19 ديسمبر، 2024 2:14 ص

كنت في تشيرنوبيل – ٥

كنت في تشيرنوبيل – ٥

لم يهدا غيار تشيرنوبل، وربما لن يهدا لآلاف السنين؛ بيد ان العاصفة النووية التي اثارها انفجار ( البلوك) الرابع في المحطة الكهروذرية؛ كلّف لجمها؛
حياة الاف الأبطال، تطوعوا عن دراية؛ بانهم يواجهون عدوا خبيثا، غير مرئي تمتد ألسنته القاتلة؛ لتدمير كل الفضاء القريب وتلوث البعيد، اذا لم يوقفوا سعاره.
وقعت الكارثة، وفقا للتحقيقات التي اجرتها لجنة خاصة في النيابة العامة السوفيتية، بسبب اخطاء ارتكبها، عدد من المسؤولين عن الفريق الهندسي المناوب، ليلة السادس والعشرين من نيسان/ ابريل عام 1986 التي دخلت التاريخ على انها الأسوء في عصر المفاعلات النووية .
وخلص التحقيق؛ الى ارتكاب خطأ في التشغيل، بعد إغلاق توربينات المياه لتبريد اليورانيوم المستخدم، وتوليد الكهرباء؛ الامر الذي ادى إلى ارتفاع حرارة اليورانيوم بالمفاعل الرابع إلى درجة الاشتعال. ووقوع انفجارين متتاليين.
ومع ان المتهم الرئيس باهمال التعليمات الصارمة، اثناء اجراء تجربة دورية على عمل المفاعل؛ حاول بعد خروجه من السجن عام 1994؛ الدفاع عن نفسه، مؤكدا انه وفريقه؛ قاموا بكل ما تقتضيه التعليمات؛ الا ان القضاء جرم أناتولي دياطلوف(1931-1995) بتهم الاهمال والتسبب في وقوع أضرار بحياة الناس .
وحكم عليه مع اخرين من العاملين في المحطة الكهروذرية في تلك الليلة المشؤومة بالسجن عشر سنوات .
أمضى منها اربع، وتم إطلاق سراحه بتوصية من العالم النووي السوفيتي المنشق اندريه ساخاروف،الذي احتل حقبة غورباتشوف، ومن ثم يلتسين، مكانة خاصة في النظام الجديد؛ المعادي للشيوعية وللدولة السوفيتية.
وترددت معلومات، ان العالم النووي ساخاروف، كان على دراية بان خللا اصليا في تصميم ذلك الصنف من المفاعلات كان سيفضي عاجلا ام آجلا الى حادث كالذي حصل، وان إلقاء اللوم،فقط، على المهندسين الخافرين تلك الليلة،ليس عدلا.
عانى دياطلوف من مرض السرطان، بفعل تعرضه، مع من كان معه تلك الليلة في المفاعل، الى جرعات قاتلة من الإشعاع وتوفي بعد عام من إطلاق سراحه.
كانت النيابة العامة باشرت التحقيق في الكارثة؛ خلال ساعات من وصول خبرها الى الكرملين. وناقشت لجان التحقيق التي تعرض بعض أعضائها؛للإشعاع ايضا وعانوا بعدها؛ كل الاحتمالات؛ بداية من العمل التخريبي، الى هجوم من قوى غير مرئية( سكان الفضاء مثلا!) مرورا بخلل اصلي في المفاعل؛ ترافق منذ تشغيله..الخ.
وبرزت فرضية العمل التخريبي المتعمد بقوة في الأيام الاولى للكارثة، بسبب اختفاء المهندس الشاب، فاليري خوديمتشوك الذي كان يشرف تلك الليلة على احد أقسام المفاعل الرابع، وغاب عن الأنظار عدة ايام.
ولم تستبعد فرضية العمل التخريبي تماما ، والشكوك حول المهندس المفقود؛ الا بعد ان اتضح انه تفحم، واختلط جثمانه، مع كتل المواد المشعة ودفن معها حين غطي المفاعل؛ بناووس ضخم من المواد الكونكريتية والمعادن لمنع تسرب الإشعاعات. ومع كتلها المرعبة ترقد بقايا المهندس الشاب فاليري (1951-1986).
طمر المفاعل الرابع مع النفايات النووية والمواد المشعة اسرارا تخبو وتبرق؛ على مدى السنوات التي اعقبت الحادث.
وعمق الشكوك؛ حول السبب الحقيقي للكارثة، الانتحار المأساوي؛ للأكاديمي فاليري ليغاسوف في الذكرى الثانية لانفجار المفاعل.
ولفت انتباه المحققين، ان الأكاديمي؛ لم يترك وصية، وانه شد عقدة الحبل الذي شنقه ، صباح يوم 27 نيسان/ابريل1988 بحرفية بحار، او متسلق أولمبي ،ما اثار الشك،في ان احدهم”ساعد”الأكاديمي على إنهاء حياته.
و كان حينها، اصغر عالم في عموم الاتحاد السوفيتي؛ حاصل على عضوية أكاديمية العلوم السوفيتية.
