عن دار كنعان للدراسات والنشر، صدر للشاعر العراقي المعروف رياض النعماني كتاب أسماه مقام الفيروز، وأكاد أجزم بأنه كان موفقا في إختياره عنوانا كهذا، لما تضمنه من إيقاع ووقع مريحين، محببين من لدن المتلقي. حاذرَ ( رياض) أن يسميه ديوان شعر بل ذهب الى ما أعتبره نصاَ مفتوحا، ومن يدخل ويجول في ثنايا الكتاب سيكتشف ذلك ومن غير عناء. وفي حالة كهذه یكون عن قصد أو دونه قد (تحرر ) أو لنقل نجح في التخلص وفي فقرات واسعة منه من سلطة النقد والرقيب المتزمت، التقليدي النزعة والميل، خاصة إذا ما راح هذا النوع من متذوقي الشعر ورواده ومحبیه، (نابشاً) في التفعیلة والوزن وما تقتضیه ضرورات الشعر وشروطه.
وإذا ما كان لنا من رأي يضاف الى ما تمَّ ذكره، ففي الكتاب وبعد التوقف والقراءة المتأنية ما يمكن قوله عن وضوح في الحهد، من حيث إختياره وتوظيفه لطبيعة المفردات، فهي شفيفة، عذبة، وربما بالغ في (نعومتها) ورقتها، ولا أرى في ذلك من ضير أو غرابة، فلكل كاتب الحق في أن يستمد مفرداته من قاموسه الشخصي، الذي نما وكبر معه وباتوا على صحبة دائمة. لكن وعلى ما يبدو ولكي لا يغمط حق الكاتب وعندما إختلى بقلمه، راح مراعيا مقتضى النص وسطوته واتجاهاته ومناخه أيضا. جامعا وعلى راحة يديه وبإسترخاء عالٍ بين فنَّين أو شكلين من الكتابة، قاطفا وكيفما يروق له من هذه الزهرة ومن تلك، وهذا وعلى ما أظن، يُعدٌ من بين أحد شروط الكتابة الناجحة.
إذن لم يحتر رياض كثيرا، فبدا كما الذي حسم أمره مبكرا وليستقر وكما سبق القول على شكلين من الكتابة، بين تلك الكلمات الموزونة التي تعشقها اﻷذن اﻷمارة بالذوق الرفيع وتطرب وتجنح اليها حين تغنى، وبين ذلك النوع من الكتابة والمسمى نثرا، حيث لا قافية ولا سجع ولا من حضور لميزان الفراهيدي، غير انّا وفي هذه الحالة، علينا أن لا يأخذنا الإعتقاد بعدم وجود ضوابط لشكل الكتابة اﻷخير، بل ستجد القارئ مدفوعا وبتساؤل مشروع: الى أين سيفضي بنا نصٌ كهذا؟ وأي الدروب التي ينبغي علينا سلكها، كي نصل الى ما ينتويه الكاتب. بمعنى آخر سيبقى صاحب النص تحت سلطة ومن نوع ما ومهما تفنن أو تنوعت وتعددت أساليبه. عموما وإذا كان لنا من قول فإنَّ اجمل النصوص ما كُتِبَتْ نثرا وتشم منها رائحة الشعر، وشعرا تحسه قريبا وصديقا حميما للنثر، وأبهى أشكال الكتابة مَنْ نجحت في أخذك الى مديات بعيدة، حالمة، حيث الراحة والمتعة، حتى بلوغ الغاية المرتجاة.
