17 نوفمبر، 2024 11:24 م
Search
Close this search box.

فن الإدارة وأنماط الغباء الإداري

فن الإدارة وأنماط الغباء الإداري

– دراسةٌ موضوعيةٌ في ضوء واقع الإدارة في العراق –
الجزء الأول ( 1-3 )
معلومٌ لدى المتخصصين أنّ الإدارة عمليةٌ منظمةٌ ترمي إلى تحقيق الأهداف بطريقةٍ فعالةٍ وكفوءةٍ ، وتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة ، وتوجيهها وتنسيقها ؛ وصولاً لتحقيق أعلى مستوىً من الجودة .

وللإدارة وظائف متعددةٌ تتمثل بالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة . وهي بلا ريبٍ علمٌ وفنٌ ، فهي من جهةٍ علمٌ لأنها تعتمد الأساليب العلمية ، وتسعى لتحقيق أهدافها عبر مجموعةٍ من النظريات والدراسات العلمية المنهجية والقواعد التي تحكم العملية الإدارية . وهي من جهةٍ أخرى فنٌ ؛ لأنها تهتم بتطبيق تلك النظريات والدراسات العلمية والقواعد ، وهي تتعامل بالمحصِّلة مع الإنسان والمجتمع ؛ ما يجعلها تستلزم خبرةً وبراعةً وإبداعاً .

إنّ الإداري الناجح هو الذي يعتمد النظريات والدراسات العلمية الإدارية من جهةٍ ، كما يركن إلى خبرته العملية وقابليته الفكرية من جهةٍ أخرى ، وليس بوسعه ، إنْ رام النجاح ، الاكتفاء بجهةٍ دون أخرى ، أي لا ينبغي له الاكتفاء بالإطار النظري دون العملي ، ولا بالعملي دون النظري ؛ لأنّ أحدهما يكمل الآخر .

إنّ مَنْ يزاول الإدارة ، وهو المسمى في أدبيات الإدارة بــ ( المدير ) ، أو كما أُسميّه بــ ( الرئيس الإداري ) ، وبصرف النظر عن مدى سلطته في الهرم الوظيفي ، رئيساً أو وزيراً أو وكيلاً أو مديراً عاماً ، ينبغي أنْ يكون قادراً على تحقيق أهداف الإدارة عبر الإجراءات الشكلية والموضوعية التي يقوم بها على مرؤوسيه . ولا يخفى أنّ الإدارة تُعدُّ من أصعب الأمور وأكثرها حاجةً للحكمة والصبر والجهد العقلي ؛ فالمدير الناجح هو المسؤول الأول والأخير عن نجاح أو فشل العمل في مؤسسته .

مهارات المدير ( الرئيس الإداري ) :

وبلا ريبٍ لن يكون المدير قادراً على تحقيق أهداف الإدارة ما لم يتحلَّ بأصنافٍ أربعةٍ من السمات والمهارات :

1- المهارات الشخصية :

وتتمثل بالثقة بالنفس والمصداقية وعدم التردد والإخلاص في العمل وتحمل المسؤولية والقدرة على جذب الآخرين والتأثير فيهم ، فهو قدوةٌ لمرؤوسيه .

2- المهارات الإنسانية :

وتتمثل بقدرته على التعامل مع الآخرين ، مرؤوسين كانوا أو رؤوساء أو زملاء ، والقدرة على تحفيز المرؤوسين على العمل وكسب ثقتهم .

3- المهارات الفنية :

وتتمثل بمعرفته التخصصية بمجال العمل الذي يزاوله ، والقدرة على استخدام الوسائل المتاحة وصولاً إلى تحقيق الأهداف المنشودة .

4- المهارات الفكرية والعقلية :

وتتمثل بقدرته على التفكير والتحليل العلمي لمواجهة المشكلات ، وإيجاد الحلول العلمية المناسبة بما يمنع تكرار وقوعها في المستقبل ؛ فهو واسع الأفق وذو ثقافةٍ متعددة الاتجاهات .

من هنا ينبغي أنْ تتوفر هذه المؤهلات في مَنْ يتم اختيارهم للمواقع الإدارية ، بيد أنّ الواقع لدينا شئٌ آخر ؛ إذْ لم يتم مراعاة هذه المهارات والمتطلبات العلمية فيما مضى ، إلاّ في بعض الحالات النادرة !!

خصائص المجتمع المتطور إدارياً :

إنّ الإدارة الناجحة تحتاج أرضيةً ناضجةً ، وتتمثل هذه الأرضية بالمجتمع الناضج إدارياً ، فالمجتمع الناضج يمثِّل أرضاً خصبةً للإدارة الناجحة ، وكي يكون المجتمع ناضجاً ومتطوراً إدارياً ينبغي أنْ يتمتع ببعض الخصائص التي تميزه من غيره من المجتمعات التي تعدُّ متأخرةً في الواقع الإداري ، ومن أهم هذه الخصائص بإيجازٍ شديد :

احترام الوقت – احترام الآخر – التسامح – المنافسة المشروعة والعادلة في ميدان العمل – التفسير الموضوعي للأمور – تكافؤ الفرص – الاستقرار السياسي – وأهم هذه الخصائص بتقديري وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والنزاهة .

فإذا أردتَ مجتمعاً متطوراً في الإدارة وجدتَ فيه هذه الخصائص ، وعند عدمها ستجد مجتمعاً متأخراً إدارياً . ولا يكاد يختلف معي اثنان أنّ معظم هذه الخصائص ليست متحققةً لدينا ؛ وهو ما يغنيني عن كثيرٍ من الحديث والتعليق !!

