إن الكاتب أو المراقب أو المحلل السياسي العربي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية يكون،عادةً، أكثر قربا من نبض الشارع الشعبي الأمريكي، وبالتالي فهو الأقدر على التقاط الخيوط العميقة في أية قضية سياسية أو غير سياسية أمريكية تشغل جماهيرنا العربية، وتجعلها في حاجة ماسة لمعرفة حقيقة ما يقال وما يجري بشأنها.
ومنذ فوز الرئيس الأمريكي الحالي دونالد تنرمب بالرئاسة، منتزعا مقاليدها من الديمقراطيين بما يشبه ما يجري في افلام الكارتون، فوجيء المواطن العربي المقيم في أمريكا بأن المعارك السياسية الأمريكية لا تختلف عنها في العراق أو سوريا أو لبنان، أو أي بلد عربي آخر، حينما يتعلق الأمر بصراع السياسيين حول السلطة، وما يرافقه من حملات افتراء وتلفيق وخبث وتآمر وردح وضرب تحت الحزام، في أغلب الأحيان.
ومن تابع تصريحات زعماء الحزب الديمقراطي والجمهوري، وبياناتهم وأخبارهم، منذ العام 2016 وحتى يوم أمس، وأدمن على مشاهدة قنواتهم التلفزيونية والإذاعية، وتقليب صحفهم الضخمة العملاقة، لابد أنه اكتشف، إذا كان محايدا ومتجردا وباحثا عن أصل الحكاية، أنها أسوأ مما كان يعتقد، وقد كان يظنها عادلة ونزيهة وقمة في البحث عن الحقيقة في نقل الحدث، سواء ناسب هوى أصحابها وكتابها ومخبريها أو لا.
فالسي إن إن، مثلا، قد أثبتت لنا أنها لا تختلف كثيرا عن قناة الجزيرة العربية التي لا تنقل إلا ما يسر أصحابها ويفرحهم، حتى لو كان زورا وبهتانا، فيما يخص حاكما أو حزبا أو جماعة. فلا منقصة فيمن لا يحب مالكها وممول كتابها ومعلقيها ومحلليها، ولا مفضيلة فيمن لا يروق له، ومن يريد تسقيطه، إن أمكن. وإن لم يمكن فلا بأس في تشويه سمعته وتلطيخ تاريخه بكل أنواع الوحول.
أما الصحف الأمريكية الكبرى التي كنا نظنها كبرى فقد ثبت، من سلوكها، خصوصا في السنوات الأخيرة، أنها تشبه، إلى حد كبير، صحف الكلمة البذيئة العربية التي نعرفها جيدا في عالمنا العربي، ونعرف شطارتها العجيبة الغريبة في القذف والشتم والتشهير واختراع التهم والقصص والحكايات.
مناسبة هذه المقدمة ما طرأ على الساحة السياسية الأمريكية في الأيام الثلاثة الأخيرة فيما يخص إعلان الديمقراطيين عن عزمهم على عزل الرئيس ترمب.
والذي يعنينا هنا، فقط، هو انخراط بعض جماهيرنا العربية (الفيس بوكية) و(التويترية)، في هذه الحرب الدخانية الأمريكية التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
فلا خلاف على أن للرئيس الأمريكي ترامب سيئات وحسنات. ومن سيئاته أنه بالغ كثيرا في إرضاء اليهود الأميركيين وإسرائيل. ولكن الذي ينبغي الإقرار به، من باب العدل والإنصاف، هو أن مصالحه الشخصية الانتخابية جعلت منه عدوا لعدونا، لا نتمنى أن يرحل قبل أن يكمل ما بداه مع النظام الشرير الحاكم في طهران، لكي يتنفس الإيرانيون والعراقيون واللبنانيون والسوريون واليمنيون وكل العرب وكل شعوب المنطقة والعالم الصعداء، وتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي الذي فطرت البشرية عليه.
وليس غريبا أن نجد أن أكثر المصفقين والمزغردين لعزله، وترحيله، هم العروبيون والإسلاميون الثوريون أبطالُ المقاومة والتصدي والصمود الذين سكتوا عن القدس والجولان، كما سكتوا عن الغارات الدامية الإسرائيلية الأخيرة التي أحرقت غزة، والأخرى التي دمرت معسكراتهم المجاهدة في سوريا ولبنان والعراق، وهم صاغرون، بعد أن دوخونا بحديثهم عن محو إسرائيل في سبعة أيام، ولا يستحون.
ولكن حين نتأمل القشة التي يريد الديمقراطيون أن يقصموا بها ظهر خصمهم العنيد الشديد ترمب نضحك كثيرا، لا على رئيسة الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب، بل على من صدق بها وآمن بتخريفاتها من الإيرانيين ووكلائهم، ومن بعض العروبيين المجاهدين الكارهين لأمريكا، ظالمة أو مظلومة، وراح يبشر بذلك النصر المؤزر الكبير.
ولكن ترمب، وهو الأذكى من خصومه، كما يبدو، تعمد نشر النص الرسمي للمكالمة الهاتفية مع الرئيس الأوكراني، لقطع الطريق على خصومه الديمقراطيين، وتحويل هجومهم عليه بها إلى ورقة انتخابية تعزز فرصته في الفوز بدورة ثانية.
ثم جاءت تصريحات الرئيس الأوكراني لتدق مسمارا أخيرا في نعش هذه الوشاية، وتجعل منها رصاصا مرتدا على مخترعيها وهم غافلون.
أما الفقرة المعنية في المكالمة التي أريد لها أن تكون الجريمة التي توجب عزل الرئيسفهذا هو نصها الرسمي:
الرئيس ترمب يقول للرئيس الأوكراني:
“أما الأمر الآخر، فهو أن هناك الكثير من الحديث عن نجل جو بايدن، وأن بايدن تدخل لوقف التحقيقات. يرغب الكثيرون في معرفة حقيقة ذلك الأمر، لذا فإن أي شيء يمكنك القيام به مع المدعي العام سيكون رائعا. إن بايدن يتفاخر بأنه قام بوقف التحقيقات، لذلك فإنك إذا نظرت إلى الأمر ستجد أنه يبدو فظيعًا بالنسبة لي“.
وبالتدقيق القانوني المستقل في هذا النص الرسمي المحدد يتبين أنها حبة أرادالديمقراطيون أن يجعلوا منها قبة، فلم يفلحوا، وسيخرجون منها وهم خاسرون.
يضاف إلى كل ذلك أن عزل رئيس في أمريكا، وليس في غيرها، لا يتم برغبة النواب وحدهم، ولابد من موافقة ثلثي مجلس الشيوخ، وهو جمهوري، كما هو معروف.
أما ما ينبغي أن نفعله، نحن عرب أمريكا، تخصيصا، إن لم نكن جمهوريين أو ديمقراطيين، فهو أن نجلس على التل، ونتفرج على أفلام كارتون السياسة في أمريكا، وأن لا نكون كالداخل بين البصلة وقشرها.
فإن رحل ترمب وإن لم يرحل فإن أمريكا ستبقى هي أمريكا، وإن أي رئيس أمريكي ليس هو الذي يملك مفاتيح الجنة والنار. فأمريكا تحكمها المصالح وحدها، وهي بالتالي، بموازين تلك المصالح، معنا، نحن العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين والخليجيين والمصريين والتوانسة والليبيين، ولكن بحدود، وهي ليست معنا، أيضا، ولكن بحدود.