أحيانا، (الملاحظة هذه بالذات تتمحور حول كتابه اﻷخير حصرا) وحين يشعر رياض بأنه في حرج من انسيابية الكتابة وتدفقها وفي دقة التعبير أيضا عما يجول بخاطره من أفكار، ستجده مضطرا للجوء الى أحد اﻷساليب التي ما إنفك الكاتب، أي كاتب من الإستعانة بها والركون اليها والمتمثلة بالسرد التفصيلي، والتي قد تصل بالقارئ الى ما يشبه حالة من الملل، خاصة من قبل أولئك الميالين والباحثين عن الإختصار والتعبير المركز عن أية فكرة، الاّ انه وفي كل اﻷحوال فحل كهذا يُعتبر مخرجا مشروعا ومبررا، وقد يجد له صدى إيجابيا من قسم آخر من القراء. وإذا أردنا التوقف عند اﻷسباب التي تجعل منه (أي من الكاتب) متعثرا في كتابته، فأمر تفسيره على ما أظن ليس بالصعب، فمن غير المعقول أن تتوفر له ذات الشروط التي تجعل من منتجه على سياق واحد ونسق واحد ومرضي عنه أيضا، أو سيؤدي الهدف المعول عليه، وبذات الرشاقة والكفاءة المنتظرة، بل ان بعض من الزلل إذا ما سمّيناه كذلك ربما سيأتي بالفائدة على المتلقي، فقد يدفعه للتوقف طويلا عند النص وربما ستجده معيدا قراءته، ولكن هذه المرة من زاوية أخرى وعين أخرى ومن منطلق نقدي، وهنا لا أتحدث عن أي قارئ بل عن ذاك الذي ينبغي للكاتب أن يحسب له حسابا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أنف من تقديم فلا بأس من الإستشهاد ببعض نصوص رياض والتوقف عندها، ففي مفتتح كتابه يقول:
خارج على سلطة النص،
خارج من جملة الحد الى المطلق
في الذرى التي تواجه
اللاشيء
واﻷبد
نحو الضراوة والرذاذ.
بهذه الكلمات المكثفة الدلالة والتي يفتتح بها كتابه، سيدعوك رياض للذهاب معه الى فضاءات رحبة، بحثا عن الحرية وبكل ما تحمل من دلالة ومعنى، فهو الرافض للقيد ومن أي مكان أو جهة أتى. وكي لا ينحسر التفسير في إتجاه واحد فعبارته السابقة لها أكثر من بُعد، فهو العاشق وهو المتمرد السياسي وهو المتصالح مع الوسط الرافض لكل أشكال القمع.
وفي جملة مباغتة وهو يواصل نصه ستقف طويلا ليبهرك القول وبصورة شعرية لافتة:
انه ياقوت يسهر في ماء الرمان.. ياله من هطول فريد.
وفي ذات الصفحة، سيعلن عن إحتجاجه وبلغة لا تخلو من العتاب والملامة:
قُُلْ لي أيها الجديد الذي لم يأتٍ بعد.. ماذا تقول؟
ماذا أقول لنص الحاضر؟
بأي شيء أعد السريرة
والسر
بغير هذا الخراب؟
ثم يمضي الشاعر متسائلا:
فأين المنفذ؟
………
ليعود مجيبا على رفضه وصرخته اﻵنفة:
كل شيء هنا حطام،
ضواري حاسرة، وبعمائم تطارد النية والسؤال.
عند هذه العبارة ستتضح الصورة أكثر، فهو يتحدث عن وطنه المبتلى بالقادم من مجاهيل التأريخ ومعارك يثرب والحامل معه ثأرا طال أمده حتى تجاوز الخمسة عشر قرناً.
ضاعت على رياض الطرق والدرابين المحببة اليه، ففي كل مرة ومع كل عودة من مغتربه، سيجد الكثير من اﻷمكنة وقد طالها الحيف والتغيير، لكنه سيبقى يحن اليها، فهي المبتدى وهي مرجعه اﻷخير:
لي ظل يغفو على عتبات البيوت في حارات
تضيق،
وتضيق
وتضيق حتى تكاد تُمحى من فرط النسيم وعذوبة الظل.
