23 نوفمبر، 2024 4:13 ص
Search
Close this search box.

الحقيقة التاريخية

الحقيقة التاريخية

ليس أصعب من الحقيقة التاريخية. نقول ذلك بمقياس العلم الطبيعي الذي لا خلاف على مصداقية انجازاته، ولا طاقة لأحد على دحض نتائجه المحققة، اما اذا شك احد بالحقيقة التاريخية، فعلى اي كاشف يعرض شكه يا ترى؟ وبأي مقياس يقاس رأيه حتى نميز الخطأ فيه من الصواب؟
من الامور التي يجب على المؤرخين مراعاتها عند كتابة التاريخ،  التأكد من صدق الروايات التاريخية، فبعضها صحيح حدث فعلاً وبعضها زائف لم يقع أصلاً، وبعضها يستحيل حدوثه، لانه لا يتفق مع طبائع الاشياء. ولذا نصح ابن خلدون بعدم الثقة بالناقلين ثقة مطلقة.
كثيرون سيقولون اننا نعرف التاريخ، نعرف تاريخنا ونعتز بهذا التاريخ، ولكن…. هل يصمد مثل هذا الادعاء ان خضنا في البحث؟ هل يبدأ التاريخ في سنة معينة او عهد معين؟ هل يبدأ تاريخنا فقط مع الدعوة الاسلامية قبل اربعة عشر قرناً، ام تراه يبدأ قبل ذلك بعشرات او مئات القرون؟ هل وجدنا عرباً او مسلمين، هكذا فجأة مع الدعوة الاسلامية، ام اننا موجودون قبل ذلك؟ وحين نؤمن اننا استمرار لتاريخ طويل، فماذا نعرف عن هذا التاريخ، او عن النقاط البارزة في تاريخنا؟
هذا باختصار ما تسبب بالجدل حول قراءتنا للتاريخ.
       حين نقرأ التاريخ، هل يستطيع احد منا ان يؤكد صدق احداث التاريخ؟ وما دمنا نكرر كل يوم وبكل طريقة متاحة. ان التاريخ يكتبه الاقوياء والمنتصرون ويصوغه الحكام والطغاة، فهل في مقدورونا ان نسحب هذه المواقف على التاريخ السياسي فقط ونسقطها عن بقية جوانب التاريخ؟
ولكن هل هذا صحيح؟ وهل نحن مقتنعون بهذا التنظير، ام ترانا نهرب من المواجهة؟
وحين الحديث عن التاريخ، هل صحيح ان تاريخ المنتصر او تاريخ الحاكم، يعكس جوانب من حياة الشعوب المعينة؟
      اذا درسنا تاريخ جمال عبد الناصر  في العصر الحديث على سبيل المثال، فهل نفهم كيف كان يعيش الفرد المصري ، وما هي متطلبات عيشه ونفسيته وطموحاته والتطور الاجتماعي الذي واجهه؟
وهل اذا درسنا فترة الحكم العثماني في بلادنا او فترة الاستعمار البريطاني والفرنسي، نستطيع ان نعرف تاريخنا في تلك الفترة؟
ذلك هراء طبعاً، لأننا قد نحصل على صورة مشوهة اولاً او صورة غير واضحة او على جزء ضئيل جداً من الصورة. ليس مهماً او ضرورياً ان نجهد النفس في تقديم النظريات بل من الضروري ان نثير التساؤل، لأن ذلك هو الخطوة الاولى والاساسية نحو البحث عن الحقيقة وليس أصعب من الحقيقة التاريخية.
ان الحقيقة التاريخية في حد ذاتها تعتبر عملية لاتقتصر على قراءة الوقائع والاحداث وسردها بل انها في الواقع عملية ترمي في لبعادها الحقيقية الى تحليل تلك الوقائع والاحداث وتفسير بواعثها وتبيان نتائجها واثارها كما تقوم بتسليط الاضواء على الترابط الذاتي الموضوعي في مرحلة او فترة زمنية معينة ومن ثم برسم صورة تبرز ماتختزنه تلك الوقائع والاحداث من اهمية ومؤثرات ذات دلالات معينة ، ذلك ان الدراسة الرصينة والمتزنة للتاريخ لا تسمح للباحث لمن يجعل اهتمامه مقتصرا على ذكر العوامل وحدها بل تحدو به بالضرورة الى ان يجعل هذا الاهتمام ممتدا الى تناول ما لتلك العوامل من اهمية وابعاد ومؤشرات . ومن هنا يبدو قراءة التاريخ قراءة موضوعية وصادقة انما تحتاج الى ما هو اكثر من عملية سرد ونقل الوقائع والمتابعة السطحية للاحداث او جمع المعلومات وتوثيقها بل انها تحتاج في واقع الامر الى القاء نظرة شمولية قادرة على استيعاب مجمل حركة الاحداث بشكل موضوعي جاد وبعيد عن السطحية والنمط المتعارف عليه لدى بعض كتاب التاريخ .فالمؤرخ او الباحث ليس مجرد راويةامين لاحدث الماضي فحسب انما الواجب الاكثر اهمية ان يكون نشيطا في تفسير الاحداث تفسيرا واعيا .
وعلى ضوء هذه الصعوبة، نسأل سؤالنا: ما المعيار في الحقيقة التاريخية؟
    هذا السؤال نطرحه اليوم، ونحن نعايش الاحداث والافكار، ونشهد ولادتها او نضع هذه الولادات بأيدينا، ومع ذلك تبقى الالتباسات محيطة بنا وبها. ويكاد الشك يدمر كل شيء وكل قيمة في نفوسنا، ومن ابسط المسائل واصغرها حتى اكثرها تعقيداً وغموضاً.
ألن يكتب التاريخ تواريخ متعددة ومتعارضة؟
ألن يتهافت التاريخ ومعه التاريخ؟
يبدو ان الحقيقة التاريخية ستبقى بعيدة جداً عن متناول يدنا، وبالرغم من ان اهم اداة وصلت اليها البشرية في تجاربها ومخاضاتها الطويلة واختباراتها للوصول الى الحقيقة التاريخية، هي اداة شك، بحيث ان كل معرفة تاريخية يقتضي ان تنهض من هذا الشك.
الا ان الشك يبقى سلب الحقيقة، اي اداة عظمى للنفي بحجم التاريخ اكثر مما هو اداة لأثبات… لانه بامكان هذه الاداة ان تنفي التاريخ برمته ولا تثبت على وجه اليقين سوى ذاتها… اي لا يستطيع الانسان ان يثق بشيء سوى شكه، وهنا عقدته ومأساته. والسبب الكبير في ذلك على ما نرى،انه على صعيد الفعالية الانسانية وليس على صعيد فعالية الطبيعية.
هناك عنصر لصيق بهذه الفعالية او مخالط لها هو عنصر الوهم او طاقة الوهم التي تخص الانسان من دون سائر مخلوقات الله من جماد وحيوان ونبات، وهذا العنصر هو الذي يتدخل في صياغة المعرفة التاريخية ويدخل اليها بذور الهوى والغضب، واللامعقول والخلافي، الشعر والهيام، الغرض والعصبية، الغيب والغربة والخرافة… ويعمل مبضعه في وجهها تعديلاً وتحويراً حتى لا تكاد تعرف حتى كأنه يمكننا القول، انه الوهم يهندس التاريخ او يؤسطره…
 ليس اصعب من الحقيقة التاريخية… فأين الحقيقة؟!
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات