قبل اشهر ليست بالقليلة، كتبت مقالا عن اوضاع المنطقة وتطوراتها، احاول اليوم ان اضفي عليه توضيحا اكثر بسبب بعض الاحداث المهمة التي تجري في العراق. بالخصوص في هذه الايام بمزيد من توضيح البعد الاستراتيجي الذي ارتكز عليه في تقييمي للاحداث الجارية.
ان إسرائيل تضغط بقسوة شديدة على إيران اقتصاديا عبر إدارة الرئيس ترامب لاجل تحييدها في عملية فرض صفقة القرن التي وافق على قبولها اغلب الحكام العرب، والتي تشكل مظهرا لبداية عصر الاحتلال والهيمنة الاسرائيلية على عموم المنطقة، وانهاء القضية الفلسطينية بشكل تام.
اسرائيل لا تريد مواجهة عسكرية مع ايران، بل حتى تتجنب ذلك، لان المواجهة العسكرية الكبيرة مع اَي طرف سواء كان إيران او اي من اتباعها وحلفاءها الاستراتيجيين ان حدثت، سوف تطيح بالصفقة كلها وتفشل مخططاً صهيونيا امتد العمل عليه لأكثر من قرن من الزمان.
ما تفعله إسرائيل الان هو محاولة تجري بوسائل متعددة لاستنزاف إيران بمشاغبة اذرعها العسكرية في العراق وفلسطين ولبنان بالتزامن مع تضييق الخناق عليها اقتصاديا. ان الاحداث الاخيرة في العراق من استهداف لمعسكرات الحشد الشعبي واستهداف شخصياته وبعض الفصائل منه عبر برنامج تجميد الارصدة والوضع على لائحة الارهاب الامريكية، خصوصا ما حدث في معسكر آمرلي مؤخرا بقصفه بضربة جوية، يكشف عن الدور الذي تقوم به اسرائيل من خلال نافذة التواجد العسكري الامريكي في المنطقة. هذا الدورالاستنزافي مرشح للتزايد على الارض من قبل اسرائيل لانه استدراج ممنهج لايران للفخ الاسرائيلي.
ما يجري حاليا في منطقة الشرق الاوسط هو نسخة مطابقة لما حصل في الستينات وبداية السبعينات حينما حان وقت الانسحاب البريطاني لاسباب تتعلق بعدم قدرة بريطانيا على مواصلة الحفاظ على دورها في المنطقة، وكان لابد من وجود قوة جديدة تملأ الفراغ ولكن في نفس السياق والاتجاه. وجرى التمهيد للحضور الامريكي بالتعاون مع البريطانيين ولكن بسياسة امريكية جديدة تختلف عن الاستعمار والاحتلال البريطاني، لان امريكا ليست بريطانيا، وان امريكا لها تقاليدها الخاصة في العمل خارج الحدود لا تتشابه ما كان يفعله او يستحسنه البريطانيون، المهم والمطلوب هو ان تحافظ امريكا على النفوذ الغربي في المنطقة وترعى مصالح هذا المعسكر.
ما يحصل الان هو انسحاب امريكي من المنطقة لان امريكا لم تعد قادرة على البقاء فيها لاسباب تتعلق بقدراتها الذاتية وعلى اسرائيل المستعمر الجديد ان يحل محلها للحفاظ على هذا النفوذ الغربي.
اسرائيل ليست امريكا، وهي الاخرى لها قوانينها وطقوسها الخاصة في الاحتلال والتعامل مع شعوب ودول المنطقة. بدأ النفوذ الاسرائيلي يمتد في دول المنطقة ويأخذ اشكالا علنية في التعاملات الرسمية على اعلى المستويات وخرج من حالة التعامل السري. وانتهت مسألة طالما روج لها من قبل الانظمة العربية ان العدو الرئيسي هو العدو الصهيوني وحذفت هذه المادة من ادبيات الانظمة العربية بالمطلق وصار النقاش العلني الان يتركزحول مسألة ثانوية، وهي الى اي مدى يمكن التعاون مع اسرائيل والتحالف معها ضد العدو الايراني وخطره.
بالطبع ان مسألة التحالف مع اسرائيل محسومة في السر كما كانت مسألة الاعتراف بها محسومة في السر ويجري الان لوضعها في العلن بصولاة نهائية، اذ هذه الانظمة مستسلمة بالكامل لرغبات المحتل الجديد منذ زمن بعيد ولكن تتم الان تهيئة الرأي العام لتقبلها باسلوبين.
