منذ عشرة أيّام والشارع العراقيّ لا يعرف الهدوء، وأرصفة غالبيّة المدن طُليت بدماء الشهداء، وضجّت الأرجاء بصرخات المتظاهرين الغاضبين، والجرحى، ودعوات الأمّهات، وبضجيج الرصاص الحيّ المعلوم المصدر والمجهول، والذي قتل العراقيّين في وضح النهار!
المسؤول، أيّ مسؤول، حينما لا يضبط عمله دين، أيّ دين، أو قانون، أو ضمير لاشك أنّه سيكون ساعتها كأداة تخريبيّة تدميريّة للدولة، أو الموقع الذي يتسلّمه!
مظاهرات العراق السلميّة المستمرّة منذ عشرة أيّام، والمعتّم عليها بقطع الانترنيت وترهيب الفضائيّات، والصحافة، واجهتها حكومة عادل عبد المهدي بقسوة لم تكن متوقّعة!
وخلال اجتماع مجلس الوزراء يوم الأحد الماضي قال المهدي إنّهم كانوا في حالة الاضطرار للقسوة، وكانوا بين أن يكونوا مع الدولة، أو اللا دولة، وبين النظام، أو الفوضى!
ولا ندري هل الذي يقتل الأبرياء العزل سيقود البلاد إلى طريق بناء الدولة والنظام، أم إلى دهاليز الفوضى والخراب؟
الفشل الحكوميّ في التعامل العقلانيّ مع شباب العراق المتظاهرين جعل شوارع البلاد تمتلئ بالكراهية، وصار الكلّ يُطارد الكلّ!
المواطن بمطالباته المشروعة والمعقولة يُطارد الحكومة!
وقوّات مكافحة الإرهاب، ومعها الجيش والشرطة والاستخبارات والحشد الشعبيّ جميعهم، يُطاردون المواطن لدفعه للصمت!
وفي لحظات الخوف من الموت والاعتقال تُطارد عيون المتظاهرين مسار الموت بأسلحة لقوّات يفترض أنّها (عراقيّة)!
وبالمحصّلة الكلّ يطارد الكلّ!
في السابق كانوا يتّهمون المظاهرات التي تخرج في مدن الشمال، أو الشرق بأنّها مظاهرات “بَعْثيّة، وإرهابيّة”، ومظاهرات اليوم غالبيّها (شيعيّة) أصيلة، ورغم ذلك بدأنا نسمع بعض الاتّهامات لها!
ما يجري، في العراق، وبلا خلاف، هي ثورة شعبيّة عفويّة، بدليل أنّ رئيس حكومة بغداد أكدّ لمجلس الوزراء أنّهم” حينما طلبوا حضور قيادات المظاهرات لم يكن هنالك قيادات لهذه المظاهرات”؛ وهذا يؤكّد عفويّتها وشعبيّتها.
الثورة ليست دعوة للفوضى، وإنّما هي خطوة اضطراريّة لبداية مرحلة جديدة، ولترتيب أفضل يمكن معه أن نضمن الرفاهية والسعادة والأمان للوطن والمواطن، ولهذا منْ يسعى لطعن المظاهرات باتّهامات باطلة، وبالذات مع مرحلة القنص والقتل العمد، أرى أنّ هذه المساعي (مليئة بالحقد والكراهية) ليس على المتظاهرين فحسب، بل على العراق بكلّ طوائفه وأعراقه!
القوّة الحكوميّة المُفرطة والمُميتة ضد المتظاهرين لا يمكن تبريرها على الرغم من محاولة الحكومة القول إنّ هنالك قوى إرهابيّة هي التي قتلت المتظاهرين، وحتّى لو سلّمنا لهذه الفرضيّة نقول:
يمكننا تقبّل مقتل خمسة، أو حتى (30) من المتظاهرين برصاص (الغُرباء)، فمنْ الذي قتل بقيّة الـ(165)، وجرح أكثر من (6100) بحسب وزارة الصحّة العراقيّة؟
ثمّ أين دور الحكومة في وجوب حماية المواطنين؟
العلاقة بين الدولة والمواطن تصل إلى مرحلة الخراب حينما يكون العلاج الرسميّ لاعتراضات الناس ومشاكلهم باستخدام العصا ولغة الترهيب والدم!
حكومة بغداد الآن في مأزق حقيقي لا يمكنها أن تخرج منه بسهولة ذلك لأنّه في الأدبيات العسكريّة لا يمكن لأيّ عسكري أن يطلق رصاصة واحدة دون أوامر القائد الأعلى، وعليه أتصوّر أنّ القائد العامّ للقوّات المسلّحة ورئيس الوزراء هو المسؤول مسؤوليّة مباشرة عن دماء شباب العراق الذين قتلوا، وهنا يأتي دور البرلمان في ضرورة مساءلة رئيس الوزراء عن الشخص الذي أصدر الأوامر بضرب المتظاهرين، وإلا فإنّ كلّ الإجراءات الحكوميّة هي إجراءات ثانويّة، لأنّ أرواح المواطنين وسلامتهم أهم وأكبر من كلّ الإصلاحات، أو القرارات الترقيعيّة!
الحلول الحكوميّة والزاعمة بتوفير (450) ألف فرصة عمل للعاطلين، غير ممكنة التطبيق لأنّ غالبيّة المشاريع الحكوميّة مشلولة، وهنالك عجز في الموازنة يتجاوز ألـ (60) مليار دولار، فكيف ستتمكّن الحكومة من الوفاء بتعهّداتها؟
الاستغراب الأكبر والسؤال الأبرز هو: إذا كانت حكومة المهدي قادرة على ترتيب هذه الحزمة من القرارات العاجلة، وهذا الكمّ الهائل من الوظائف، والمنح، والأراضي المجّانيّة، فلماذا لم تطبّقها قبل المظاهرات؟
حكومة بغداد تجاوزت كلّ الخطوط الحمراء، وأدخلت البلاد في فوضى عارمة لا ندري عند أيّ نقطة ستقف ارتداداتها!