خاص: إعداد- سماح عادل
“نوري الراوي” فنان تشكيلي، كاتب، ناقد فني ومؤرخ للحركة التشكيلية في العراق.
حياته..
ولد في قرية راوة في الفرات الأعلى عام 1925، في أسرة كان هو آخر أبنائها. كان والده معماريا حيث شيد جامع المدينة. نشأ “نوري الراوي” في بلدة صغيرة في أعالي الفرات هي مدينة “عانة”، حيث تلقى فيها تعليمه الابتدائي. وقد تركت هذه البلدة الريفية بمشاهد طبيعتها الساحرة وبيوتها وقِببها البيضاء وأنين نواعيرها الدائرة بجريان مياه الفرات أثرا عميقا وبالغا في إنتاجه الأدبي والفني. وظل حضورها يلازم رسومه كرحلة خيالية تمتزج فيها هذه الصور الصوفية بين شفافية الحلم وخيوط الذاكرة.
في المرحلة المبكرة من حياة “نوري الراوي” 1933- 1934 بدأ ميله الأدبي والفني يرتسم من خلال نشاطاته المدرسية فقد كان خطيب المدرسة ورسامها. انتقل بعدها إلى بغداد في عام 1936 لإكمال دراسته في المدرسة الكرخية المتوسطة. خلال تلك الفترة أنصب اهتمامه الأدبي على الشعر المنثور حيث كان من أوائل من كتبوا قصيدة النثر على الصعيد العربي. وقد نشر عام 1937 تحت عنوان “4 يناير” و “إليكَ يا طائر الأجواء” في صُحفِ “بغداد” و “بالك” و “العدالة” .
وقام كذلك بنشر مقالاتهِ الأدبية في المجلات العراقية أولًا “الرافدين” و”المناهل” وبعدها في المجلات العربية “الأماني”، “العرفان” و”الأديب” التي تصدر في بيروت وفي مجلة “الرسالة” المصرية الصادر في عام 1940 بعنوان “فن يستيقظ”.
كان لقائه الأول مع “المرسم” حيث مارس الرسم بألوان الباستيل كم اطلع خلالها على رسوم مشاهير الفنانين العالمين. أنتقل بعدها للدراسة في معهد المعلمين في منطقة الرستمية خارج بغداد. وهناك فتحت أمامه أبواب جديد على الرسم بمساعدة “بهجت عويشي” و”قاسم ناجي”. في عام 1941 تخرج من المعهد وأنتقل للتدريس في المدرسة الغربية في “عنه” ومن ثم ثانوية الرمادي. ومن طلبته في تلك الفترة التدريسية: “سعدون غيدان” و”تايه عبد الكريم” و”عبد الرزاق سعيد النايف” والشاعر “يوسف نمر ذياب”.
بدر شاكر السياب..
نشأت العلاقة بين “الراوي” و”بدر شاكر السياب” في بداية الخمسينيات من القرن الماضي 1953 عندما جمعتهما الوظيفة الحكومية في “مديرية الأموال المستوردة”. وتوطدت العلاقة لتصبح أكثر من صداقة حميمة. وقد اشتركا معا في ترجمة ونشر كتابات عن سيرة حياة الفنانين الانطباعيين. وجمعتهم أيضا رابطة الأدب والشعر والاهتمام بمتابعة التيارات الفكرية المعاصرة في تلك الفترة. وعندما اُعتقل السياب عام 1959 بسبب مواقفه السياسية ضد الحزب الشيوعي تدخّل الراوي والمحامي محمد العبطه لكفالته وإخراجه من الاعتقال. وقد كان للراوي دورا مهما في بناء وإرساء العلاقات بين السياب والفنانين العراقيين حيث كانوا يجتمعون معا في بيت المهندس المعماري قحطان المدفعي.
رواد الفن التشكيلي..
ويعد “نوري الراوي” واحداً من رواد الفن التشكيلي العراقي الحديث وشارك في إرساء أُسسه إلى جانب أسماء مهمة منها “فائق حسن”، و”جواد سليم”، و”محمد غني حكمت”، و”كاظم حيدر”، و”خالد الجادر”، و”إسماعيل الشيخلي”، و”حافظ الدروبي”، فضلاً عن نخبة من عمالقة الفن التشكيلي في العراق. واستطاع أن يؤسس لنفسه مساراً خاصاً على الخارطة الفنية عندما بدأ باكتشاف أسرار القيمة اللونية، وأسرار جمالية اللوحة منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي حيث الانطلاقة الحقيقية والقوية لمشواره.