وحسب رواية السيدة مارغريتا؛ عقيلة الدكتور ليغاسوف ؛ فانها تركته في المنزل، وخرجت الى العمل، منتصف الثامنة صباحا، وان نجلهما وزوجته، خرجا ايضا الى العمل، وقالت ان الأكاديمي، الذي تردت صحته كثيرا، بعد مرابطة استمرت أربعة شهور في موقع تشيرنوبل، كان الليلة السابقة، يقلب البوم صور للعائلة، ويتأملها بتمعن.
ووفقا لمختلف الروايات، فان الدكتور ليغاسوف، عانى من الكآبة، وانعدام الشهية، واصيب بهزال شديد.
ولعل قرار ميخائيل غورباتشوف، حرمان الأكاديمي من وسام رفيع ، كانت أقرته اللجنة الحكومية والحزبية المعنية، لعب دورا في تعمق الشعور بالإحباط والقهر.
ووفقا لشهادة نيكولاي ريجكوف، رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي؛ فان غورباتشوف، برر قراره المنفرد والغريب؛ حرمان الأكاديمي، النائب الاول لمدير معهد الطاقة النووية من الوسام،على الرغم من المآثر التي اجترحها؛ بانه يتحمل المسؤولية مشتركة مع علماء اخرين، لان المفاعل النووي الكارثة، صمم بين جدران ذلك المعهد.
هذا التبرير، لم يقنع احدا، وساد الاعتقاد، ان الأكاديمي ليغاسوف، اصبح مكروها من غورباتشوف، اثر الاجتماع العاصف مع أعضاء المكتب السياسي، بعد الكارثة؛ وانتقد بحدة التأخر في إجلاء سكان المناطق المحيطة بالمفاعل المتفجر؛وتحديدا بلدة بريبيت المنكوبة.
كما ان ليغاسوف، نشر في صحيفة
” برافدا” مقالا مطولا، مفهوما للقاريء غير المتخصص؛ يكشف عن خلل في مجمل الأداء الحكومي، والحزبي وفِي نهج ادارة الدولة بما في ذلك التعامل مع الطاقة النووية.
وبفعل الغموض المحيط بالانتحار الماساوي للأكاديمي الشاب، الذي كان يتقدم عمال الإنقاذ، مع معرفته التامة، بمخاطر العملية، تحول اسمه الى رمز في مأساة تشرنوبل.
بمرور الزمن،ظهرت المزيد من المعلومات والمعطيات، تفاقم من غموض حادث تشيرنوبل، وتطرح اسئلة لاعجة.
ففِي الذكرى الثلاثين للكارثة، وردت معلومات تشير الى ان هزة ارضية، توصف بانها اصطناعية، وقعت في المنطقة المحيطة بالمفاعل، قبل عشرين ثانية من انفجاره!
وان الهزة المصطنعة استهدفت اكبر واخطر مركز للرصد والتجسس الفضائي السوفيتي الذي يرمز له ب( القوس 1) كان يقع على مسافة 30 كلم من تشرنوبل.
و اصطلحت الاستخبارات الامريكية على تسميته
( Russian Woodpecker)
اي ” نقار الخشب” بفعل الإشارات الصادرة عنه وتشبه صوت نقر الطائر المعروف على الأشجار؛
ويمكن ” للنقار” رصد كل جسم يحلق في الأجواء الامريكية؛ ويتابع حركة الصواريخ، والأهداف الموجهة من الولايات المتحدة نحو الاتحاد السوفيتي،فور انطلاقها.
وتم بناء المحطة الفريدة، العملاقة على مقربة من المفاعل، نظرا لحاجتها الى زخم ضخم من الطاقة الكهربائية.
ويطرح السؤال؛؛؛
أهي مصادفة ان المحطة أوقفت عن العمل، بقرار من غورباتشوف، بعد شهور قليلة من كارثة تشيرنوبل؟!
حينها، اعلن ان (القوس-1) أصبح خارج الخدمة، بسبب تغيير الوضع الدولي.
وكان غورباتشوف طرح آنذاك شعار
” القيم الانسانية المشتركة” وبدء مسيرة الزحف نحو التقارب مع الغرب وزعيمته الولايات المتحدة.
وتم تفكيك المحطة، مع مئات الرؤوس النووية، تعبيرا من غورباتشوف عن الإخلاص للتعاون والشراكة مع الغرب.
ولم يعد خافيا، ان تشيرنوبل، كان احد مقوضات النظام السوفيتي. وسببت الكارثة خسائر لا تعوض.
وحتى غورباتشوف الذي يعتبر المبادر لتقويض النظام، يقول ان التاريخ يتشكل من ” ما قبل تشيرنوبل” و “ما بعد تشيرنوبل”. وان الاتحاد السوفيتي تغير جذريا بعد الكارثة.
والى اليوم؛ لا توجد ارقام ثابتة او نهائية عن حجم الأضرار الناجمة عن الكارثة؛؛
 
