القوة.. مفردة رافقت حياة بني آدم منذ بدء نشأتهم، فقد كانت بدءًا لاستحصال لقمة عيشهم، حيث يصطادون الحيوانات ليقتاتوا عليها، ثم اضطرتهم سبل العيش الى تطوير أدوات لتمكين القوة من أداء المطلوب، فكان نتاج ذلك الرمح والسهم للوصول الى مالم تطله إيديهم من فرائسهم عن كثب. وحين وجد بنو آدم أخطار الضواري تحيطهم، ابتكروا آلات الدفاع عن أنفسهم وطورها لدرء مخاطرها عليهم. وهكذا تحضهم الحياة وتحثهم متطلباتها على اختراع الجديد والناجع من وسائل الدفاع عن النفس. وحين استوطن الإنسان الأرض وصارت جزءًا من كيانه، ازداد تمسكه بها لما تعنيه له من ديمومة في حياته، فلم يجد بدا من الدفاع عن وطنه وأرضه، حتى غدا يستقتل من أجل الحفاظ عليهما، كما تفنن في تنويع سلاحه وأصنافه، وفقا لتنوع عدوه وأشكاله. وقطعا لم يكن هذا إلا بعد إدراكه أن وطنه يعني وجوده، فبه يكون.. ومن دونه لايكون.
ومع تناسل بني آدم تناسل الخير والخيرون، مقابل هذا تناسل وتناسب وتصاهر الشر والشريرون في مناكب الأرض، فبدت موازينها معتدلة تارة بفعل بسط الخيرين أفكارهم، ومقلوبة تارات أخرى بفعل الشريرين ومعتقداتهم ومكائدهم وغدرهم، وبين هذا وذاك نشأت دول ودالت أخرى. من بين هذه الدول أرض وادي الرافدين التي شهدت منذ الأزل تكالب الشريرين عليها، مع أن أغلب الخيرين والصديقين والأولياء والأتقياء عاشوا فوق أرضها، وكثير منهم وارى جثمانهم ترابها. فأرض مثل هذه من الواجب الحفاظ على إرثها الحضاري، وهذا لن يتم إلا بتوفير حالة التمكن والقدرة والسيطرة والهيمنة لدى حاكميها ومن يتقلدون مراكز السلطات العليا فيها، لاسيما المسؤولون عن حمايتها، وتزداد الحاجة الى القوة أكثر من هذا، عندما يكون زمام الحكم بيد نفر ضال ليس لاعوجاجه تقويم بالنصح والإرشاد، فتغدو القوة بكل اتجاهاتها ودرجاتها، الوسيلة الوحيدة في التعامل مع انتهازيين ونفعيين ومفسدين لايملكون من الشرف والقيم والأخلاق والمبادئ حدا أكثر مما موجود في الضباع والثعالب، لما تحمله من صفات المكر والغدر والخديعة.
بعودة بسيطة الى حقب التاريخ وما سجل في أسفاره من أحداث كانت فيها الخروقات آخر شيء محتمل الوقوع، يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من المبهم من الأمور، وتتضح الرؤية وتنجلي الأسباب والمسببات أمام الأعين والبصائر والأسماع، وتزول كل الشبهات في كيفية حدوث الخرق. إذ أن سور الصين العظيم الذي يبلغ طوله 2400 كم والذي يعد مشروعا دفاعيا عسكريا قديما بارزا ونادرا في التاريخ المعماري البشري. وهو ليس سورا فقط، بل هو مشروع دفاعي متكامل يتكون من الجدران الدفاعية وأبراج المراقبة والممرات الاستراتيجية، ويضم ثكنات للجنود وأبراجا للإنذار وغيرها من المنشآت الدفاعية. ويسيطر على هذا المشروع الدفاعي نظام قيادي عسكري متكامل. ولكن رغم كل الجهود والأموال التي بذلها الحكام الصينيون في بنائه، لم يقم السور بمهمته المطلوبة في الدفاع عن البلاد ضد هجمات الشعوب البدوية (البرابرة). ولم يصد الغزوات التي قام بها أباطرة ملوك “تشنغ”. إذ تم اختراقه أكثر من مرة، والسر في هذا لم يكن لضعف في بنائه او لقوة خيالية في المهاجمين عليه، بل هي الخيانة وحدها كانت السبب في اختراقه، ووحدها الخيانة هي التي فتحت الثغرات أمام العدو وسهلت مهامه.
الخيانة اليوم في عراقنا الجديد متشعبة، فالأحزاب تخون مبادئها المزعومة، والسياسيون يخونون قسمهم ويمينهم الدستورية، فالخيانة هي السبب الرئيس الذي وضع مقدرات البلاد تحت تصرف أسافل الناس وأراذل المخلوقات، والخيانة اليوم هي التي هتكت الأعراض وسرقت الأموال.. والخيانة اليوم هي التي جردت البلد من خيراته.. وهي التي أودت بالحال الى ماهو عليه، فهل ننتظر خونة آخرين على الطريق ليجْهزوا على ماتبقى من العراقيين وأملاكهم وأرضهم وعرضهم؟
فللحد من تداعي ماوصلنا اليه أكثر، يجب قطع دابر الخيانة من أصله، كي لاتأتي علينا فروعها غدا ويكمل الخائنون التهام العراق وابتلاعه، وأول الطرق للحد من الخيانة هو ردع الخائنين بالقوة ثم القوة ثم القوة، وبغيرها ستكون الحلول ترقيعية والعلاجات غير ناجعة، ولن تكون للرقية جدوى غير تبليغ السم في العروق، لاسيما والخونة بارعون باللدغ في المقتل.