” ..أن حياة الإنسان هي هبة…هبة عظيمة! والإنسان ليس سيد هذه الهبة.” هذا السطر مأخوذ من أخر صفحة، في كتاب الصحفية البلاروسية، سيفيتلانا والمعنون؛ ليس للحرب وجه انثوي. بطلات هذا الكتاب، هن من النساء، شابات أغلبهن لايتجاوز أعمارهن، ستة عشر عاما، الا القليل، القليل منهن، كن في ريعان الصبا والشباب. في هذا العمر سقن الى الحرب، او هن كما جاء في اعترافاتهن من تطوعن للحرب العالمية الثانية او كما تسمى في ادبيات الاتحاد السوفيتي السابق او في الاتحاد الروسي في الوقت الحاضر؛ بالحرب الوطنية العظمى. في هذا الكتاب المدهش، تسمع بأصوات النساء واعترافاتهن؛ انين الجرحى وهم يقتربون من حافة الموت او ان الموت ينتظرهم على باب ردهة المستشفى العسكري أو في ميدان المعركة، سواء على الجبهة او خلف خطوط العدو. لقد رسمت سيفيتلانا بحروف يبث حبرها؛ صور الموت والعذاب والاصوات المنكسرة حين يقترب الانسان من هاوية الفناء،لايصرخ ولايصيح ولايطلب الرحمة من النازي الذي او من النازيين الذين يشرفون على المذبحة بالحرق او بالرصاص، فقط ترى العيون تحدق في الفراغ واخرى تنظر بسعة العينين وما وسعة الى السماء. وانت تقرأ تتخيل ما يقول هؤلاء الناس لجلاديهم وأن لاذوا بالصمت ولم يقولوا: ما الذي جاء بكم الى ارضنا؟ حتى وان متنا حرقا او بالرصاص؛ سنحاربكم الى أن نطردكم من ارضنا.” كان الجنود الألمان عندما احتلوا اجزاء واسعة من اراضي الاتحاد السوفيتي، قاموا بتصفية الرجال البالغين او القريبين من عمر البلوغ، تصفية جماعية. ولم يكتفوا بتصفية الرجال والشباب والفتيان بل قاموا كما جاء في اعترافات النساء اللواتي حالفهن الحظ بالبقاء على قيد الحياة حتى انتهاء الحرب، بحرق القرى وكذلك المنازل في المدن التى دخلوها. الفتيات اللائي تمكن من الهرب من المذبحة او من قصف الطائرات اثناء عملية النزوح، جميعهن تطوعن للحرب على الرغم من عمرهن الذي لايتناسب والعمر المؤهل جسديا للحرب، كن يتدافعن من أجل الذهاب للحرب والدفاع عن اراضي الوطن الذي احتل الغزاة الألمان، مناطق واسعة منه. يرفعن التقارير تلوا التقارير الى دوائر التجنيد الى أن يجبرن تلك الدوائر بقبولهن كمتطوعات.. لقد قاتلن من اخترن الصنوف المقاتلة وليس الصنوف الاخرى، العدو النازي بضراوة واستماتة كي لا يقعن في الاسر ليتم من قبل الجنود الألمان اهانتهن واغتصابهن ومن ثم قتلهن “لم يأخذ الألمان النساء أسرى..كانوا يطلقون عليهن النار فورا. ص182″. لقد دفعت شعوب الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، ثمنا باهضا، أكثر من عشرين مليون قتيل وهو ثمن مكلف جدا للمحافظة على الاستقلال والسيادة اللتان يستحقان هذا الثمن وبقاء الاتحاد السوفيتي، دولة متماسكة وقوية. ساهمت هذه الكلف مساهمة فعالة بالقضاء على الشر النازي. هذا ما هو ظاهر على سطح الاحداث التى اعقبت انتهاء الحرب وهزيمة النازية، لكن وفي الجانب الثاني وهو الجانب المسكوت عنه؛ هو ماتركته الحرب من تأثيرات نفسية مدمرة على الشابات اللواتي ساهمن في القتال. لقد ظل صوت الحرب على الرغم من انتهاءها وحتى بعد سنوات طويلة واصبحن من ساهمن بها، عجائز بلغن من العمر عتيا، يسمع من زوايا البيت ومن الشوارع والمتنزهات ودور السينما، مما اثر تاثيرا على حياتهن المدنية. أبشع ما انتجته او تعلمته البشرية من هابيل وقابيل، هو قتل المنافس وان كان اخا، للأستحواذ على حيز الوجود الذي هو فيه. ولاتزال البشرية تمارس الحرب والقتتال والقتل من حيث الجوهر، على الرغم من التطور الهائل الذي حققته وفي جميع مجالات الحياة، والذي استخدمته استخداما فنيا وعلميا واعلاميا في تسويق وتسويغ الحرب بتخليق اسبابها وحججها التي لاتستند على ارضية سببيه صلبة. أن الحروب تخرب النفوس وتدمي الروح ويضطرب العقل من نتائجها حتى بعد ان تنتهي ويعم السلام. في الحرب؛ تقتل من لم تره في حياتك، تقتله كي لايسبقك ويقتلك كما انه، من جانبه، يقتلك كي لاتسبقه وتقتله، تقتل حتى تنجو ويقتل هو حتى ينجو.”