نادرا”ما نصادف مثقفا”يضع نفسه على طاولة النقد والمساءلة ، بحيث يطرح على ذاته أسئلة مشككة من قبيل ؛ هل حقا”أنا (مثقف) كما أزعم وكما أحب أن ينعتني الآخرين بذلك ؟! ، وهل حقا” إني أمتلك الشروط والمواصفات المعيارية التي تمنحني هذه الصفة المميزة وتبوئني المكانة التي استحقها ؟! ، وهل حقا”إني أجيد لعب الدور الاجتماعي وأتقن ممارسة الوظيفة التنويرية المنوطة بالمثقفين على الوجه الأكمل ؟! ، وأخيرا”إذا كنت قد حزت على كل هذه الخصائص وحققت جميع تلك المطالب ، فهل يا ترى لمست جدوى تبلورها على صعيد الوعي والسلوك كحصيلة لذلك ؟! .
فبالاستناد إلى الشروط والخصائص المعيارية التي أتاحت لنا القراءات المتواضعة استخلاصها من جهة ، وعلى أساس نتائج مضاهاة تلك الشروط والخصائص مع المعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية التي يمور بها واقعنا المزري من جهة أخرى ، أرى انه من الواجب – وطنيا”وأخلاقيا”-على كل ناشط في الحقول الثقافية والمعرفية ، وخاصة من يمارس العمل التأليفي (الكتابي) – بصرف النظر عن الدوافع والنوايا التي تدفعه لهذه الممارسة – أن يطرح على نفسه سؤالا”محددا” مؤداه ؛ هل حقا”أنا مثقف كما يحلو لي النظر إلى نفسي ؟! . وإذا كنت أدعي امتلاك وحيازة هذا الامتياز الاعتباري وتلك الفضيلة الحضارية ، فما هي دلائل هذا الادعاء وأين هي حصائله سواء على صعيد الفعل الاجتماعي أو التأثير النفسي ؟! .
لعل هناك من يستهجن – وهم الأغلبية باعتقادي – طرح مثل هذه التساؤلات (العقيمة) ويمتعض من إثارة مثل هذه القضايا (العابثة) ، معتبرا”إن مجرد ظهور أسمه في وسائل الإعلام (المكتوبة والمقروءة والمسموعة) ، فضلا”عن الإشارة إلى تواتر حضوره وتنوع مساهماته في الندوات والمؤتمرات واللقاءات ، هي بمثابة أدلة قاطعة على استحقاق وسمه بصفة (المثقف) ، ومن ثم فلا داعي لأن يثير أعصابه ويرهق نفسه ويزعزع قناعاته بمثل تلك الأسئلة التي لا فائدة منها ولا طائل ورائها . والحقيقة التي قد لا تخفى على مطلع من ذوي الشأن ، هي إن التبجح بتلك المظاهر الشكلية والانخراط بتلك الفعاليات الروتينية ، لا تشكل معيارا”يمكن الركون إليه للادعاء بامتلاك تلك الصفة أو حيازة ذلك اللقب ، وإنما العبرة بمقدرة الشخص المعني على تحقيق مفاعيل تلك الشروط والخصائص المعيارية التي لا تكتمل شخصية المثقف بدونها (سنخصص مقالة مستقلة عن تلك الشروط والخصائص) .
وإذا ما عرجنا إلى منظر شريحة المثقفين الأشهر (أنطونيو غرامشي) لاستمزاج آرائه والاستئناس بأطروحاته الخاصة بديناميات تحول الفاعل الاجتماعي إلى (مثقف) ، سنجد انه اشترط لذلك ليس فقط امتلاك القدرة على التفكير المنطقي وحيازة تصور عقلاني عن العالم الموضوعي ، وهو الأمر الذي حمله على اعتبار إن الجميع ينتمون للحقل الثقافي تحت مسمى الحس العام السليم فحسب ، وإنما – وهو الأهم من وجهة نظره – أن يمارس قولا”وفعلا”(وظيفة) المثقف التي هي من اختصاص ثلة من الفاعلين الاجتماعيين الذين تخطى وعيهم أنماط التفكير التقليدية ، وتجاوز تحليلهم سياقات الفعل التاريخي المتوارثة ، وتجاسروا من ثم على خرق حجب الممنوعات الاجتماعية ، وكسر طوق المحرمات الدينية ، وهتك أسس التواضعات العرفية ، التي طالما كانت من أسباب تأخر المجتمعات وتحجر الثقافات وتقهقر الحضارات .
