تكملة الآية (2) من سورة البقرة
في هذه الآية وفي التي تليها تحدد صفات «المتقين» ذوي الاستعداد على الاهتداء بهذا الكتاب. فأول شرط هو الإيمان بالغيب، وهو مصطلح قرآني في مقابل مصطلح الشهادة، فبينما عالم الشهادة هو العالم المادي، أو العالم المحسوس، بعكسه فعالم الغيب هو عالم ما وراء المادة، أو ما يعرف بعالم الميتافيزيق. صحيح إن التجريبيين ينكرون كل ما هو وراء المحسوسات، ولذا فالغيب عندهم محض وهم وخرافة، إلا أن العقليين، أي الذين لا يقتصرون على اعتماد التجربة كمصدر للمعرفة، بل يعتبرون العقل مصدرا معرفيا أساسيا إلى جانب التجربة، وربما عند البعض سابقا لها، أو هو لا أقل معضد لها، يؤمنون بعالم الغيب، لكن ليس وفق التصور الديني. هذا مع وجود علماء طبيعة عالميين معاصرين كبار يؤمنون بوجوب وجود الخالق. فالغيب عند الإلهيين العقليين ينقسم عموما إلى غيب واجب، وغيب ممتنع، وغيب ممكن، فالواجب عندهم صادق بالضرورة، والممتنع كاذب بالضرورة، والممكن متساوي الصدق والكذب لحين استكمال أشواط الاختبار، للتحقق من صدقه أو كذبه، أو اتخاذ الموقف اللاأدري منه. كما ينقسم الغيب إلى غيب حقيقي وغيب وهمي، إلى غيب عقلي وغيب خرافي، إلى غيب عام وغيب خاص، كمفردات الغيب الخاصة باللاهوت المسيحي، والغيب الخاص باللاهوت الإسلامي، ثم هناك غيب شيعي، وغيب سني، فيما هي التفاصيل. وبلا شك لا يجب أن يكون غيب الدين وغيب الدينيين، على سبيل المثال غيب الإسلام وغيب المسلمين متطابقين دائما، فالتدين الشعبي أضاف الكثير من الغيبيات والخرافات إلى الدين، مما لم يرد فيه. وقد ترك مؤسس الإسلام المسلمين من بعده يتوزعون في غيبيات ينكر بعضها البعض الآخر، ويكفر بعضها البعض الآخر. لكني عموما أقول إن من الغيب ما يمكن إثباته بأدلة العقل، فلا أدلة العلوم التجريبية بإمكانها إنكار ما لا دليل على إنكاره، ولا أدلة النصوص المقدسة المتعددة والمختلفة فيما بينها بإمكانها أن تثبت ما تدعيه لوحدها بلا دليل معتبر. فكل من التجربة والدين غير قادرين على البتّ بشكل حاسم في قضايا ما وراء الطبيعة، كوجود الله وصفاته، والحياة الأخرى، والحساب والجزاء والنبوة وغيرها، بل ذلك كله من اختصاص العقل قبولا أو رفضا، أو بتعبير آخر من اختصاص الفلسفة. نعم إذا اختبر العقل دينا من الأديان، ولو على نحو الافتراض، وثبت له بالدليل القطعي صدقه، فلا بد من أن يقر بمفردات الغيب الممكنة التي يقول بها ذلك الدين، كوجود مخلوقات كالملائكة والجن، أو الكلام عن طريقة الثواب والعقاب، أو رواية قصص من الماضي، وغير ذلك. ولكن إذا ما اشتمل دين ما على مقولات غيبية هي من الممتنعات العقلية، كما وجدناه في كل الأديان، فهذا دليل على عدم إلهيته، أو عدم إلهيتها جميعا. وكذلك إذا ثبت عدم صدق بعض مقولاته التاريخية أو العلمية أو غيرها.