إذن هو لم يفقد اﻷمل، وسيظل يلهج بإسم إحدى المدن المحببة اليه:
يا شآم
يا شآم
يا شآم
حتى يصل بك وبثقة راسخة ورغم كل المآسي التي تمر بها، أملا في أن تنهض وتقف على رجليها، شامخة، قوية، بجذورها الراسخة وبصلتها باﻷرض التي أنجبتها، وأن تتفتح أزهار ياسمينها من جديد:
وستولدين.. ايتها الشام وستكبرين
هو متفائل إذن رغم كل الجراح الغائرة، وسيرى في اﻷفق ألوان طيفها السبعة:
المجد للمفاجئ
المجد للذي يباغت عصره.
لكنه سوف لن يخفي إحتجاجه ورفضه لبعض النظم الحاكمة، المتسلطة، والتي ما انفكت تستحضر التأريخ ومن أنذل أبوابه:
هذا الوله بالماضي الميت،
هذا التقدم الذي
يرجع للوراء
عبادة الكهوف، وأزمنة الظلام
والغبار
والخرافة
والنواح
وتقمص الذلة
وعصور السبي اﻷولى .. كم ترهقني
هذا العداء للمستقبل أدار الوجه
الى القفا.
وكي تكتمل الفكرة ونمضي فيما ذهب اليه الكاتب، فموقفه مما يجري لم يبنَ على فراغ، فعنده من اﻷسباب كثيرها ومنها على سبيل الذكر:
الظلمة المهددة، المخيفة والدم والخراب
ينتظرون الشرق.
هو جرس إنذار إذن، أراد إسماعه لمن في أذنه صمم:
الى أين يمضي الطاعون بهذه الجموع؟
بعد هذا الفناء …
أي فناء ينتظرنا؟
الولايات
الولايات
الولايات
ولاية الدم
ولاية الفجيعة
ولاية بغداد
ولاية المحن
ولاية الرقة
ولاية الطاعون والفناء.
انه لا يتحدث عن بشر بكل تأكيد فالفرح والسعادة لا يستويان ولا يلتقيان بمن تدجج بالحقد وبالكراهية:
كيف يبتهج المرء وهو يحمل سكيناً؟
وربما يصف حالة عاصمته بغداد وهي تأنٌ تحت ضغط وتأثير إحتلالين، ما جاء منها من خارج الحدود وكانت له الكلمة الفصل في رسم خطوط خرابها. وَمَن تولد من داخلها وطابت له لعبة القتل المجاني والإرتباط الرخيص وتوزيع الولاءات و(إهدائها) الى خارج الحدود، فأينما ولَّيت وجهك ستصطدم بجيوش من العبث والحثالة وووو، وهنا يتسائل عَمَّنْ صنعها وَمَنْ يقف ورائها وفي أي المطابخ تمَّ إعدادها:
ماذا تقول هذه الكانتونات
التي صنعتها قوة السلطة التابعة
ماذا تقول هذه الجدران العازلة
والأنفاس التي تمتد وتمتد.
لذا ضاقت الطرق كما ضاقت العبارة، فراح مستعينا برائحة العشق ورائحة العطر التي تركها هناك يوم كان صبيا. قال في سره لا تخطأ يا رياض فلا زالت تلك النخلة الباسقة دليل خطواتك الواثقة، ولسوف لن تضيع أو تفقد صلة الوصل بمن تُحب وتهوى:
من أين أمضي الى بيتي،
والجدار يغلق المدى والهوى
أما وإنَّكَ سألت عن شجرة الرمان فهي لا زالت طرية، رغم محاولات العبث التي طالتها. هم لا يعشقون الحياة فلا تقلق، هم لا يعشقون الحياة فلا تحزن:
كيف يتمكن الكائن من قتل شجرة رمان
ريّانة بالندى وحرير النهار الجميل
واﻷغاريد؟
دعك من هذا كله، فقد مرَّ من قبلهم الكثير من الغزاة، وما عليك الاّ أن تعيد صياغة الخلق والجمال. (لا أخفيكم سراً فقد أصغى رياض لنصيحتي) فراح ممسكا قلمه من جديد:
والآن …
وقد خُلق
أمن نور
أم من دمع وفجيعة؟
ما زلتُ، وأنا في ذروة لحظة التقهقر
أحاول مزج البوذا
بيسوع،
بغيفارا…
في الهزيمة أواصل دفاعي اليائس عن كلمة الإنسان
وإنقاذ رايته من التلوث
سلطتي.. كل هذا الحب
ولن أنحني
أو أخون.