والحال من من المثقفين العراقيين بادر إلى تفحص أدواته الثقافية وتجرأ على تدقيق عدته المعرفية ، بعد كل الذي جرى ويجري أمامه وحوله من انهيارات مدوية وانكسارات مروعة على جميع الصعد ومختلف المستويات ، فضلا”عن شروعه بالنظر في جدارة موقعه الاجتماعي واستحقاق دوره الوظيفي ، لاسيما وانه بقدر استشراء ظاهرة تكاثر (المثقفين) من شتى الأنواع والأصناف – مثل نبات الفطر – بقدر ما يمعن المجتمع في مسالك الانحطاط الأخلاقي والتبربر الحضاري ؟! . ومن الدلائل المؤسفة التي تؤكد إحجام الغالبية العظمى من مثقفينا عن الخوض في هذا الغمار النقدي الصعب ، وبالتالي الارتقاء بخاطباتهم إلى مستوى ما يجيش في الواقع من تصدعات وصراعات ، والتعمق في تحليلاتهم إلى مستوى ما يمور في رحم المجتمع من ديناميات وتفاعلات . هو العزوف شبه الكلي لمختلف القطاعات الاجتماعية والثقافية عن الاستجابة لتلك الخطابات والتفاعل مع تلك التحليلات ، وذلك لإدراكهم الواقعي بان ما تتضمنه من أفكار ورؤى وتصورات لا تعدو أن تكون مجرد تخريجات نظرية ، لا تمت إلى المعاش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بصلة ، ناهيك عن تحاشيها (التورط) في سبر أغوار الوعي الجماعاتي المعبأ بالخرافات ، وإماطة اللثام عن بواطن السيكولوجيا الجمعية المجيشة بالأساطير .
ومن المؤشرات الأخرى المهمة التي يمكن من خلالها البرهنة على تفريط المثقف العراقي بصفته المعيارية هذه ، هي جهله أو تجاهله لواقعة انه لما كانت (الثقافة) الجادة تتحدد بدلالة المكونات الموضوعية للواقع (الجغرافية والتاريخية والحضارية) ، بحيث تتكوّن بناها وتتشكل أنساقها بناء على طبيعة الخصائص المكانية والزمانية السائدة في مرحلة ما ، فان (المثقف) الحقيقي لا يحتاج فقط إلى تلك المكونات الموضوعية لبلورة كينونته النوعية وصيرورة هويته الفريدة فحسب ، وإنما يستلزم أيضا”انخراطه الفاعل (اليومي والمباشر) في سيرورات وديناميات التشكيلات الذاتية للمجتمع (السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية) ، بحيث تتجسّد معالم شخصيته كفاعل (اجتماعي) معتبر له دور يمارسه من جهة ، وتتوضح ملامح هويته كفاعل (ثقافي) له وظيفة فريدة من جهة أخرى ، وذلك وفقا”لإيقاع سياقات التاريخ وأنماط الوعي وانساق الثقافة ومنظومات القيم وشعائر الدين وطقوس الأعراف . وبما أن المثقف – كما ترى المتخصصة في فكر غرامشي الباحثة المصرية (أمينة رشيد) – هو (( نتاج الثقافة ومنتج ثقافة ينبغي أن تدرس ظروف هذه وتلك من أجل تحرير قوى الفكر والإنسان من التبعية للمؤسسات الإيديولوجية )) .
وفي إطار هذه الشبكة من العلاقات الجدلية المعقدة والترابطات العضوية المتشابكة ، قلما يجهد (المثقف) العراقي عقله ويشحذ ملكاته في البحث عن الأصول البعيدة واستقصاء الجذور العميقة للظواهر الاجتماعية الصاخبة في تفاعلاتها والمتفجرة في علاقاتها ، والتي غالبا”ما تتحدى في كل حين طاقاته الفكرية وقدراته التحليلية على مجاراتها والتمكن منها . بحيث تبدو له كما لو أنها أحداث شاذة عن الواقع ومعطيات غريبة عن المجتمع ، وهو الأمر الذي يجعله عاجزا”ليس فقط عن اكتناه حقيقية ما يجري أمامه ويدور حوله من انزياحات وانثيالات وتداعيات فحسب ، وإنما عاجزا”أيضا”عن تقديم الحلول الناجعة واقتراح المعالجات الصائبة التي من شانها تخفيف وقع الأزمات والصراعات المستدامة ، فضلا”عن الخروج منها بأقل الخسائر الممكنة .
وعلى أساس هذه الخلفية المتشائمة التي تشي بتنازل المثقف العراقي عن دوره الاجتماعي وتخليه عن وظيفته التنويرية وتنصله عن التزاماته القيمية ، تاركا”لمختلف أنواع الفاعليين الاجتماعيين لاحتلال موقعه والقيام بدوره وممارسة وظيفته ، فان مبرر استحقاقه صفة ( المثقف) الحقيقي بات بلا معنى وبلا جدوى، اللهم إلاّ لأغراض التبجح الشكلي والاستعراض المظهري في بيئة اجتماعية باتت تعاني الجدب الفكري الكامل والتصحر الثقافي الشامل .