ألقت المظاهرات بظلالها القاتمة على الحياة اليومية للإنسان العراقي في ظل حظر تجوال وانقطاع خدمة الانترنيت . فعاد التلفزيون سيد الموقف ببرامجه المملة والمفروضة علينا رغم مئات القنوات الفضائية التي لم تعد قادرة على الاستحواذ على وقت العائلة التي امست غارقة في العالم الافتراضي ، ووجدت في مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب وغيرها من المواقع الالكترونية ضالتها المنشودة .
ولكنني ارتأيت من موقع ادنى ان اتابع المظاهرات تلفازيا ( وهذا اضعف الايمان ) على بعض الفضائيات التي خرقت عادة معظم الفضائيات العراقية التي التزمت الصمت تجاه الغليان الجماهيري بسبب تابعيتها المقيتة للاحزاب وبعض السياسيين والتي تجاهلت عن قصد هذا الحدث الكبير والاقوى على الساحة العراقية . ولكن بعض الفضائيات التي بثت رسالة المتظاهرين عوقبت من قبل جهات لم ترض بصرخة الحق .
صور المظاهرات الحالية اختلفت عن كل المظاهرات التي حدثت في السابق بسبب اختلاف الرؤيا والحدث والظروف . ولكنها حلقة في سلسلة التغييرات التي يمر بها العراق منذ عام 2003 . واتذكر عبارة لغوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير يقول ( ان الانقلابات الكبرى التي تسبق عادة تبديل الحضارات تبدو للوهلة الاولى وكأنها محسومة من قبل تحولات سياسية ضخمة . نذكر من بينها الغزو الذي تتعرض له الشعوب ، او قلب السلالات المالكة . ولكن الدراسة المتفتحة عن كثب لهذه الاحداث تكشف لنا غالبا ان السبب الحقيقي الذي يكمن وراء هذه الاسباب الظاهرية هو التغير العميق الذي يصيب افكار الشعوب .. ) . و يراهن لوبون على قوة الجماهير في التغيير لان العصر الذي نعيشه هو عصر الجماهير . وإنها إحدى الخصائص الأكثر بروزا لعصرنا . ولم تعد مقادير الامم تحسم في مجالس الحكام ، وانما في روح الجماهير .
اليوم الجماهير الخارجة للتغيير اصبحت اكثر قوة واكثر غضبا واكثر حزما اتخذت مسارات جديدة في التظاهر اختلفت عن سابقتها ويعود ذلك الى النضج السياسي والرغبة الحقيقية في التغيير وانها اضحت اكثر دراية وبصيرة . ان التصميم على التغيير واقع لامحالة سواء في الوقت الحالي او في مظاهرات مستقبلية ستكون اكثر حدة . وعلى السياسيين ان يعوا هذا الواقع فلم تعد وسائل الالتفاف على مطاليب المتظاهرين وتسويفها بوعود فارغة تجدي نفعا . وان التغيير الذي اصاب افكار الجماهير كانت احد الاسباب الرئيسة التي تحرك عقول هذه الجماهير .
ابرز المحاولات دعوة مجلس النواب العراقي منسقي المظاهرات الى الاجتماع . وهذه الخطوة الصريحة تمثل اعترافا ضمنيا بقوة الجماهير . وتخوفا من تغيير النظام السياسي الذي سيجلب الكارثة على كل من علق بالمنظومة السياسية منذ 2003 والى الوقت الحاضر لانهم سيفقدون كل شيء ومنها الدجاجة التي تبيض ذهبا جراء عمليات المتاجرة بالمال العام ونهبه وتفريغ الاقتصاد العراقي كل مقومات النهوض جراء ذلك .
ولكن الذي حدث تمسك ممثلو التظاهرات في لقائهم مع رئيس البرلمان العراقي بمطالبات جزئية وآنية . فهم لم يطلبوا طلبات استراتيجية مثل النهوض بالصناعة او الزراعة وكشف حساب مبيعات النفط وواردات المنافذ الحدودية ومحاسبة حيتان الفساد مثلا . مما جعل الحكومة بالمقابل ان تصدر قرارات لم تصل بالمستوى المطلوب . والنتيجة يرجع الوضع الى المربع الاول ليتخذ الوضع استراحة بين الشوطين .
ولكن هذا الواقع ينذر بأرتفاع مؤشر التظاهرات .. وان المظاهرات القادمة قد تكون اكبر واكثر تأثيرا واكثر اصرارا . ونتمنى ان تعي الحكومة الوضع وان تدرس الاشارات الشعبية وتقوم بخطوات حقيقية تجاه الاصلاحات . ونقول اخيرا ما قاله غوستاف لوبون ( كان تدمير الحضارات العتيقة قد مثل حتى هذه اللحظة الدور الاكبر الذي تلعبه الجماهير ) .