الاول: بعض الاعلانات الرسمية من بوابة بعض الاحداث منها على سبيل المثال اعلان اسرائيل الدخول في حلف تأمين الملاحة النفطية في الخليج لترويض المنطقة باكملها للقوة العسكرية الاسرائيلية والاعتراف رسميا بالهيمنة الاسرائيلية وكذلك بدور الشرطي المحافظ على مصالح الغرب بتأييد عربي تقوم فيه اسرائيل بمهاجمة اطراف محسوبة على ايران مثل الحشد الشعبي في العراق.
الثاني: تهيئة اجواء قبول شعبي لوجود اسرائيل عبر التطبيع معها تقوم به منظمات مجتمع مدني ووسائل اعلام واقلام استأجرت بشكل واسع لهذا الغرض وليس الاعلان بين الحين والاخر عن وصول شخص عربي، وغالبا ما يكون شخصا تافها لا قيمة له في اي وسط يحسب عليه، من هذه الدولة العربية او تلك في زيارة لاسرائيل وتهويل هذه الزيارة اعلاميا، الا ترويضا للرأي العام العربي والعراقي بالذات لمسألة التطبيع والقبول بالنفوذ الاسرائيلي. اما لماذا بالذات العراق، فلانه واحدة من المناطق التي حددت كساحة لتصفية الحساب مع محور مقاومة المخطط الاسرائيلي من قبل اسرائيل، وجرى ويجري بناء مراكز مدنية وعسكرية واستخبارية نشطة مرتبطة مباشرة باسرائيل، تعمل في داخله منذ عقود.
الرد الإيراني المتوقع سيكون عدم الانجرار لهذه المنازلة التي تلعبها اسرائيل وهي، الاستنزاف وكسب الوقت في اضعاف العدو لان الاستنزاف يصب في صالح اسرائيل، ولن تقوى عليه ايران للفارق الكبير بين الاقتصادين. اقتصاد يأن من حصار دام 40 عاما ولا يزال مستمرا واقتصاد يقف الغرب بكامل قوته خلفه، ولذا لن تنجر ايران لهذه اللعبة الخطرة ولن تدخل في حروب تعرف مسبقا انها تبدد قوتها وتضعفها تدريجا قم تخسرها في الاخر لان ايران لا تظن انها سوف تهزم وتؤخر نهايتها بل تظن بقوة انها قادرة على كسب الحرب وعليها عدم الاستسلام وهذه صفة تتسم بها السياسة الايرانية ومعروف عنها ذلك منذ زمن بعيد.
اذن فهي امام خيارين وربما تستخدمهما معا
الخيار الاول: الطرق بعيدا وفي اسفل الجدار باستنزاف ممولي خطة ترامب الاسرائيلية من دول الخليج في مكان لن تتورط به إيران بشكل مباشر، وستكون كمن ينفخ على الجمر لتزيد النار اشتعالا وسوف تحاول ان تدخل حلفاء اسرائيل من العرب في ازمات متلاحقة ومتداخلة تضعفهم اكثر واكثر، بل وحتى تحرقهم بها حتى تواصل النار أكل نفسها بينما تبقى إيران محافظة على قوة تأهبها العسكري هي وحلفاؤها بلا خوض اَي معركة جانبية، ومعركة اليمن بل حربها بتعبير اصح هي نار مثالية وصلت الان الى اطراف الثوب الخليجي وتغير اتجاهها من حرب لاعادة الشرعية الى حرب للدفاع عن الاراضي والمنشآت من الهجمات الحوثية، وليس ببعيد ذلك اليوم الذي سوف تشتعل النار في هذا الثوب كاملا اذا ما واصل الخليج اندفاعته المتهورة في هذه الحرب.
الخيار الثاني: توجيه رد عسكري قوي لكن محدود امام تمادي اسرائيل في استفزازاتها عبر احد حلفاء ايران ضمن محور المقاومة للوجود الاسرائيلي، لايصال رسالة قوية ان ايران جادة في مقاومتها للوجود الامريكي الاسرائيلي في المنطقة.
ايران وكذلك اسرائيل يدركان معا، ان الحرب الشاملة سوف يكون ضررها الاكبر على اسرائيل وعلى الحليف الغربي، وليس على ايران وان ليس هناك من احد بقادر على المغامرة لاحتلال ايران وغزوها وسوف ابين ذلك لاحقا.
