أن لخطاب الأمام الحسين (ع) يوم العاشر من المحرم وكلامه البليغ اثأر سيكولوجيه, تعكس لنا مدى شخصية الحسين الفذة, والتي كانت احد أسباب خلود القضية الحسينية, رغم مجيء الكثير من القضايا التي تبعت واقعه كربلاء, ألا أن التاريخ قد أسدل ستاره عليها وصارت طي الكتب, والقضية الحسينية لا تزال شاخصة وخالدة, ولكي نطلع على شخص الحسين في واقعة كربلاء لابد من تحليل خطبته في يوم العاشر لغويا.
يبدأ الحسين خطابه بقوله”
(الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال,متصرفة بأهلها حالا بعد حال فالمغرور من غرته,والشقي من فتنته,فلا تغركم هذه الدنيا فأنها تقطع رجاء من ركن أليها وتخيب طمع من طمع فيها)
لقد بنا الحسين هذه الفقرة من خطابه بأسلوب يتسم بوضوح الإيقاع, وموسيقى في مقاطعه فأكثر من الفواصل ( زوال-حال_غرته_فتنته _فيها)
يذكر الدكتور عبد الكاظم الياسري أستاذ اللغة والنحو في جامعة الكوفة في كتابه الخطاب الحسيني في معركة ألطف إن
(أن الأمام الحسين استخدم ما يسمى بأسلوب ((التشخيص )) في رسم صورة محسوسة لهذه الدنيا )
ثم ينتقل الأمام بعد الحمد والثناء إلى الوعظ فيقول
( أيها النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي وَ لَا تَعْجَلُوا حَتَّى أَعِظَكُمْ بِمَا يَحِقُّ لَكُمْ عَلَيَّ وَ حَتَّى أُعْذِرَ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ أَعْطَيْتُمُونِي النَّصَفَ كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ، وَ إِنْ لَمْ تُعْطُونِي النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَأَجْمِعُوا رَأْيَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)
يبدأ الأمام خطابه مستخدما أسلوب النداء ثم يتبعه مجموعة جمل الإنشائية وكان أسلوب الطلب هو المهيمن, فالغرض كان يتطلب ذلك
يستخدم الأمام أسلوب النهي بقوله ( لا تعجلوا حتى أعظكم ) وغرض الإمام من ذلك هو تهيئة القوم للسماع ما يريد قوله
بعد ذلك ينتقل الإمام إلى تقديم العذر بقوله
((فان قبلتم عذري … كنتم اسعد …وان لم تقبلوا …فجمعوا..)
إن استخدام الحسين لأسلوب الشرط في طلب العذر وتقديم الحجة لقدومه. نابع من تمتع الحسين بمواصفات القيادة الحقيقية وكونه حجه على المسلمين وإمام زمانه.
فاستخدام الإمام الحسين لأساليب البلاغة. (النداء ،الطلب،والنهي) نابع من عمق شخص الحسين وفكره القيادي, فإلقاء خطبة بهذه البلاغة لاشك أنها أثارت وقعاً في نفوس معسكر الأعداء, وهذه دليل ذكاء الحسين وشخصيته الفذة .
ثم ينتقل الأمام إلى جزء أخر هو التعريف بنسبه ومحاجة أهل الكوفة بكونه حفيد النبي وأمام زمان ألامه والوصي عليها فيقول
(أَمَّا بَعْدُ، فَانْسُبُونِي فَانْظُرُوا مَنْ أَنَا، ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ وَ عَاتِبُوهَا فَانْظُرُوا هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قَتْلِي وَ انْتِهَاكُ حُرْمَتِي.
أَ لَسْتُ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ وَ ابْنَ وَصِيِّهِ وَ ابْنِ عَمِّهِ وَ أَوَّلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِ لِرَسُولِ اللَّهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ؟
أَ وَ لَيْسَ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمِّي؟
أَ وَ لَيْسَ جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ بِجِنَاحَيْنِ عَمِّي؟
أَ وَ لَمْ يَبْلُغْكُمْ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِي وَ لِأَخِي هَذَانِ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟)
لقد تغيرت لغة الخطاب فقد عبر الإمام بأسلوب إنشائي مؤثر, بدلا من أسلوب الخبر الذي بدا به لان هذا المقام يتطلب هذا النوع من
الأساليب لأنها اشد تأثيرا وأكثر وقعاً على السامع ثم يكثر الإمام من استخدام أسلوب الاستفهام الإنكاري ليثير من خلالها عواطف القوم ويدفعهم للتأمل في هذه التساؤلات.
في هذه الجزء من الخطبة المباركة التي ألقاها الحسين (ع) على معسكر الأعداء يتبين بوضوح شخص الحسين ونفسيته في تلك المعركة فرجل غير الحسين قادم على الموت المؤكد يصعب عليه قول كلام مفهوم إلا إن الحسين خطب بالقوم خطبة بليغة وبهذا يتبين إن الحسين دخل المعركة من باب المنتصر غير الآبه للحياة ولم يكن سوى الإيمان بالله دافعا ومعزز له.
يتبع في الجزء القادم والله ولي التوفيق”