23 ديسمبر، 2024 10:43 م

جروح مالحة في حافة القلب

جروح مالحة في حافة القلب

لا ازال أذكر تلك الجرة الفخارية الملونة التي أشتراها أبي ونحن في طريق عودتنا من بغداد بعد تسجيل شقيقتي الكبرى في الجامعة، كان ذلك في صيف 1975، حين توقفت السيارة القديمة التي كنا ركابها في منطقة طوزخورماتو، فنزلنا فرحين ومتحررين من كراسينا المزعجة ومن حر خانق داخل سيارة أشبه بصندوق ضيق متحرك، بنوافذ مفتوحة يأتي منها هواء كذلك الذي يأتي من فرن حجري!
ولا أزال أذكر أنني طوال سنين عديدة هي أكثر من نصف عمري وأنا أنتظر رؤية جبال طوزخورماتو في طريق عودتي من بغداد، طالباً، جندياً، مهندساً حيث كنت أعمل في وزارة النفط في بغداد، كانت رؤية تلك الجبال تخبرني بأني أقتربت كثيراً من كركوك إذ إن المسافة بينهما هي مسافة القلب.
كان هناك بستان على الجانب الأيمن من طريق العودة من بغداد، تتبعها سلسلة مطاعم، وفي الجانب الأيسر ساحة لوقوف سيارات تحولت فيما بعد إلى جامع الوهاب. كانت أمام المطاعم مساحات يقدم فيها الباعة  وجبات سريعة ، كانت في الشتاء وجبة لذيذة من الشلغم مع الدبس تدفىء الروح، وفي الصيف قطع من (الرگي) تشبه شفاه أمي بعد طول فراق، وشربت (نقيع) زبيب ينزل إلى الجوف كشلال صاف يغسل كل التعب، اما في الربيع القصير، فكان قدح من لبن كركوك العجيب قادراً على أن يجعل الربيع يدوم إلى الأبد في لحظات شرب ذلك اللبن المنعش !
كانت المسافة من طوزخورماتو إلى كركوك تبدو أبعد وأطول بكثير من المسافة نفسها بين كركوك وطوزخورماتو ، كنا نحمل شوقاً للأهل والاحبة ونحن نقترب من كركوك، وكنا نحمل حسرات الفراق ودعوات الأهل ونحن نغادر كركوك، وتلك نسبية الزمن والمسافة في القياس بين اللهفة للقاء وبين الحسرة عند الوداع.
ثم دخلت طوزخورماتو في وقت عصيب بعد أن اصبحت مدينة كفري القريبة منطقة عسكرية مغلقة فتأثرت المدينة كثيراً بذلك وخاصة حين تحول الطريق الرئيسي كركوك/بغداد/كركوك إلى طريق بديل يمر من مدينة تكريت، وأصبحت طوزخورماتو مقراً لتواجد الجنود الملتحقين بوحداتهم العسكرية أو الذاهبين إلى جبهات القتال في القاطع الشمالي، كنت ترى في عيونهم أحلامهم مخبئة هناك، تلمع مع الدموع كلآلىء نقية، أولئك سيمضون إلى جبهات، وربما سيكون هذا آخر لقاء لهم مع أصدقاء سلاح يلتقون بهم  للحظات هي بين وصول سيارة حمل عسكرية لتفريغ حمولتها من الجنود ثم عودتها محملة بوجبة قادمة من جنود متسخين بتعب القتال، جنود متأنقين للقاء الأحبة، جنود  يحيكون أحلامهم بدقائق الإنتظار!
أن تكون في حافة القلب عليك أن تستعد لمتقلبات القلب، وتلك حال طوزخورماتو، لم تكن مستعدة للتقلبات، تقلبات السياسة وتقلبات الحكام وتقلبات الزمن، تلك أمور تحدث فيتقلب القلب معها، وتكون الحافة في مرمى صراعات عديدة، فعانت المدينة وتعاني منذ زمن طويل لأن حافتها طويلة ومكوثها على حافة القلب جميل، بحكاياتها الأسطورية، بلون جبالها، بصمت وديانها، بطيبة ناسها، بطينها الملون، وأصوات عشاقها، أولئك الذين هم أجمل من يقرأون المقام العراقي برباعيات من نظم شعرائهم، تلك الرباعيات التي هي الهوية الأصيلة لشعب يبث حكاياته شعراً شفاهياً يقوله الجميع، تلك الحكايات تصبح أغان شجية بأصوات تأتي من وديان مهيبة هي وديان طوزخورماتو.
تلك أيام محفورة في القلب، حفرت بالحجر، فمدينة مثل طوزخورماتو مكانها القلب، وكلمات حكايتها مكتوبة بحروف مدهشة لم أرَ مثلها في أي لغة، لهم لغتهم، نفهمها بنظرات العيون قبل حركات الشفاه ، لغة تتشكل في الروح وليس في الحنجرة. تلك أيام لا تزول بتفجير أو تدمير أو قتل، فقلوبنا أصبحت ملاذات لذكرياتنا وحكاياتنا، ملاذات عصية تقترب منها يد حاسدة حاقدة، تحاول زحف أحرف الحكاية من مكانها وتغيير معانيها، وهي في محاولتها تلك، تقتل حبيباً وصديقا واخا عزيزاً، لكنها لن تقدر أن تغير الحكاية، فالحكاية هي أن طوزخورماتو مدينتنا…مدينة الحب والغناء والشعر …مدينة لن نصل إلى كركوك إلأ بالعبور منها، فهي مسافة القلب إلى كركوك.
[email protected]