كلمة “الثقافة” تأتي من كلمة cultura اللاتينية، والتي تمثل مشتقاً من “colere اللاتينية” والكلمة اللاتينية colere مستمدة من الجذر الهندي ـ جرمانيindogermanischen ، ويمكن أن تكون ذي صلة أو مستمدة من الفعل زراعة، رعاية الخ. وتمثل الإنجازات الثقافية جميعها، مثل التكنولوجيا، الفنون التشكيلية، أيضاً الثقافة العقلية أو كما عند “شيشرو” Cicero “الثقافات الفرعية” مثل الموسيقى واللغات والأخلاق والدين والقانون والاقتصاد والعلوم، تحولات في مادة معينة.. وفي اللغة الألمانية، ظهرت كلمة الثقافة لأول مرة في القرن السابع عشر منذ بداية إدارة التربة “ثقافة الزراعة”، كاسم لرعاية السلع الفكرية وفي مجال الزراعة من حيث استصلاح الأراضي. وفي القرن التاسع عشر، استخدمت جمعية نورمبرغ الصناعية والثقافية، التي تأسست عام 1827، كلمة الثقافة بمعنى “ثقافة التربة” المرجع الشائع كمصطلح من حيث الارض المزروعة، ولا زال استخدام، كلا، كلمتي “الثقافة” شائعًا حتى اليوم في البلدان الناطقة بالألمانية.
وتؤكد الابحاث بان جميع الأشياء التي ينتجها الإنسان تنتمي إلى الثقافة المادية. وتحسب المعرفة والتقاليد على انها ثقافة غير مادية. لكنهما اي الثقافة المادية وغير المادية يرتباطان ببعضهما ارتباطاً وثيقًا، لأن المعرفة غير المادية بمعنى الأشياء المادية أمر لا غنى عنه لفهم الثقافة. إلا أن لفترة طويلة تم فقط استخدام كلمة الحضارة باللغة الإنجليزية، ووجدت كلمة “ثقافة” طريقها إلى اللغة الإنجليزية في وقت متأخر، ولكن على النقيض من اللغة الألمانية، فإنها تُستخدم بشكل مترادف مع الحضارة.
على عكس اللغات الأخرى، تميز اللغة الألمانية ايضا وبشكل كبير بين المصطلحين “الثقافة والحضارة”. ووفقًا لـ “إيمانويل كانت” Immanuel Kant، فإن “مفهوم الثقافة”، بخلاف مفهوم الحضارة، الذي له جانب أخلاقي مرتبط بالبيئة المجتمعية الحاضنة للثقافة ذاتها. مفكرون آخرون، اتبعوا هذا النهج ورأوا الثقافة كنوع من التقدم للحضارة، وقبل كل شيء، أنها التطور العقلي والشخصي للإنسان، في حين ان الحضارة تتميز بقدر الإنجازات الفنية والتعايش المنظم للبشر فقط.
في اللغة الوصفية، لا تصف الثقافة ما هو، ولكن تملي ما يجب أن يكون، على اعتبار ان الثقافة في اللغة هي مصدر الفعل “ثقف”. إلا أن مفهوم الثقافة وعلى مر التاريخ، قد تعرض لتعريفات مختلفة. واصبح مفهوم “الثقافة” في اي عصر يعبر عن الفهم الذاتي، بعيداً عن الجانب الوجداني الذي يمثله الابداع الحقيقي. بالمقابل تراوح استخدامه ما بين الوصف “الوصفي” البحت، وبين استخدام الوصف “المعياري”، وتم الجمع بين الإدعاءات التي يقوم استيفائها لمفهوم الثقافة بشكل خاطئ.
في العصر الحديث، تعامل العديد من الفلاسفة والمفكرين المعروفين مع مفهوم الثقافة وتعريفها بين العامة بإهتمام. على سبيل المثال، عرف عالم الأنثروبولوجيا “إدوارد تايلر” Edward Tylor الثقافة في عام 1871 بـ “الثقافة البدائية” مع تضمينه النظرية الداروينية للتطور، واعتبر “الثقافة أو الحضارة” بالمعنى الإثنوغرافي الأوسع هي مثال المعرفة والإيمان والفن والأخلاق والقانون وجميع القدرات والعادات الأخرى التي اكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع. ووضع الشَّاعر “ماثيو آرنولد” Matthew Arnold الذي فتح طريقا اساسيا جديدا للنقد، مفهوماً آخر للثقافة يُشير إلى الارتقاء الابداعي ودماثة الخُلُق.
