خاص: إعداد- سماح عادل
“زكريا أحمد” موسيقي وملحن مصري، من أحد عمالقة الموسيقى العربية.
حياته..
ولد “زكريا أحمد” في 1896 ببلدة سنورس بالفيوم، لأب حافظ للقرآن، وأُمّه من أصل تركي. كان والده يهوى سماع التواشيح الدينية ذات المقامات العربية الأصيلة، فتأثر به ونمت لديه هواية الألحان، لكن الوالد أراد لولده الاتجاه نحو المشيخة والعلم الديني فألحقه بأحد الكتاتيب ثم بالمدرسة الابتدائية ثم التحق بالأزهر الشريف، فتلقى العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية وأجاد حفظ وتلاوة القرآن الكريم ومن هنا لقب بالشيخ “زكريا”، وكان له حضور فني قوي أثناء دراسته بالأزهر، فهو الذي يثير الإعجاب في منتديات القراءة والتلاوة بصوته وأدائه الفذ، وكان نجم حفلات التكريم التي تقام في المناسبات العلمية.
كان “زكريا أحمد” يتمتع بحاسة موسيقية جعلته يتتبع غناء كبار المنشدين والمطربين. وتأثر بمنشدي التواشيح الدينية كالشيخ “درويش الحريري”، كما تأثر بألحان “عبده الحامولي” والشيخ “سلامة حجازي”، وكان يذهب إلى أماكن تواجدهم وحفلاتهم ويحفظ ألحان هؤلاء بسرعة عجيبة، وأصبح يشتري كتب الأغاني والموشحات والموسيقى.
أزعجت هوايته هذه والده كثيرا فأخفى الشيخ “زكريا” كتب الأغاني وسط الكتب العلمية، لكن سرعان ما اكتشف أمره وعنفه أبوه بشدة وكان شديد القسوة معه، مما أخاف الشاب الصغير وجعله يترك منزل أبيه لا يعرف إلى أين يذهب وقد ضاقت به الدنيا.
حزن الوالد لكن بعد أيام توسط أهل الخير بينهما فعاد الشيخ “زكريا” إلى منزل أبيه، وبدأ الأب الذي استبد به القلق على مستقبل ابنه ومصيره يحاول إسداء النصح له.. إن الفن في رأيه لا يطعم ولا يفيد، وها هم أساطين الطرب وأساتذة التلحين “عبده الحامولي” و”محمد عثمان” و”محمد سالم”، قد ماتوا جميعا فقراء.. لم يكن ذلك المنزل الذي عاد إليه “زكريا” بالمنزل الهادئ بأي حال، فقد ماتت والدته وتزوج والده بأخرى كانت تتفنن في تدبير المكائد له وتثير عليه والده باستمرار حتى يئس من حياة مستقرة، وبدأ الفن يلهب خياله ويواسيه في معاناته، فسار في طريق الفن يزور المسارح ويرتاد الحفلات ليسمع ويتعلم وأصبح الفن ملاذه وملجأه.
درس الموسيقى على يد الشيخ “درويش الحريري” الذي ألحقه ببطانة إمام المنشدين الشيخ “علي محمود”، كما أخذ “زكريا” الموسيقى عن الشيخ “المسلوب” و”إبراهيم القباني” وغيرهم. في عام 1919 بدأ “زكريا أحمد” رحلته كملحن، بعد أن اكتملت لديه معرفة الموسيقى وتفاصيلها، حيث قدمه الشيخ “علي محمود” والشيخ “الحريري” إلى إحدى شركات الأسطوانات. في عام 1924 بدأ التلحين للمسرح الغنائي، ولحن لمعظم الفرق الشهيرة مثل: “فرقة علي الكسار”، و”فرقة نجيب الريحاني”، و”زكي عكاشة”، و”منيرة المهدية”. وبلغ عدد المسرحيات 65 مسرحية لحَن فيها أكثر من 500 لحن.