يمتزج الرسم عند “الراوي” بحالة وجدانية وعاطفية. وتحتضن لغته التشكيلية اليوم مفردات من الشعر وتتماثل فيها الألوان كإيقاعاتٍ موسيقية. فكل الفنون عنده هي روافد لمزيد من التجليات. والملاحظ أن مدنه التي يرسمها تخلو من أي وجود بشري فهي قرى تبعث كالحلم يبث هو فيها روحا شعرية وموسيقية. لأن “الراوي” ليس ناسخا للطبيعة وإنما هو متأملا فيها فهو مثل كصوفي وليس كآلة تصوير. وعندما يضم إلى لوحاته أبياتا من شعر الحلاج أو ابن عربي أو عمر الخيام فهي تأتي كإضافات تعبيرية من نسيج العمل وليست إقحاما أو لصق خارجي. أن الشعر عنده هو نغمة الإنسان الداخلية.
بدأ ” نوري الراوي” إنتاجه التلفزيوني مع انطلاقة التلفزيون في العراق فقدم أول برنامج له بعنوان “زاوية الفن” عام 1957 ثم “مع الفنانين” في عام 1958 وتغير اسمه إلى “أعلام الفن” في عام 1959. ثم جدد البرنامج وغُيرت صيغتهِ ليُصبح باسم “نافذة على الفن” في 1961. في العام 1962 أنتج برنامج آخر مهمته تقديم أعلام العلم والثقافة في العراق بعنوان “قابلوا الموهوبين”. ثم أنتج برنامج آخر هو “آفاق الفن” في 1968 و”عالم الفنون” عام 1970. ومع تشعب وتوسع الاهتمام الفني أقتصر برنامجه “فنون تشكيلية” 1974 و “آفاق تشكيلية” 1984 على العناية بالفنون التشكيلية فقط.
الرسم والشعر..
في حوار معه أجراه برنامج (رحلة الأيام) الذي أعده وقدمه “عبد الوهاب الشيخلي”يقول “نوري الراوي”: عن بداية الرسم لديه: “بدأت وأنا في الصف الأول ابتدائي، ومع الأسف الشديد كنت احتفظ بدفتر الرسم إلا أنه ضاع من جملة ما ضاعت من أيام الطفولة، وأنا أتذكر جيدا كيف كنت أرسم الرجل في دفتر الرسم المدرسي في سنة اعتقد 1929، في تلك الأيام كانت طبعا الألوان غير موجودة وغير متوفرة وقلم الرصاص هو الشيء الوحيد الذي يوصل الطفل بالدفتر ويوصل أحلام الطفل إلى الدفتر، وكنت احتفظ بتلك الصور لكنها انتهت، طوال أيام الدراسة الابتدائية حتى الصف الخامس الابتدائي وكنت طالب في المدرية الغربية الابتدائية كنت رسام المدرسة ورسمت رسوم على مساحات أكبر على الكرتون مثلا وعلقت في الصف والمدرسة، كنت أميل إلى هاجسين في نفسي، هو هاجس الرسم وهاجس الكتابة فكنت أبحث عن الكلمة المعبرة الكلمة الغريبة الجديدة المدنى اللغوي المؤثر وكنت استخدمها في دفتر الإنشاء المدرسي وأنا في الصف الخامس ابتدائي، فكنت في تلك المرحلة الدراسية أمثل خطيب المدرسة، ولدي دفتر مؤرخ لسنة 1932 1933 1934 فيه نماذج من هذه الخطب وقد نشرت جزء منها في سلسلة جذور التي نشرت في جريدة الثورة، وأرخت جانبا من حياتي وطفولتي. وحين جئت إلى بغداد بعد ما نجحت من الصف السادس ودخلت في المدرسة الكرخية المتوسطة بدأت أكتب من سنة 1936-1937 وانشر”.
وعن كتابة الشعر يواصل: “في اعتقادي أن الشعر بدأت فيه بين عام 1940 و1948 الشيء الذي كان يستهويني كثيرا هو أن أكتب خواطري ونوازعي وتأملاتي وكلماتي والوجدانية بطريقة الشعر المنثور. وطبعا لها جذورها أيضا حيث قرأت لترجماتي لقصائد الشعر العلمي لإبراهيم المصري ومجلة أبولو والكثير من الكتابات التي كانت تنشر في الثلاثينيات 1937حتى1940, وكنت أقرأ سائر ما يكتب في المجلات المصرية واللبنانية لذلك بدأت انشر، ولي الكثير من قصائد الشعر المنثور في مجلة الأديب بصورة خاصة التي نشرت فيها سلسلة ملحمة الشعر المنثور تحت أجنحة الليل الأزرق”.