وبالتالي، يمكن أيضا أن تسمى الثقافة الذاكرة الجماعية للإنسانية.
أما في الحداثة، فالثقافة بالنسبة لنظام المنظر الاجتماعي “نيكلاس لومان” Niklas Luhmann الخاص في علم التحكم الآلي بالمعنى الدقيق، فهو على مستويين: الملاحًظة ومراجعة الملاحٍظة ـ اي القيام بوضع الملاحظات ومن ثم استكمالها “der Beobachtung und der Beobachtung der Beobachtung” “الترجمة عن الالمانية”. بمعنى أن أي قراءة للنصوص أو مشاهدة الصور هي “ملاحظة من الدرجة الثانية” او حينما يلاحظ المرء ملاحظات المؤلف أو الرسام أو المصور الذي قام بالتالي بتثبيت ملاحظاته الخاصة. اذن من الناحية النظرية، الثقافة معترف بها على هذا النحو فقط في المرحلة الثانية من الملاحظة. لذا فكلا المرحلتين لا غنى عنهما لظهور الثقافة وتصورها بمعنى المنطق العلمي.
وربما يكون تعريف الثقافة أمراً مناقضا للطبيعة. على اساس، ان الثقافة هي كل شيء تم إنشاؤه بواسطة الإنسان على النقيض من الطبيعة، التي لا علاقة للانسان بتكوينها. وتفترض مفاهيم أخرى: أن كل شيء هو ثقافة وليس هناك طبيعة ولكن مجرد وصف لها من خلال الأدوات الثقافية. والتعريف الاكثر دقة وتضييقًا لمفهوم الثقافة ارتباطها بالعصر والمجتمع الذي يتم فيه تحديد القدر والتمييز بين الإنسان والطبيعة، على أن العقل اساس المعرفة وبواسطته نشأ استخدام كلمة cultura بالمعنى الحرفي للكلمة، ثم تدرج الى مصطلح “الثقافة”. وحده مفهوم الثقافة المعمول به الآن في المجتمعات الأخرى مقابل العقيدة الغربية، في الغالب، يعتمد اعتمادًا كبيرًا على العصر والمجتمع المعين الذي صنع فيه وأفرز ظواهر ثقافية في كيانات انحدرت من عمق التاريخ.
تفرض الثقافة العديد من الوظائف داخل المجتمع. وأثبتت الإنجازات الثقافية بشكل متكرر أنها اختراعات ضرورية أصبحت لا غنى عنها مع تطور المجتمع في اتجاه معين. هذا ينطبق بشكل خاص على الإنجازات الفنية. بيد ان التطورات الاجتماعية تتطلب بعض الإنجازات الثقافية، التي هي ضرورية لتكون قادرة على البقاء على قيد الحياة في المجتمع المذكور. وهكذا، وفقًا لعالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية “برونيسلاف مالينوفسكي” Bronislaw Malinowski، فإن الإنجازات الثقافية لا تنشأ فقط من الطبيعة ومن الاحتياجات الطبيعية ، ولكن أيضًا من الاحتياجات التي طورها النظام الثقافي الخاص نفسه.
علاوة على ذلك ، فإن الإنجازات الثقافية لا تخدم بقاء نظام معين فحسب، بل تخدم أيضًا هيكلة البيئة، بحيث تصبح قابلة للتخصيص ويمكن للبشر استخدامها. وبالتالي يمكن أن تسمى الثقافة نظام مرجعي يعمل على بناء هوية يتم نقلها شفهًا وخطًا داخل المجتمع، كما تقوم على إنشاء هوية جماعية تحرص على ترسيم مضمون الجماعية للعالم الخارجي. ومثلما يشكل الإبداع الثقافي مصدراً للازدهار وترسيخ الوعي الجمعي، فانه يهتم أيضاً في التعامل مع التجربة الإنسانية ومعالجتها.