المدير والقائد :

إنَّ الإدارة الناجحة على مستوى الدولة لا تسعى لإيجاد المدراء ( الرؤوساء الإداريين ) الناجحين فحسب ، بل لإيجاد وتنشئة القادة الإداريين المتميزين . وبصرف النظر عن الفروق المنهجية بين المدير والقائد – إدارياً – ، فإنّ صفوة القول في ذلك تتمثل بأنّ المدير هو الذي يدير العمل المكلف به ، أمّا القائد فهو الذي يبدع ويجدد ويتميز في أي عملٍ يوكل إليه ، مع شخصيته البارزة وثقته بنفسه وخبرته .

فإذا كان المدير يحمل مرؤوسيه على الأداء والعمل بالاعتماد على مجموعةٍ من الإجراءات التي رسمتها الإدارة العليا ، ولا يكاد نظرهُ يتجاوز محيط العمل ، فإنّ القائد الإداري هو الذي يهتم بالتأثير في المرؤوسين ، ويتعامل بحكمةٍ ، ويواكب التغييرات التي تطرأ ، ويسعى دائماً للتغيير نحو الأحسن بخبرته وإبداعه .

وليس بخافٍ على أحدٍ أنّ واقعنا الإداري يفتقر غالباً إلى القادة الإداريين – بالوصف المتقدم – ، ولا يوجد منهم إلاّ النزر اليسير من الذين يعتمدون على خبراتهم الشخصية ، بل أكثر من ذلك أنّ وجود المدير – بحسب الوصف المتقدم – لا يكاد يمثل إلاّ القلَّة القليلة ، وما عدا ذلك لا يعدو عن أفرادٍ كُلِّفوا بالعمل الإداري ، ممّن قد لا يتحلّون بالشروط المطلوبة على وفق ما خلا بيانه ، دون أنْ نعمم ذلك على الجميع .

ومع كل التقدير للشخصيات الإدارية المتميزة في هذا البلد ، ولجهودها الكبيرة ؛ فإنّ الواقع الإداري في العراق لا يعدُّ أنموذجاً مثالياً ، بل لا يمثل مستوىً مقبولاً على وفق المعايير المألوفة في فقه الإدارة . وليس ذلك بالأمر الجديد أو الطارئ ، بل هو قديمٌ أسّسه وأرسى دعائمه النظام الدكتاتوري البائد حينما جعل الإدارة بمستوياتها كافةً حكراً على أزلامه وأفراد حزبه ، من الذين تبوؤوا المواقع الإدارية المتقدمة لا لشئٍ إلاّ لكونهم أزلاماً لذلك النظام ولأمورٍ أخرى طائفيةٍ وقوميةٍ معروفة للجميع ، ولم يكونوا يتمتعون بالمعايير الإدارية المطلوبة . نعم هذا لا يمنع من وجود بعض الشخصيات الإدارية القليلة التي استطاعت ولوج الإدارة اعتماداً على كفايتها الإدارية الشخصية ، وهؤلاء هم الذين كانوا يضعون بعض اللمسات الإدارية على واقعٍ اصطبغ بصبغة الدكتاتورية والتخلف والغباء الإداري ، الذي كان واضحاً للعيان ، ولا سيما في المؤسسات الخدمية . ولعلكم لم تنسوا بعدُ ( بدعة الغباء ) المعروفة بــ ( المستمسكات الصدامية الأربعة ) وعلى رأسها البطاقة التموينية التي ربطوا كل شئٍ في العراق بها ، إدارياً كان أو غير ذلك ، وقد كان المواطن مجبراً على تقديم هذه المستمسكات في كل مراجعةٍ لأية مؤسسةٍ حكوميةٍ مهما كانت ، حتى غدت هذه الممارسة نمطاً بارزاً من أنماط الغباء في تلك الحقبة .

وللأسف الشديد استمرت هذه المعاناة بعد عام 2003 ، ولم يتحسن الأمر كما كان الجميع يأمل ذلك ، بل ازداد سوءاً في بعض المفاصل ، ولم يُهتم لتوفر المعايير الإدارية في مَنْ يتبوؤون موقعاً إدارياً ، ولا سيما بعد زيادة عدد الموظفين إلى زهاء أربعة أضعافٍ عمّا كان الحال عليه قبل عام 2003 ، ومعلومٌ أنّ معظم هذه الزيادة كانت بلا تخطيطٍ ولا منهجٍ ولا مراعاةٍ للمعايير الإدارية المألوفة ، الأمر الذي زاد الطين بلةً ، فلئن كنا نعاني من غباء وسوء تصرف بعض الملاكات الإدارية في الوقت الذي كان عددهم محدوداً ، فكيف يكون الحال مع هذه الزيادة الهائلة بلا تخطيطٍ ؛ إذْ غدا الواقع الإداري والإدارة في العراق بمستوياتها المتعددة – وبصراحةٍ شديدةٍ – تعاني في بعض مناحيها من استشراء ما يمكن أنْ أُسميه بلا مبالغةٍ بــ ( الغباء الإداري ) .

ولكي لا يكون كلامي نظرياً مجرداً ، سأذكر جملةً من أنماط الغباء الإداري ، السائدة والمتفشية في الوسط الإداري لدينا. وهو ما سيكون محلاً للبحث والتحليل في الجزء الثاني من هذه الدراسة إنْ شاء الله .

أحدث المقالات