تعدد الإبداع..
وفي حوار آخر أجراه معه “علي العامري” يقول “نوري الراوي” عن مسيرته الفنية: ” مسيرة حياتي موزعة بين العمل الفني والتأسيس الثقافي في ميادين متعددة. ففي الخمسينات من القرن الماضي هويت المسرح، وكنت عضوا في فرقة المسرح الحديث بإدارة المخرج “يوسف العاني”، كما كنت أتابع الأعمال المسرحية وأكتب عنها نقديا. ثم اتجهت اهتماماتي إلى النقد السينمائي، وكانت بغداد تعتمد على ما يردها من أفلام عالمية ملحمية، منها أفلام مأخوذة عن أعمال أدبية لكبار الكتاب في العالم، من بينهم تولستوي وديستوفسكي، وتصل مدة الفيلم إلى نحو ست ساعات. مثل هذه الأفلام الشهيرة فتحت بها هوليوود أبواب القرن العشرين سينمائيا، وكانت السينما تمثل كنزا معرفيا وجماليا بالنسبة لأهالي بغداد، يمضون ساعات في مشاهدة أفلام تتناول قضايا الإنسان ومصير البشرية، وكانت السينما فضاء حيويا يؤنسهم، قبل انتشار التلفزيون. في دار السينما كنت أجلس وأكتب في العتمة ملاحظاتي حول الأفلام، وأنقل الحوار الذي يظهر على شاشة صغيرة، وحين أخرج من السينما أرى السطور متداخلة، وأبدأ قراءتها كما لو أنني أفك رموزا أثرية، كانت تلك المرحلة مفعمة بالحياة.. في عام 1940 دخلت كلية الفنون الجميلة في بغداد، ولم أكمل دراستي فيها، بعد تخرجي في دار المعلمين، إذ كان عملي خارج بغداد، وأصبح من الصعب التوفيق بين العمل والدراسة الجديدة في تلك الفترة، بعد ذلك دخلت معترك الحياة السياسية، وكان آنذاك خمسة أحزاب، انضممت إلى حزب الشعب، وهو حزب وطني تقدمي، ورئيسه عزيز شريف أصبح نائب رئيس مجلس السلم العالمي.. لم يكن العمل الفني وحده الذي يشغل حياتي، إذ صاحبته انشغالات أخرى، خصوصا أنني دائم البحث عن المعرفة وإطلاق مبادرات ثقافية جديدة، ففي عام 1945 أثناء عملي في التدريس، جمعت رسومات أطفال من مدارس متعددة في العراق، ودرستها لمعرفة كيف يرى الطفل العالم من حوله، وكيف يفكر، وما الذي يخيفه أو يؤنسه. استقصيت في قراءتي للوحات الأطفال رؤيتهم وطريقة تفكيرهم، ونشرت هذا التحليل في مجلة «المعلم الجديد» التي كانت تصدرها وزارة المعارف في عام1945، وكنت بذلك فتحت بابا جديدا أمام الاهتمام بمواهب التلاميذ وضرورة دراستها لمعرفة أحلام الطفل وهواجسه”.
متحف الفن الحديث..
وعن فكرة إنشاء متحف الفن الحديث في بغداد يوضح: “أحياناً المصادفة تصنع تاريخا، فقد كنت أحلم بتأسيس متحف للفن الحديث في العراق، وتحقق ذلك وافتتحه عبد الكريم قاسم في عام 1962، وكنت التقيت، مصادفة، مدير عام الآثار أثناء انتظاره لقاء وزير الإرشاد، آنذاك، وأثناء الحديث طرحت فكرة المتحف، خصوصا أن مجموعة من أعمال الفنانين الرواد الأوائل من فائق حسن إلى جواد سليم وعبد القادر الرسام موجودة في دائرة الآثار العامة، وكنت قد اشتريت لوزارة الثقافة أول دفعة من لوحات لفنانين عراقيين، ولدي القائمة الأصلية للوحات في أرشيفي الخاص الآن. وتحمس المدير لفكرة المتحف، ووافق الوزير عليها فورا، وكانت مؤسسة غولبنكيان تدعم مشروعات ثقافية وخيرية في العراق، آنذاك، وقد أنشأت ملعبا ومدرسة ومستشفى للصم والبكم، وكانت أهدت أمانة العاصمة مبنى حديث هو «مركز الفنون»، فوجدتها فرصة مهمة ليكون مقراً للمتحف الوطني للفن العراقي الحديث، وكان ذلك، وأصبحت معارض الفنانين تمثل فرصة لتعزيز مقتنيات المتحف، إذ يتم شراء أعمال من تلك المعارض لتصبح من مقتنيات المتحف”.