وتبقى الاختلافات الاجتماعية والتاريخية طبقاً لمفهوم الثقافة موضوعًا انثروبولوجيا. تتجلى على نحو خاص في الفكر والادراك، من حيث مدى تأثرها بالمفاهيم والتقاليد والقيم الإنسانية المختلفة ثقافياً بمرور الوقت. وبشكل خاص المعايير المتأثرة ثقافيًا والمتعلقة بـ : الأدوار التقليدية للجنسين التي يتم إعادة بنائها وإعادة بنائها في سياق الدراسات الجنسانية، التي تميز اهمية العلاقة الجدلية بين التطور المجتمعي والثقافة والوعي.
تعمل الثقافة أيضًا كعنصر ذي معنى في المجتمع، حيث يرتبط البشر ببيئتهم ويعتبرون أنفسهم جزءًا من كيان أكبر.. من هذا المعنى الواسع، فانني عرجت على تناول مفهوم او تعريف الثقافة من وجهة نظر فكرية ـ تاريخية لمجتمعات غير عربية، أوروبية بحته، تتعامل وتفسر “الثقافة” بطريقة غير التي نفهمها. فهي تحدد الثقافة بكل ما ينتجه الإنسان بطريقة إبداعية – على عكس الطبيعة، التي لم يخلقها ولا علاقة له بتكوينها.
عَرف عالم الأنثروبولوجيا الطبية في جنوب إفريقيا “سيسيل هيلمان” Cecil Helman الثقافة في عام 1984 عن كثب: نظام من القواعد والعادات التي توجه تعايش الناس وسلوكهم.
من هنا نستطيع ان ندرك كيف يمكن ان تشكل التنمية الطبيعية لـ “الثقافة” الانتقائية عاملا هاما في تطور البشر، وكيف يمكن للفرد ان يتصور أن بيئته تعتمد أيضًا إلى حد كبير على الثقافة التي ينتمي إليها هو أو هي إليه. ولا ينطبق هذا فقط على ما يعتبره الإنسان ثقافة، ولكن أيضًا على تدريب حواسه وقيمه وتفضيلاته وتيسير التواصل والتفاعل معها. كما تظهره بعض الدراسات من أن الأشخاص من ثقافات مختلفة لديهم حواس واضحة، ترتبط بمعنى ما هو الأكثر حاجة في كل ثقافة.
ووفقًا لـ “ألبرت شفايتزر” Albert Schweitzer، تسعى الثقافة في النهاية إلى “الكمال الروحي والأخلاقي للفرد” والصراع من أجل الوجود ذو شقين: على الإنسان أن يؤكد نفسه في الطبيعة وضد الطبيعة. وتضاؤل المخاطر من أجل الوجود يتحقق من خلال تفوق العقل بأوسع طريقة ممكنة وأكثرها سرعة، سواء في الطبيعة أو في الطبيعة البشرية. او بمعنى ان الثقافة في جوهرها ذات شقين: وجودها يتم في حكم العقل على الطبيعة وفي تحكم العقل على المشاعر الإنسانية. بدون هذه القواعد التوجيهية الأخلاقية العميقة، لا يمكن للإنسان باعتباره خالق الثقافة أن يتطور باتجاه يؤدي إلى الحضارة.
2
في أمسية غمرتها قصائد الحب والإنتماء للوطن
منتدى بغداد في برلين يحتفي بالشاعر الفلسطيني إياس ناصر
للمرة الثانية وفي غضون ثلاثة اسابيع استضاف منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين الشاعر الفلسطيني والباحث في الأدب العربي د. إياس ناصر الذي يحل ضيفا في برلين بدعوة دراسية من جامعة برلين الحرة، حيث قدم في امسيته الادبية الاولى في 20 تموز بعضاً من قصائده التي يفيض بها ديوانه الشعري الموسوم “قُبلة بكامل شهرزادها” فالقدس في القلب، والوطن هو الحب ، ووجه الجليل قصيدة ذهبية…
والدكتور إياس ناصر شاعر فلسطينيّ وباحث في الأدب العربيّ. أحيا أمسيات شعرية في مختلف أرجاء الوطن وفي الخارج، وأسهم في حضور القصيدة المرهفة التي تجسّد واقع الإنسان الفلسطيني. تتميّز قصائده بالأسلوب السّلس والمبتكر وتتناول مواضيع مختلفة من أبرزها الحب والانتصار للمرأة والانتماء إلى الأرض والوطن. كتب عن شعره نقّاد كثيرون، ولُحنت وتُرجمت قصائده إلى عدة لغات. صدرت له مجموعتان شعريّتان: “قمحٌ في كفّ أنثى” بيروت، 2012، و “قُبلة بكامل شهرزادها” حيفا، 2015، وديوانه الشعري الثالث قيد النشر.
