خاص: قراءة- سماح عادل
رواية “حتى لا تتيه في الحي” للكاتب الفرنسي “باتريك موديانو” تحكي عن بطل تائه، يعيش عزلة حتى أنه لم يستخدم الهاتف منذ فترة من الزمن، ولم يعد لديه أصدقاء أو معارف، فقد صلاته بالناس لذا يندهش دهشة تصل إلى حد القلق حين يرن هاتفه فجأة، ويكون ذلك الرنين بداية لاتصاله مرة أخرى بالعالم الخارجي.
الشخصيات..
جون دراغان: البطل، كاتب في الخمسين من عمره، يعيش في عزلة وابتعاد إرادي عن الناس، يجد نفسه فجأة في اتصال مباشر مع أحدهم، حيث يتصل به ليخبره أنه وجد مذكرة التليفونات خاصته، ويقابله وتبدأ حكاية غامضة توقظ داخله ذكريات أيام الطفولة البائسة.
جيل أوتولينى: رجل محتال، يدعي أنه يعمل في إحدى الوكالات محررا صحفيا، ويقابل البطل ليعطيه مذكرة تليفوناته، لكنه في الواقع يريد منه معرفة بعض المعلومات عن شخص مدون اسمه في هذه المذكرة، ثم يتصل بالبطل مرة أخرى مؤكدا على رغبته في أن يساعده في عمل مقالة هامة عن ذلك الرجل.
شنتال غريباي: صديقة “جيل” تأتي معه في المقابلة الأولى مع البطل “جون”، ثم تتواصل مع “جون” مرتين المرة الأولى تطلب مقابلته في الغرفة التي تقطن فيها، ثم تذهب إليه مرة أخرى في منزله، ثم تختفي نهائيا هي و”جيل” حتى يخيل للقارئ أن هاتين الشخصيتين من صنع خيال البطل التائه، الذي يعاني مشاكل في الذاكرة، أو يعاني رغبة مباشرة في محو فترات من حياته من ذاكرته.
جاى تورستيل: ذلك الشخص الذي سعى “جيل” إلى التعرف على معلومات عنه.
“آني آستروند”: صديقة لأم “جون” تولت رعايته فترة من الزمن أثناء غياب أمه، ممثلة المسرح التي تسافر كثيرا، و”روجى فانسون” صديقها التي تعيش معه في بلدة سان لوي لافوريه، أثناء الفترة التي عاش معها فيها البطل حين كان طفلا. سوف تهجره آني بعد أن وعدته بأن تأخذه معها إلى إيطاليا، وسيعرف بعد سنوات عدة أنها سجنت دون أن يعرف سبب سجنها، وسيظل تخليها عنه علامة فارقة في حياته القادمة.
الراوي..
الراوي هو البطل، يحكي بضمير المتكلم، من خلال ذاكرة مشوشة، ورؤية ضبابية يحاول استعادة الأحداث، والتعرف على شخصيات قابلها في الزمن الماضي، حثته على ذلك مقابلته ل”جيل” و”شانتال” وإعطاؤه ملف غامض يحكي عن جريمة قتل، وهو كطفل كان أحد الذين تواجدوا في مسرح الجريمة، في محاولة من “جيل” لابتزازه وجلب أموال منه وملاحقته، لكن الراوي يهمل بعد ذلك تلك الجريمة ولا يهتم بالكشف عن ملابساتها، وإنما يهتم بتفقد ذاكرته، والتعرف من جديد على الشخصيات الذين ذكر الملف أسمائهم، وأهمهم “آني” التي رعته وهو طفل فترة قصيرة من الزمن، لكنها ظلت عالقة في ذاكرته وظل مهتما بمعرفة مصيرها، بعد أن تركته وحيدا في أحد المنازل، فيرجع إلى زمن أحدث من زمن الطفولة وهو زمن الشباب ليتذكر أنه قابلها مرة أخرى. وأثناء ذلك يحكي البطل دوما عن نفسه وذكرياته التي تستعاد، رغم التشوش والضبابية، وعن ذكرى مقابلات تملأ بعض الفجوات في ذاكرته.
السرد..
