجتماعية وارتفاع الفوارق الاجتماعية، لحسابات سياسية قد استفادت منها كل الأطراف السياسية من جميع المكونات على أساس الشعب.
وأخيراً، إذا أراد العراقيون النهوض بتجربتهم في بناء الدولة ما عليهم إلا حل الإشكاليات من الملفات الشائكة المذكورة، والسعي إلى الاستفادة من التجارب العالمية في الاستثمار وبناء المدن والمنشآت والقطاع الاقتصادي والزراعي، لاسيما وأن العراق غني في المصادر النفطية والصناعية والزراعية التي تؤهله بصورة سريعة في النمو والتطور في شتى المجالات.