قدم ورقة بحث عن التشبيه في “الشعر الجاهلي”، وتم اختياره من بين أكثر من مائتي باحث من الحاصلين على لقب الدكتوراه في مختلف المجالات، لمنحة لجنة فولبرايت الأمريكية ولجنة منيرفا الألمانية المكوّنة من كبار الباحثين الجامعيين، واختار برلين لمتابعة ابحاثه الادبية في جامعة برلين الحرة.
في امسيته الادبية الثانية في 3 آب 2019 في مقر المنتدى كان للنخبة العربية لقاء جديد مع الشاعر الفلسطيني إياس يوسف ناصر، حيث قدم محاضرة أدبية بالغة الاهمية موسومة “وعدٌ صريحْ أو يأسٌ مريحْ”: اليأس والعزاء في الشعر العربي القديم.
يقول الدّكتور إياس ناصر: بخلاف النّظرة المألوفة في العصر الحديث إلى اليأس على أنّه حالة يكتنفها قطع الرّجاء والحزن، أسبغ الشّعراء القدماء الذين عاشوا قبل الإسلام وفي مطلعه صورة إيجابيّة على اليأس وعدّوه مصدرًا للرّاحة والعزاء وتعبيرًا عن الإباء والحرّيّة..
لكنه يسأل: ما معنى اليأس ودلالته في نظر الشاعر القديم؟ وكيف يكون اليأس سبيلًا إلى العزاء والراحة؟ وما معنى القول المأثور “وعدٌ صريحْ أو يأسٌ مريحْ”؟ أو المثل القديم “اليأس إحدى الرّاحتين”؟ وكيف يكون اليأس طوق النّجاة للشّاعر العاشق الذي يكابد الانفصال عن الحبيبة وقد خلفته حزينا يأسى على فراقها؟ وما علاقة اليأس بالكرامة والحريّة؟ وهل يُعدّ اليأس نقيضا للطمع؟ ولماذا ذمّ الشاعر الأمنية وعدّها حالة من الوهم والضياع؟
في الإجابة عن هذه الأسئلة خاض الباحث ناصر باستعراض قصائد قديمة متنوعة قيلت على لسان شعراء عرب في ازمنة غابرة. في القرنين السادس والسابع، وذلك من أجل فهم القيم والتصورات الاجتماعية والسلوك المتعارف لدى العرب في تلك الحقبة.
ويحرص منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين منذ اكثر من عشر سنوات على تقديم المبدعين العرب في مجال الادب والثقافة والفن والفكر والاعلام والتعريف بهم. كما يسعى دائما الى تقديم الافضل، من المواضيع التي تتناول مجالات مختلفة من الابداع الثقافي والفكري والفني العربي، ويدرك مدى اهمية ذلك على التنمية الثقافية داخل المحيط العربي في المهجر، أيضا اهمية إستجابة المتلقي العربي، صاحب الشأن، مواكبة فرائد الادب العربي ومعاصرته لما له من اثر بالغ في حياتنا المجتمعية العامة.. وهكذا، وفقًا لعلم الأنثروبولوجيا الاجتماعية، فإن الإنجازات الثقافية كما يقول “برونيسلاف مالينوفسكي” لا تنشأ فقط من الطبيعة ومن الاحتياجات الطبيعية، ولكن أيضًا من الاحتياجات التي طورها النظام الثقافي الخاص نفسه.