_ أفتى المرجع الديني (كاظم الحائري)، بتحريم بقاء أي قوة عسكرية أمريكية في العراق تحت أي عنوان.. مدربين أو مستشارين.. مؤكدا على خيار المقاومة.
_ إلى متى يبقى ولد الخايبة المساكين من الشعب العراقي بين فترة وأخرى.. يرفعون راية لا إله إلا الله..ويهتفون.. قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار؟
_إشكالية معقدة اخترقت المجتمع العراقي، وهم رجال الدين الذين قفزوا على السلطة وهيمنوا على مقاليد الحكم، فهم يعتبرون أنفسهم الأجدر بقيادة البلد، لطالما أنهم يمثلون الإسلام الصحيح في رأيهم، أما باقي الشعب جاهل أو ربما كافر.
_ السؤال.. هل السيد (الحائري).. يدعو إلى القتال أم الجهاد؟ فهناك فرق كبير بينهما.. فالجهاد خاص، أما القتال فهو عام.. بيد أن آلاف البشر قُتل بسبب الفتاوى المخالفة للشرع وتحديدا عند إطلاق الفتاوى التكفيرية.
فلنناقش هذه الفتوى من عدة زوايا:
_المرجع الديني (كاظم الحائري).. هو المُنظر أو رجل الأيديولوجيا، وهو عادة يواجه واقعا ما، فيبحث له عن تفسير مقبول، فإن وجد عاد إلى التاريخ والنص المقدس لمحاولة إثباته، ثم يرسم للمستقبل، وبعدها يضع الإستراتيجية المحددة للتغيير المطلوب.والأيديولوجيا” بهذا المعنى المتسامي للاجتهاد والمتساوي بطريقة ما مع الدين تجعل إستراتيجية الحل ذاتها أي الفتوى مقدسة، وتجعل الأداة المقترحة هي الحل الوحيد سواء تحقق الهدف أم لم يتحقق”(1).. (ومن رحم هذا المخاض تولد أغلب فتاوى جماعات الإسلام السياسي الشيعية والسُنية).
وقبل أن نناقش فتوى الحائري، لابد من التطرق وباختصار إلى مسألة الجهاد في الفقه الشيعي:
في ظل غيبة الإمام الثاني عشر، استلم المجتهدون قيادة الأمة، وهم علماء مطلعون في الإسلام، بمثابة وكلاء إلى حين عودة المهدي. فترك هذا الانتقال للسلطة من القيادة المعصومة إلى القيادة غير المعصومة مجالا للنزاع،لاسيما من ناحية متى يجب إعلان الجهاد وإذا ما يجب إعلانه. وفي النهاية برزت مدرستان عالجتا الدور الروحي والسياسي للعلماء وهما:
أولا.. المدرسة الإخبارية.. بشكل عام، على غرار الإسلام السُنة، أن القرآن وأقوال النبي والأئمة كافية لتوجيه المؤمنين من دون استخدام الاجتهاد، أي أن المدرسة الإخبارية رفضت شرعية الجهاد في خلال غيبة الإمام.
ثانيا.. المدرسة الأصولية.. وهي أن المؤمنين طلبوا من المجتهدين الشروع بالاجتهاد لمواصلة توجيه الأمة. وبحسب هذه النظرة،على كل مؤمن أن يتبع أحد المجتهدين، فيكون هذا المجتهد بمثابة مرجع تقليد،أي نموذج يحتذي به ويُمكن إتباعه. وأصبح كبار المجتهدين يمثلون المرجع الذي يخضع له كل الباقين. وبالتالي، تولى كبار المجتهدين الواجبات الدنيوية التي كانت تعتبر سابقا من صلاحيات الأئمة المعصومين. فباستطاعة المجتهدين الآن، من جملة أمور أخرى، أن يعلنوا الجهاد (الحرب المقدسة)، وأن يصدروا أحكاما قانونية ملزمة عبر تطبيق أحكام المنطق على المصادر الإسلامية الموجودة.