هذا الرد الايراني سوف يكون من نفس جنس الرد على محاولة بريطانيا ايقاف ناقلة النفط الايرانية في مضيق جبل طارق، والذي اجبر بريطانيا بعد ذلك على تسوية الازمة، لانها اكتشفت ان ايران لا تخشى الحرب بل بالعكس تسعى اليها اذا ما جرب احد استفزازها، وكل ما تفعله امريكا في هذه المسألة هو محاولة خلق ازمة وليس مواجهة حقيقية مع ايران. اما ايران فانها عندما يُتحرش بها تسعى بقوة للذهاب الى المواجهة وليس الى اطالة الازمة كما حصل بالرد القوي والسريع باحتجاز السفينة البريطانية التي لم يخلى سبيلها حتى الان رغم تحرر الناقلة الايرانية لرضوخ بريطانيا بتقديم كل الضمانات لايران بعدم التمادي في لعبة حرب الناقلات وعندما تضمن ايران التزام بريطانيا بذلك فسوف يجري التعامل بود مع الناقلة البريطانية وهو درس تعلمته ايران جيدا من التعامل مع الاوربي بعد فشله بالوفاء بالتزامات الاتفاق النووي.
هذان الخياران وربما الاسلوبان هما الرد الايراني المتوقع جدا العمل به، لان ايران لن تقبل من القوى الرئيسية والكبرى في العالم الا بالاعتراف بها كدولة كبيرة في المنطقة مستقلة عنهم وعن ضغوطهم وتدخلاتهم، ويجب ان تعتبر من قبلهم كمساهم رئيسي ومشارك مهم في صنع مستقبل المنطقة.
ايران لا تخشى احتلالا ولا غزوا من احد لانها تعرف جيدا ان امريكا عندما جاءت لاحتلال العراق المنهك عسكريا واقتصاديا والفاقد لاي قدرة على المقاومة، لزمها مائة وخمسون الف جندي لتنفيذ ذلك، ومع ذلك خرجت بآلاف القتلى في عملية التواجد وكذلك حين فعلت مع افغانستان ولم تقدر على اتمام المهمة في المكانين، ولا قدرت على الحد من النفوذ الايراني المتعاظم في المكانين، ولا حين حاولت ذلك في سوريا. ولن تقدر امريكا على تأليف تحالف دولي لفعل ذلك مع ايران لأن اوربا وروسيا لن يشاركا بهذا التحالف، بل ان امريكا نفسها تريد الخروج عسكريا من المنطقة لا زيادة نفوذها العسكري وتدخلاتها. اما اسرائيل فانها اذا حاولت الحرب فانها ستقوم باقصى ما يمكن فعله هو توجيه ضربات قوية لمنشآت ايرانية مهمة، لكن يستحيل عليها احتلالها. بالمقابل فان ايران مستعدة للحرب حتى لو كلفتها خسائر كبيرة لانها سوف تجمع تأييدا داخليا كبيرا يخرج نظامها من التذمر الشعبي الحالي بسبب الازمة الاقتصادية. هذا التأييد هو رد طبيعي من شعب معروف بولائه القومي واعتزاه بهويته ولربما يتطرف البعض ليتهمه بالعنصرية الايرانية التاريخية ومهما اختلفنا في توصيف هذا الشعور فاننا لن نختلف في حقيقة وجود هذا الشعور، لدى شعب يعتز بنفسه بغض النظر عن حاكمه سواء كان راضيا عنه او لا ولن تجد الايرانيين متوحدين اكثر الا عندما يتعرضوا لخطر خارجي.
ان ايران قد ارسلت رسائل واضحة جدا لاسرائيل عبر من خلال تصريحات مسؤوليها وعبر قنوات اخرى، من انها لن تدخل حربا خارج حدودها، ولكنها لن تتردد في الرد القوي جدا على اي محاولة لفعل ذلك ان مُست في داخلها وانها لن تقبل بخنقها اقتصاديا. اسقاط الطائرة الامريكية المسيرة واحتجاز الناقلة البريطانية كانتا رسالتين واضحتين جدا على جدية الرد الايراني في الدفاع عن المصالح الايرانية الداخلية. واصرار ايران على برنامجها العسكري وعلى الاتفاق النووي وعدم التنازل عنه يؤكد ان ايران لن تقبل الا باعتبارها ند في المنطقة.
الحرب الكبرى مع ايران التي يتمناها البعض الحائر في خيالاته لن تقع، رغم كل مخاطر نشوبها على الاقل في الافق المنظور القريب منه والمتوسط، لكن استنزاف المنطقة وتحميلها مخاطر ومسؤولية هذا الاستنزاف سوف يقع حتما. والخاسر الاكبر في كل هذا على المدى القريب وبشكل لا لبس فيه ولا غبار عليه هو دول المنطقة التي ارتضت لنفسها حالة الضعف والخوف والانهزام والتبعية للاقوياء والاحتماء بهم. وهذه الدول للاسف الشديد كلها دول عربية والعراق واحد منهم بلا شك لان لا يوجد مؤشر لا شعبي ولا رسمي على غير ذلك اي دفع ضريبة صراع الانداد.