السرد يعتمد على شذرات من الحكي غير مكتملة، ويعتمد بشكل أساسي على البطل الوحيد الذي يتعامل مع ذاكرته، لا يهتم بالحكي عن شخصيات أخرى إلا من خلال البطل ومن خلال تفاعلهم معه وعلاقتهم به، السرد يتنقل ما بين فترة الطفولة البعيدة التي تفصلها عن البطل حوالي 45 عاما، ثم بعد ذلك فترة الشباب حين كان في العشرينات من عمره، وذكرى أول رواية كتبها، وتعرفه على تفاصيل تكشف غموض طفولته، وكيف كانت تلك الرواية محاولة منه لمقابلة “آني” مرة أخرى واستدعائها، لا يهتم بتفسير جريمة القتل، ويترك فجوات في السرد كما يترك النهاية مفتوحة لتعطي القارئ أفاقا للتخيل الحر.
التخلي ينحفر في الروح..
تحكي الرواية عن بطل تائه معزول يفضل دوما أن يبتعد عن الناس، وإن تواصل معهم فهو يتواصل بشكل غير كامل، لا يتفاعل كطرف في هذا التواصل، يكتفي بدور المتلقي والمستمع والمتفرج الذي لا يقول دوما ما يدور بذهنه، ذلك الشخص الذي ارتضى بالعزلة وألفها حتى أنه لا يعبأ بكونه لم يستخدم هاتفه منذ شهور، ولا يوجد من يهتم بمحادثته ومعرفة أخباره، يجد نفسه فجأة عرضة لرنين الهاتف الذي اقتحم عزلته، ويسمع صوت يشي بالتهديد له، رجل يخبره أنه وجد مذكرة هاتفه، ويجد نفسه مجبرا على مقابلته، وحين يقابله يزداد قلقه لأن الرجل يصطحب صديقة له، ولأن الرجل يقوم بأشياء مريبة، ويسأله عن أحد الأشخاص، وهو مسجل في مذكرة التليفونات خاصته.
ويعرف البطل أن الأمر لن ينته عند ذلك حين يتصل به “جيل” للاعتذار، ويطلب مساعدته في كتابة مقال عن ذلك الرجل، ثم تتصل به “شنتال” لتعطيه ملفا غامضا عن جريمة قتل، يكتشف أنه كان أحد المتواجدين في مسرحها حين كان طفلا، ليفعل كل ذلك ذاكرته ويستحثها على تذكر أحداث كان قد أسقطها عمدا من ذاكرته.
لكن ورغم انتباه القارئ لتلك الجريمة الغامضة، واستعداده لكشف بوليسي عنها، يجد الراوي البطل مهتم وفقط ب “آنى آستروند” تلك السيدة التي رعته وهو طفل فترة قصيرة من الزمن، أثناء غياب والدته، ووعدته بأن تأخذه وترحل إلى إيطاليا، وعاملته بحنان واهتمام لم يجده لدى أمه أو أبيه، لكنها في النهاية تخلت عنه وتركته وحيدا، هذا التخلي ظل عالقا في روحه طويلا، رغم أنه أسقطه من ذاكرته.
وحين قرأ الملف الغامض كل ما كان يهمه هو استعادة ذكرياته عن “آني آستروند” وكيف أنه كتب رواية في شبابه وضمنها أحد المشاهد التي جرت بالفعل بينه وبينهما، لكي يجدها، وقد وجدها بالفعل لكنه لم يسألها كل تلك الأسئلة التي حيرته وهو طفل أو وهو شاب، حين اكتشف معلومات أخرى عنها مثل أنها سجنت.
تحكي الرواية عن التخلي والذي يظل عالقا بروح الطفل وذاته، حتى حين يصبح شابا وحتى كهلا، فالتخلي ينحفر في الروح ويبقى عالقا فيها طويلا، حتى وإن أسقطته الذاكرة، فالبطل أصبح معزولا لا يعبأ بالآخرين لأنه عاني من التخلي منذ طفولته، تخلي والده عنه والذي كان لا يعرف عنه الكثير، ولا يهتم به ويتركه للأصدقاء يرعونه، وتخلي والدته ممثلة المسرح التي تسافر كثيرا وتتركه لأصدقائها، وفي النهاية أودعاه في مدرسة داخلية لأنهم لم يريدوا تحمل عبء تربيته، وتخلي صديقة أمه عنه رغم أنها أبدت اهتماما وحنانا، ووعدته ألا تتركه حتى وهي تهرب من جريمة لا يعرف ملابساتها، ولا أي شيء عنها ولا يهتم، فالتخلي هو من جعل منه ذلك الرجل البائس التائه الذي يستمتع بالعزلة ويدمنها.