وفي النهاية انتصر نموذج المدرسة الأصولية على نموذج المدرسة الإخبارية، وأتت النهاية المنطقية لأهلية كبار المجتهدين، كوكلاء الإمام الثاني عشر، في فكرة ولاية الفقيه الخاصة بالخميني (حكم الفقيه العادل،وصاية الفقيه). ومن المهم الذكر أنه، رأى معظم المجتهدين وما زالوا يرون أن الجهاد التوسعي أو الهجومي ليس شرعيا في ظل غياب الإمام الغائب. وفي المقابل، يعتقد معظم المجتهدين على غرار الفقهاء السُنة أن الجهاد الدفاعي ضد الاعتداء الأجنبي على الأمة إلزام(2).
إذن كيف نقرأ فتوى الحائر.. هل هي فريضة أم من السُنة أم أمر مستباحا؟
أولا.. الفريضة.. فهي أمر سيادي من الله تعالى، بمعنى، ما أوجبه الله على عباده من حدوده التي أمر بها ونهى عنها.. وهي معلومة أصبحت معروفة لدى جميع المسلمين بالعالم، بل وحتى باتت معلومة لدى غير المسلمين أيضا. إذن من دون أدنى شك لم ولن تكون مسألة قتال الأمريكان يوم ما فريضة..ومن يحاول أن يضع هذه المسألة في سياق (الجهاد)، فمن جاهد وقاوم الأمريكان من قبل.. أيا كان ومن مختلف الفصائل، فقد أدركوا بعد حين بأنهم واهمون وحساباتهم العقلية كانت تحت الصفر.
من هذا المنطلق يذهب جميع فقهاء ومنظورا الإسلام السياسي ، إلى ما نسميه (بالمعجزة)، بمعنى، لا يضعون الفتوى في سياق التفكير الموضوعي، لكنهم يصدرون الفتاوى من مبررات مزدوجة الأزمة.. بين الواقع المتخلف من ناحية، وبين النص المستدعى من ناحية أخرى، وبينهما قواعد رابطة في أصول الفقه الإسلامي. وفي مثل هذه الفتوى التي تدعو إلى القتال والجهاد، يستشهد الحائري كما غيره في فلسفة الإسلام السياسي ببعض الآيات القرآنية ولكن بشكل مجتزأ. على سبيل المثال ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)، (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )،هنا علق الحائري فتواه على قانون (القلة)، متناسيا القوانين الموازنة لها في القرآن مثل ( إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)، فالنسب بحسب قوانين القوة والضعف في سياق التاريخ، كان يعتمد على الكم البشري وليس على نوعية السلاح، والعناصر الذاتية من تكنولوجيا متطورة وتقنية عالية وغيرها، ما تتمتع به أمريكا اليوم. وبهذا يسعى (الحائري)، بنقل فتواه إلى واقع الحل السياسي الفعلي. ووفقا لما تقدم سيتحطم منطق (المعجزة)، ولكن تبقى الفتوى تحت عباءة القداسة، ولا يجب الاقتراب منها، وذلك لما يتمتع صاحب الفتوى أيا كان من (سطوة روحانية) على أتباعه.
ثانيا.. هل قتال الأمريكان من السُنة.. عند علماء أصول الفقه، تعتبر السُنة، هي المصدر الثاني للتشريع، ويقصد بها الحديث النبوي، وعند علماء السُنة، فهي ما دل عليه الشرع من غير افتراض ولا وجوب، وعند علماء العقيدة، السُنة هي، هدى النبي عليه أفضل الصلاة والسلام في أصول الدين، وما كان عليه من العمل والعلم والهدى. وهنا نعود إلى السؤال في مقدمة المقال..هل الفتوى هي للقتال أم الجهاد؟
” أن الجهاد هو حالة خاصة من القتال، فالقتال عام والجهاد خاص، فكل جهاد هو قتال والعكس غير صحيح، فليس كل قتال جهاد، وعليه يمكن تصنيف القتال الدائر بين الناس إلى ثلاثة أنواع:
الأول.. قتال الكفار فيما بينهم، وهو قتال باطل سواء أكان من أجل العقائد المختلفة في ملة الكفر أم بسبب المطامع والمصالح.
الثاني.. قتال المسلمين للكفار من أجل إعلاء كلمة الله، وهذا هو الجهاد في سبيل الله.