أم كلثوم..
في عام 1931 بدأ التلحين لأم كلثوم، حيث لحن لها تسعة أدوار أولها “هو ده يخلص من الله” 1931، وحتى دور “عادت ليالي الهنا” 1939. كما لحَّن لأم كلثوم الكثير من أغاني أفلامها مثل “الورد جميل”، “غني لي شوي شوي”، “ساجعات الطيور”، “قولي لطيفك”. كما لحن لها في الأربعينيات عددا من الأغاني الكلاسيكية الطويلة التي صارت علامات فارقة في تاريخها مثل “الآهات”، “أنا في انتظارك”، “الأمل”، “حبيبي يسعد أوقاته”، “أهل الهوى”، “الحلم”. واختلف معها سنة 1947 حتى عام 1960 عندما لحن لها آخر روائعه “هو صحيح الهوى غلاب”، حيث نشبت الخلافات بينهما، حين طالب “زكريا أحمد” بمستحقاته من الإذاعة المصرية، نظير ألحان غنتها “أم كلثوم”، الأمر الذي رفضته الأخيرة بحجة أنها تمتلك تنازلا خطيا منه عن تلك الحقوق.
شعر “زكريا أحمد” بالحزن بسبب تجاهل “أم كلثوم” لحقوقه المالية، فأقام دعوى قضائية ضدها، وفي المحكمة ذكر القاضي “أم كلثوم” و”زكريا أحمد” بأعمالهما الفنية الرائعة، فرد القاضي “لا الفلوس بتدوم ولا الشتيمة بتلزق وأنا لا أقدر على مواصلة التقاضي مع أعز فنانة إلى قلبي”. وانتهت الخصومة وبكى الطرفان وانتهت الخصومة عام 1960، أي بعد 13 عاما من القطيعة.
ويعد”زكريا أحمد” من روّاد فن الطقطوقة حيث ارتقى به شوطاً عظيماً، كما كانت ألحانه كلها غارقة في العروبة والأصالة. وأُعيد تقديم أعماله المسرحية سنة 1970م إحياء لذكرى هذا العملاق.
قدم للسينما ألحانه في جميع أفلام “أم كلثوم” بداية من عام 1936، كما قدم العديد من الألحان في أفلام أخرى، ويذكر له أنه كان من أبرع الملحنين في تلحين الأغاني البدوية التي كان يصيغ معظمها “بيرم التونسي”، وحققت له نجاحا خاصا في البلاد العربية التي كانت تقبل على اللهجة البدوية في الأغاني.
غزير الألحان..
ومن أشهر أغاني “زكريا أحمد” “يا صلاة الزين”، “يا جريح الغرام”، “يا حلاوة الدنيا”، ولحن ثلاث وخمسين مسرحية غنائية، تراوح عدد ألحانه في كل منها، من ثمانية ألحان إلى اثني عشر لحنا، وبلغ عدد أغنياته المسرحية خمسمائة وثمانين لحنا حتى حظي كثير منها بشهرة واسعة، وتضمنت مسرحياته نقدا عنيفا وحكما، وتصوير للأوضاع الاجتماعية، واستخدم أسلوب تمثيل الممالك الخيالية لنقد السلطة، وكان متفوقا على أقرانه في هذا الفن المسرحي، حيث كان غزير الألحان.
واستطاع “زكريا أحمد” أن يطور شكلين من أهم أشكال الغناء العربي، هما “الطقطوقة” و”الدور” وأسهم في تطوير أشكال أخرى، لكن تطويره لم يمس آلات الموسيقى العربية أو المقامات أو الإيقاعات، حيث أسس تطويره على ملامح عربية أصيلة، فحفظ المضمون وبدل في الأشكال، منطلقا من الأشكال الأصلية.