الكاتب..
“باتريك موديانو” هو روائي فرنسي، من مواليد 30 يوليو 1945، بولون-بيانكور، حائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2014. كما حاز على الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية للرواية سنة 1972، وجائزة غونكور سنة 1978.
ألف أكثر من عشرين رواية، وطرح روايته الأولى “ميدان النجم” وهو في الثالثة والعشرين من عمره. حمل بعضها مأساة طفولته ومراهقته، كما نقل مشاهد العديد من المصائر الإنسانية. وتتمحور معظمها حول مدينة باريس خلال الحرب العالمية الثانية، يصف فيها أحداث مأسوية على مصائر أشخاص عاديين.
ولد “باتريك موديانو” من أب ذي جذور إيطالية يهودية مشهورة وأم بلجيكية تدعى “لويسا كولبين”. التقى والداه في باريس خلال الحرب العالمية الثانية وبدآ علاقة عاطفية لم يعلنا عنها في بدايتها. وقد نشأ “موديانو” بين غياب أبيه عنه وبين أسفار أمه المتعددة، ولم يتمكن من إتمام دراسته الثانوية إلا بعون من الحكومة. وهكذا صار مقربا من أخيه “رودي”، الذي توفي جراء مرض أصابه وهو في سن العاشرة، وهكذا نرى أن أعمال “موديانو” بين عام 1967 حتى 1982 مهداة إليه.
درس “موديانو” علم الهندسة في المدرسة على يد الأستاذة والأديبة “ريموند كوين” والتي كانت صديقة لأمه، وقد تأثر بها كثيرا، إذ كان بوابته إلى عالم الأدب والنشر.
أصدر أولى رواياته عام 1968 “ميدان النجم”، بعد لقائه بالكاتب “كينو” الذي شكل مفصلاً هاماً في مسيرته الأدبية، ومنذ ذلك الوقت تفرغ “باتريك موديانو” للكتابة. يمتاز أسلوبه بالوضوح والبساطة، وقد جعل ذلك منه أديبا في متناول الجمهور العام كما في الأوساط الأدبية. كما تتمحور كتبه حول البحث عن الأشخاص المفقودين والهاربين، وأولئك الذين يختفون، والمحرومين من أوراق ثبوتية، وأصحاب الهويات المسروقة. بعد سلسلة أعمال روائية له جمع فيها دائماً مسألتين بارزتين: البحث عن الهوية وبالتالي البحث عن الذات مقرونة بقضية عصرية وهي الشعور الإنساني الفردي بضعف الإنسان، أصدر سنة 2012 رواية ذات طابع عاطفي، وهي “الأفق”، التي تدور أحداتها حول قصة حب.
حاز “باتريك موديانو” على جائزة نوبل في الأدب عام 2014 . حيث أعلنت الأكاديمية السويدية في بيان لها أن “موديانو” كُرّم بفضل فن الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية الأكثر عصيانا على الفهم وكشف عالم الاحتلال.
نشر “موديانو” قرابة عشرين رواية منها:
- “ميدان النجم” سنة 1968، والتي التي كانت الباكورة وتوجتها “جائزة روجيه نيميه” كما “جائزة فينيون”.
- رواية دائرة الليل سنة 1969.
- شوارع الحزام سنة 1972 التي حصلت على الجائزة الأدبية الفرنسية.
- المنزل الحزين سنة 1975 التي حصلت على جائزة المكتبات.
- كتيب العائلة سنة 1977.
- شارع الحوانيت المعتمة سنة 1978.
- شباب سنة 1981.
- أيام الأحد في أغسطس 1984.
- مستودع الذكريات سنة 1986.
- دولاب الطفولة سنة 1989.
- سيرك يمر سنة 1992.
- محلب الربيع سنة 1993.
- بعيدا عن النسيان سنة 1994.
- دورا بروريه سنة 1997.
- مجهولون سنة 1999.
- الجوهرة الصغيرة سنة 1999.
- حادث مرير سنة 2003.
- مسألة نسب سنة 2005.
- في مقهى الشباب سنة 2007.
- الأفق سنة 2010.
- رواية عشب الليالي سنة 2012، التي استلهم فيها قصة اختطاف المهدي بن بركة.
- رواية حتى لا تضيع في الحي سنة 2014، السنة التي توج فيها بالنوبل العالمي للأدب.