فقد ادى انفجار المفاعل فور وقوعه الى مصرع 31 من العاملين ورجال الإطفاء جراء تعرضهم مباشرة للحروق وللإشعاع.
وتباينت التقديرات حتى الآن بشأن العدد الحقيقي لضحايا هذه الكارثة.
الامم المتحدة قدرت بأربعة آلاف شخص، وقالت السلطات الأوكرانية إن عدد الضحايا يبلغ ثمانية آلاف .
وشككت منظمات دولية في هذه الأرقام.
وتوقعت وفاة ما بين عشرة آلاف، وأكثر من تسعين ألف شخص نتيجة إصابتهم بسرطان الغدة الدرقية المميت.
وتنبأت منظمة السلام الأخضر بوفاة 93 ألف شخص،بسبب الإشعاعات الناشئة عن الحادث.
وسجلت المنظمة الطبية الألمانية ضد الحرب النووية، إصابة أربعة آلاف شخص في منطقة الحادث؛ بسرطان الغدة الدرقية.
وذكرت المنظمة الألمانية أن المنطقة المحيطة بمفاعل تشرنوبل؛ شهدت تصاعدا كبيرا في معدلات الإصابة بسرطان الغدةالدرقية؛ بين من كانوا في سن 18 عاما وقت الكارثة.
وأشارت إحصائية رسمية لوزارة الصحة الأوكرانية إلى إن 2.3 مليون من سكان البلاد ما زالوا يعانون،حتى الآن،بأشكال متفاوتة منالكارثة.
وتسبب تشرنوبل في تلوث 1.4 مليون هكتار من الأراضي الزراعية في أوكرانيا وروسيا البيضاء بالإشعاعات .
ومؤخرا نشرت معلومات تؤكد ؛ ان 30
ألفا من المشاركين والشهود قضوا.
وهناك 70 الف معوق يعانون من آثار تشيرنوبل طوال حياتهم.
وطال التلوث سبعة عشر دولة أوربية ووصلت الإشعاعات الى تركيا.
شارك في ازالة اثار الكارثة على مدى السنوات 1986-1991 عشرات العلماء ومئات الفنيين،واربعين الف عسكري وكلفت العملية ثلاثين مليار دولار .
وتم اجلاء 116 الف نسمة من سكان
المناطق المنكوبة الملوثة على مساحة ثلاثة الاف كيلومتر مربع.
*****
تسجل لفرق الإنقاذ، من عمال إطفاء ومناجم، وفرق عسكرية، وللمتطوعين من شتى الإعمار،شابات وشبان، وللعلماء السوفيت؛ مآثر؛ لو لم يجترحوها، لتعرض العالم الى اشد من الكارثة .
ففي الثامن من أيار/ مايو1986 ، لم تبق غير بضع ساعات على انفجار ثالث؛ كان سيؤدي الى تلوث نصف العالم بالإشعاع القاتل. وبلغت درجة غليان المياه تحت مبنى المفاعل الذي يعادل ارتفاعه، عمارة من عشرين طابقا؛ حدا كانت ستلوث المياه الجوفية وصولا الى البحار والمحيطات.
عندها قرر العلماء السوفيت، الذين لم يغمض لهم جفن لأكثر من عشرة ايام، ولاحظنا شحوب وجوهم واحتقان مآقيهم. ان يقولوا لكوكبة من العمال المتطوعين؛؛
اما البشرية او الموت المحقق !
وابلغ العالم فاليري ليغاسوف رهطا من المتطوعين::
علينا ان نحفر قناة تحت المبنى لتصريف المياه الملوثة، وان ندفن كتل الجرانيت المشعة ؛ او ان تهلك نصف البشرية.
وعلى مدى ساعات، بذل المتطوعون جهودا أسطورية.
لقد كافحوا وصدورهم عارية؛ بالمعنى الحرفي، لان الحرارة بلغت في موقع الكارثة، معدلات عالية، وما كانوا يحتملون الملابس الواقية الثقيلة؛ وتمكنوا من مهمة عنوانها ::
نضحي ليحيا العالم!
لجميعهم احني هامتي .
ولأرواحهم السكينة والسلام الأبديين .

أحدث المقالات

أحدث المقالات