هناك ألحان مشهورة للشيخ “زكريا” هي من مقام جديد على الموسيقى العربية من ابتكار الشيخ “سيد درويش” وهو مقام الزنجران، مثل دور “هوه ده يخلص من الله” ل”أم كلثوم”، وأغنية “يا حلاوة الدنيا” ل”فتحية أحمد”، وهذا يدل على أن “زكريا أحمد” قد سار على خطى “سيد درويش” رغم أنه عاصره.
لا يمكن أن يأتي “زكريا أحمد” دون ذكر “بيرم التونسى”، والعكس صحيح، فقد تلازم الاثنان تلازما شخصيا وفنيا وكونا معا ثنائيا غزير الإنتاج عميق التأثير في الناس والمجتمع. اقترب “زكريا” من “بيرم” كثيرا حتى في قدرهما، فقد عاشا تقريبا لنفس العمر وتوفى الشيخ “زكريا” في ذكرى الأربعين لوفاة “بيرم”.
ومن أعمال “زكريا أحمد” و”بيرم التونسي” المشتركة أغاني “أم كلثوم”، أجمل أغانيها ومنها (بكرة السفر، يا فرحة الأحباب، أنا في انتظارك، الآهات، الأوله في الغرام، حبيبي يسعد أوقاته، أهل الهوى، غنى لي شوي شوي، عن العشاق سألوني، قولي ولا تخبيش يا زين، الأمـل، حبيب قلبي وافانى، نصرة قوية، الورد جميل، هوه صحيح). ومونولوجات (حاتجن ياريت يا اخواننا مارحتش لندن ولا باريس، يأهل المغنى دماغنا، آدى وقت البرنيطة، قدر ده وده).
أخذ على “زكريا أحمد” تلحين بعض الأغاني التي لم تحمل قيما فكرية عالية وذلك في بداية نشاطه الفني، ولو أن من غناها كان من كبار المطربين في ذلك الوقت، ورغم أن تلك الأغاني اعتبرت من المستوى الهابط فكريا، إلا أنها لم تكن كذلك فنيا، ومن أمثلتها أغاني وطقاطيق اشتهرت كثيرا مثل “ارخى الستارة”، وهي أول أغنية انتشرت له في العشرينات وغنتها “منيرة المهدية” وكذلك “عبد اللطيف البنا”، “اوعى تكلمني بابا جاى ورايا” ل”رتيبة أحمد”، “أبوها راضي وأنا راضي” ل”صبري البنا”، “ما تخافش على”، “كله الا كده”، “حزر فزر”، وجميعها انتشرت بصورة كبيرة، غير أن “زكريا أحمد” لا يدافع عن نفسه فقط بقيمة ألحانه، فهو يقرر أن تلحينه هذه الأغاني كان لاضطراره المادي، وفى حين كان يمكن للمطرب أو المطربة من الدرجة الثانية أو الثالثة أو حتى في ذيل القائمة أن يضمن لنفسه دخلا يعينه على العيش من خلال عمله بالحفلات والأفراح، فقد كان الملحن يعانى ماديا مهما بلغت عبقريته، وقد علق “سيد درويش” ذات مرة عندما رفض عرض إحدى الشركات عشرة جنيات في 8 أدوار قائلا لصديقه “بديع خيرى”: “دى بلد يجوع فيها العباقرة”. وقد بلغ به الغضب أن مزق النوت الموسيقية قبل أن يغادر الأستوديو، وخسر الفن 8 أدوار لهذا العبقري الذي لم يلحن في حياته غير عشرة أدوار، وسار هو في شوارع القاهرة مفلسا يسمع أغانيه على مسارح الفرق التي تجمع الثروات من وراء ألحانه.
وفاته..
توفي “زكريا أحمد” في 14 فبراير 1961.
https://www.youtube.com/watch?v=1AtBCYR9uQ4
https://www.youtube.com/watch?v=qWxwfXBO308
https://www.youtube.com/watch?v=rYT6nJkPqAk