هنا سيدفعك صوته الإحتجاجي الى التساؤل: مَنْ يقف وراء هذا الخراب؟ مَنْ عاثَ في السلالة الطيبة، سلالة الطين وروح كلكامش وشريعة الحق التي سنها أجدادنا الأولون، مَنْ يتحمل وزر هذي الجريمة وضحكة تلك الطفلة التي أسكتتها طلقة عابرة، طلقة غاشمة:
الى مَنْ أتوجه بصرختي الكونية هذه؟
الكل إشترك في الخطيئة، … الخالق
والمخلوق
أين المنقذ؟
كلما خُلق كائنٌ.. كي يخلق الخلق الخلاق الجديد
تتنادى لذبحه الطوائف
والعشائر
والظلمات السرية للعالم (الحر)
الرهيب.
بعد هذا التصاعد في وتيرة الحماسة حتى بلغ الذروة في وجعه، سيجد رياض نفسه أن لا مناص ولا مفر من الهدأة وإن قليلا، وخير مَنْ يستعين بها لراحته هي حبيبته، لذا راح مصغيا لها كذاك الذي أراد حفظ قواعد العشق عن ظهر غيب:
حبيبتي .. تلقي عليَّ وصايا شعرها الراكض في الكستناء
وتعيد في حضرته فضاء اللغة الى حليب الغمغمة اﻷولى،
ولكن، هل حفظَ الدرسْ، إذن لنقرأ ما كتبه الشاعر:
عرفت اﻵن كيف تكون التقوى
فرساً في جسد ورط البرق بزهر المشمش والصيف، وأمر
لا يعرفه الاّ الراسخ في اللوز.
وفي معادلة ملفتة يحاول فيه الكاتب صياغة نموذج انساني، قد يمثل بالنسبة له مثالا ناجحا، سيستعين به في سبر مسالك الحياة وكيفية فهمها والتصدي لمصاعبها، ولعلها تعكس طريقته في التفكير أو لنقل النموذج الذي يسعى اليه ويستقي منها معارفه وأسلوب حياته، لذا تجده جامعا ثلاث شخصيات، لعبت دورا مصيريا في جر الكثير من الشعوب نحو إقتفاء أثرها والسير على خطاها وإن أتت من مشارب مختلفة:
ما زلت وأنا في أعلى التقهقر
أحاول مزج البوذا
بيسوع
وغيفارا
ستلمس من كاتبنا أيضا، تلك الضربات والإستعارات الصوفية وما يرافقها، والتي يروق لقسم كبير تسميتها بالشطحات، لذا وأثناء التوقف على عدد من صفحات الكتاب، ستظهر أمامك بعض العبارات الصارخة، التي تؤشر الى مدى تأثره بالفكر الصوفي وتلك النزعات السامية التي تميّزهم عن غيرهم. ومن بين ذلك على سبيل المثال، سنجد بعض الإستخدامات وأظنها جاءت في أماكنها وفي توقيتاتها المناسبة:
هو النور إذا استوى على العرش
………….
أنوار حديقة مولاي
(السهروردي)
…………….
أخبرني أين أنا
ﻷدلني علي
إذن فالحلاج كان حاضرا في نص رياض، مثلما حضر بشر الحافي ومعروف الكرخي والجنيد البغدادي وجلال الدين الرومي وغيرهم الكثير.
وخير ختام في نص رياض المفتوح، ما عطَّرَ به كتابه برائحة المسك، رائحة حبيبته بغداد، لِمَ لا وهي حاضرة الدنيا وشاغلة الناس، وستعود الى أهلها وإن بعد حين، وسنعزف لها أغاني المجد، أغاني الحياة:
من أين لبغداد كل هذا الضياع، والظلام، والرماد والخراب
والجروح
والألم.