الثالث.. قتال المسلمين فيما بينهم.”(3).
إذن ما يهمنا في موضوعنا الفقرة (ثانيا)، قتال المسلمين للكفار، بمعنى، إذا اعتبرنا جدلا أن فتوى (الحائري)، تدخل من ضمن سياق منهج السُنة والجماعة، يعتبر الأمريكان كفارا، ويجب قتالهم والجهاد لإعلاء كلمة الله! وهذا أمر يناقض الواقع، بل هي كوميديا سوداء، فالأمريكان احتلوا العراق منذ عام 2003م، ولا أريد أن ادخل بتفاصيل أصبحت مستهلكة جدا، كالقرار السيادي، ولهم اليد الطولى بقبول ورفض تعيين رئيس الوزراء وغيرها، ولكن أذكر شيء واحد فقط وهو.. بحسب ما يعرفه العالم أجمع، أن العراق والولايات المتحدة الأمريكية بينهم (اتفاقية للتعاون الأمني أو اتفاقية الإطار الاستراتيجي)، حيث تم تجسيد هذه الاتفاقية على أرض الواقع عند دخول اللقيط (البغدادي)، وجماعته الساقطون إلى العراق. إذن فكيف سنضع الأمريكان في خانة الكفار ونقاتلهم لا..بل.. كيف سنعلن الجهاد ضدهم؟ ومن أين يبدأ الجهاد يا ترى؟ من السفارة الأمريكية التي تعتبر من أكبر سفارات الولايات المتحدة في العالم، بمعنى، أن يدخل المجاهدون إلى المنطقة الخضراء ويُعلن الجهاد ضد الأمريكان فقط أم ضد كل المقيمين في المنطقة الخضراء؟
وأود أن أذكر السيد (الحائري)، بحادثة شهيرة جدا .. وهي أن مراسل البغدادية السيد (منتظر الزيدي)، ضرب الرئيس الأمريكي بوش الابن بالحذاء، في واقعة هزت العالم أجمع، لكن يا سيدنا، الحكومة العراقية اعتقلته وتم إصدار حكم بالسجن على الزيدي. أنا على يقين أن كل من يجاهد ضد الأمريكان سيُتهم بالعمالة وتخريب البلد ومن المندسين. وهنا أيضا ستتحطم فكرة (الجهاد)، لأن الأمريكان اليوم في العراق أصدقاء حميمين لساسة العراق وليس كفارا.
ثالثا.. هل قتال الأمريكان أمر مستحبا.. هنا سأعود إلى العقل التنظيمي والمسار الأيديولوجي لتيارات الإسلام السياسي عموما، حيث يقوم فقهاء ومنظورا هذه الجماعات بغسيل شامل لعقول منتسبيها أو غيرهم، كأن يكونوا مقلدين لمرجع ما أو جماعة بعينها، وتحديدا الشباب، عن طريق استنفار طاقتهم العقلية ومشاعرهم من خلال مواجهتهم ببعض المقولات على سبيل المثال (أمة خير أمة أخرجت للناس في ذيل قائمة دول العالم)، (أمة ترهبون به عدو الله وعدوكم أصبحت خائفة من عدوها)، وللمرة ثانية ينتقل المرجع أو المُنظر بعقول أتباعه ومؤديه إلى الواقع السياسي، وستكون فكرة الجهاد مسألة تحصيل حاصل. ولكن هذا كان من المفترض قد حصل كما قلنا في بداية احتلال العراق، أما في وقتنا الحاضر وما يعانيه شعبنا المسكين من تداعيات سلبية بسبب الاحتلال وما نتجه عنه من فساد ودمار للبلد، انتهت به فكرة الجهاد وبدون رجعة.
المصادر
(1).. د. جاسم سلطان، أزمة التنظيمات الإسلامية الإخوان نموذجا
(2).. روبرت رابيل، تحديد سياق الجهاد والتكفير في إطار المفهوم الشيعي، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
(3).. شايف صالح الشرادي، حكم الإسلام في القتال بين المسلمين، مجلة الوعي، العدد 352، 2016، https://www.al-waie.org