وعن المتحف وقت احتلال العراق في عام 2003 يضيف: “بعد احتلال العراق نُهبت أعمال فنية وأثرية كثيرة، من بينها 7000 لوحة كانت ضمن مقتنيات متحف الفن الحديث، وكان المتحف يضم أعمالا لكثير من الفنانين العراقيين منذ عام 1962. كما تعرض المتحف للحرق من الداخل بعد نهبه، واحترقت وثائق للفن العراقي، لكنني احتفظ شخصيا بأرشيف وثائقي يمثل بديلا لما تعرض للحرق، ويضم أرشيفي الخاص وثائق ورسائل وصورا للفنانين وملصقات المعارض تحت 30 عنوانا، وفق نوع الوثيقة، وقد طالبت بدعم مشروع التوثيق مجدداً، وبعثت بخمس مذكرات إلى منظمة اليونسكو بهذا الشأن، عبر مقارها في بغداد وبيروت ودمشق وعمّان، إضافة إلى مذكرة إلى رئيس الجمهورية العراقية، لكن لم يصلني أي رد. وأنا أدين «اليونسكو» لتجاهلها الوضع في العراق، إذ أنها لم تبذل جهداً يذكر لإنقاذ تراث البلد الحضاري والتاريخي والثقافي، إذ أن الاحتلال فتح الباب واسعا لنهب آثار البلاد وتراثها، وارتكب الاحتلال كل فظائع الأرض في العراق، وتعرضت الثقافة العراقية لانتهاك واسع النطاق”.
وعن المشروعات الفنية الأخرى التي أنجزها يقول “نوري الراوي”: “توالت المشروعات الثقافية بعد ذلك، إذ أنشأت أول مصهر للبرونز في الوطن العربي، في نهاية الستينات، الذي استقطب النحاتين العراقيين، بعدما كانوا يصبون قوالب منحوتاتهم في ايطاليا. وظهرت بعد ذلك تماثيل وجداريات ضخمة للفنانين في ساحات بغداد وحدائقها. كنت لا أتوقف عن العمل، ففي مجال الكتابة الأدبية نشرت الكثير في صباي، وكتبت قصيدة النثر في عام1937، في وقت مبكر، ونشرت في الصحف والمجلات العراقية، ثم العربية في بيروت والقاهرة، منها مجلات «الأديب» و«العرفان» و«الأمالي» و«الرسالة»، وكان نهرا الأدب والفن يجريان معا في حياتي، وأصدرت كتبا عدة، منها كتاب عن النحات العراقي الرائد جواد سليم، الذي توفي في عام 1961، كما نشرت سلسلة كتب في التراث الشعبي.. ومن أبرز المبادرات أنني وضعت الفن الفطري ضمن الفنون، للمرة الأولى في تاريخ الفن العراقي، بعدما لم يكن أحد يعرف عن الفنانين الفطريين أو التلقائيين، ولا أحد يعترف بإبداعهم في الوسط الثقافي، لكنني استطعت أن أسلط الضوء على هذا الفن الذي يشبه فنون الأطفال، وهو بعيد كل البعد عن المفاهيم المعروفة للفن التشكيلي. وقمت بتنظيم معارض لعدد من الفنانين الفطريين، وعرضت أعمال أحدهم في بينالي تشكوسلوفاكيا للفن الفطري، وكذلك في النرويج وإيطاليا.. وبدأ الاهتمام بالفنانين التلقائيين، الذين يعمل بعضهم في مهن مختلفة، وكان من بينهم حلاق وسائق جرار زراعي، إلى أن كونت مجموعة من 20 فنانا فطريا في العراق، نظمت لهم معرضا في لندن. وبعد كل هذا، أصبح الفن الفطري معترفا به بوصفه أحد تيارات حركة الفن التشكيلي في العراق، مع أن مبادرتي لاقت صعوبة وسخرية في الوقت نفسه”.
وفاته..
توفى “نوري الراوي” في 2014 في أحد مستشفيات العاصمة بغداد عن عمر ناهز الـ90 عاماً، تاركاً إرثاً فنياً كبيراً وبصمات واضحة في مسار الحركة التشكيلية العراقية.