.. ثانية واحدة، لو لم اتمكن من رشهما بالرشاش لأطلقا علي النار أنا والجريح. كانا مسطحين بأعين مفتوحة.. أحدهما ألماني شاب، جميل الطلعة… شعرت بالشفقة، بالرغم من انه فاشي… لم يفارقني هذا الاحساس فترة طويلة: لا اريد ان اقتل، أتفهمينني؟ في اعماق نفسي كراهية: لماذا غزوا ارضنا؟ ولكن جربي ان تقتلي، هذا أمر رهيب. لاتوجد كلمة اخرى… رهيب جدا.لاتوجد امرأة واحدة من اللواتي خرجن سالمات جسديا من الحرب، لم تحمل جرحا عميقا في نفسها، هناك من فقدت ابنتها او من فقدت ابنها او زوجها او ابوها أو امها او فقدت جميع افراد عائلتها. بالاضافة الى هذا فقد حملن على كاهلهن،ذكريات المعارك بما حملت في حينها من موت وعذاب وكراهية شديدة توغلت عميقا في النفس وعمت بصيرة العقل البشري والذي يفترض به كعقل يحمله إنسان، أن يكون مبصرا وقادرا على التفريق بين الخطر المحدق بالحياة وبين تراجعه وانعدامه كليا ” أذكر كيف كان الألماني الجريح راقدا، ويتشبث بالارض بيديه، كان يشعر بالألم الشديد،أقترب منه جندي روسي وقال: لاتمس الارض، إنها أرضي! أذهب الى ارضك هناك، من حيث أتيت..” أو من تعرضت للاسر من قبل الجيش النازي الذي عذبها في غرف التعذيب النازية وخرجت سالمة باعجوبة عندما انتهت الحرب، ليترك التعذيب اثاره المدمرة عليها “.. بصقت في وجهه. فأجلسوني على الكرسي الكهربائي. أذكر ان الكهرباء ترمي بي في كل جانب. لقد بقيت معي ردة الفعل مدى الحياة،.. لايمكنني فعل اي شيء مرتبط بالكهرباء.. أشعر بالندم على صبي واحد..عمره سبع سنوات، بقي بدون أم. قتلوا أمه. كان الصبي جالسا على قارعة الطريق خلف أمه المتوفاة. لم يدرك ان امه لم يعد لها وجود، وكان ينتظر أن تصحو أمه، لكي تقدم له الطعام..” من بين اهم ما تترك الحرب، هوالخوف، خوف يصير جزءا من التكوين النفسي لطفل او اطفال لم يتجاوزا الثالثة من العمر او الرابعة او الخامسة أو اقل او اكثر قليلا، أنها عملية تأثير مرعب ومخيف. تؤثر أنيا ولاحقا على حياة هؤلاء الاطفال وعلى شخيصتهم وعلى الطريقة التى يتعاملون بها في المستقبل، مع الناس والحياة بكل ما لها وما عليها، وهي طريقة يجللها الخوف والتوجس والشك..” ذهبنا الى أمي، ووعيه غير طبيعي: يدخل تحت سريرها، ويجلس هناك أياما كاملة. كان عمره خمس سنوات. لقد كنا نعيش في قبو، وعندما يسير أحدا ما في الشارع لانرى سوى جزمته. ذات مرة خرج من تحت السرير، ورأى جزمة ما في النافذة وبدأ يصرخ..بعدها تذكرت أن فاشيا قد ضربه بجزمته…” الكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا في حوارها مع الناجيات اللواتي اصبحن في خريف العمر وهي تستنطقهن عن ما خلفته الحرب في نفسياتهن وعن ما جرى لهن سواء في جبهة الحرب المباشرة او في جبهة المقاومة خلف خطوط العدو، في الاراضي المحتلة، تحتار في اختيار الطريقة التى بها ترسم بالكلمات على الورق تلك الماسأة التى تركت جروح عميقة في الروح، جروح لاتندمل رغم مضي كل هذه السنوات. تتسائل كيف تكتب تاريخ هذه الحرب المدمرة، تاريخ يختلف كليا عن التاريخ المدون رسميا، تاريخ الانتصار على ابشع فكرة انتجها العقل البشري في القرن العشرين، تاريخ نساء اوغلت الحرب فيهن وتركن مع اوجاعهن على رصيف الحياة بأنتظار الرحيل عنها ذات يوم.” لا أرى نهاية لهذا الطريق. يبدو لي أن الشر بلا نهاية. لم يعد في أستطاعتي معاملته كما أعامل التاريخ. من يمكنه أن يجيبني: مع من أتعامل- مع عصر أم مع أنسان؟ العصور تتبدل، أما الانسان؟ افكر في تكرار الحياة البائس. لقد كن يحدثنني كجنديات، كنساء. وكثيرات منهن كن أمهات00″- ما أسمك أيها الفتى؟ سألته- ليونا.- مع من تسكن؟ – سابقا كنت اسكن مع جدتي. وعندما توفيت دفنتها. وكنت احضر الى قبرها كل يوم وارجوها ان تاخذني الى قبرها. فقد كنت اخاف النوم وحيدا..- واين ابوك وامك. – بابا حي، يقاتل في الجبهة، أما امي فقد قتلها الفاشيون. هكذا كانت تقول جدتي. كانا يجلس معي اثنان من الانصار، حيث كانا قد دفنا رفاقهما. وهما يسمعان كيف كان ابني يجيب، ويبكيان. هنا لم اتماسك أنا، وقلت: ولماذا لم تتعرف على أمك؟ فأرتمى على: بابا.أنا كنت في ثياب رجولية، وفي قبعة رجولية. كنت مقاومة، في الانصار. ثم عانقني صارخا: ماما…” من يقرر او من يتخذ قرار الحرب؟ من المؤكد ان الشعوب وفي اعماقها ترفض الحرب، لأنها تدرك ما تعنيه من سفك للدماء وخراب وفقدان وخسرات، لوتركت بلا تأثير اعلامي وشحن للعواطف وتجيش لها لتحقيق مأرب السلطة الطاغية من أطماع السيطرة والاحتواء. ” عثرنا على عجوز ألمانية. قلت لها: لقد أنتصرنا. فبكت قائلة: لقد استشهد ولداي في روسيا.- من المذنب؟…أجابت هتلر. – هتلر لم يقرر بنفسه، إنهم أبناؤكن وأزواجكن…عندها لاذت بالصمت. اول ما ادهشنا – الطرق الجيدة.بيوت الفلاحين الكبيرة…أصص الزهور الكثيرة، الستائر الجميلة على النوافذ وحتى في العنابر. في البيوت مفارش الموائد بيضاء. الاوعية المنزلية الثمينة، من الخزف الصيني. وهناك رأيت للمرة الاولى الغسالة الكهربائية.. لم يكن في وسعنا أن نفهم: لماذا كانوا في حاجة الى الحرب، أذا كانوا قد عاشوا هذه الحياة الجيدة؟..” السلطة الدكتاتورية والتى تمسك الحكم وتسيطر على الناس، بقبضة من حديد، تسحق كل من تشك به حتى وان كان هذا الشك لايستند الى وقائع تعززها الادلة. أنها تصدر القانون الذي يحمل فقرات محددة لاتحتمل التأويل او التغير عند الضرورة، فقرات ملزمة التطبيق. حتى وأن طالت هذه الفقرات او هذا القانون بالاعتقال في معتقلات الاتحاد السوفيتي، من ضحى باغلى ما عنده او مستعد للتضيحة بهذا الغالي والذي هو حياته، في الحرب من أجل بلده، الذنب الوحيد أنه وقع في الأسر عند الجيش النازي او أن الجيش النازي أعتقله حين احتل مدينته.” عاد زوجي بعد سبع سنوات… انتظرته أنا وابني أربع سنوات في الحرب، وبعد الحرب انتظرناه سبع سنوات أخرى من كوليما. من معسكر الاعتقال. في كل استمارة من الاستمارات، كان هناك سؤال: هل كان أحد أقربائكم أسيرا؟ عندما كتبت لم ياخذوني في العمل في المدرسة التقنية، لم يثقوا بي..لقد اصبحت عدو الشعب..
قراءة مجاورة
لماذا الحرب ومن يشعل فتيل الحرب ولأي سبب تنشأ الحروب مع ان جميع دول العالم تعلن رفضها للحرب وتسوق نفسها كحمامة سلام، ترفض طريق الحرب لفض النزاعات وتفضل الحوار والمفاوضات، أذن من يبدأ الحرب؟ ولأي سبب يبدأ بالحرب؟. أن العامل الاقتصادي هو سبب جميع الحروب التى شهدتها البشرية ولم تزل الى الآن تخوض في أتونها بطريقة او بأخرى، ولايوجد سبب اخر اكثر وجاهة أو فاعلية واقعية وموضوعية من الاقتصاد.. جميع الحروب باستثناء حروب مقاومة الاحتلال، حروب قذرة، لأنها وببساطة تستند الى اسباب حقيرة واكثر قذارة، وهي اسباب اقتصادية اي دوافعها السيطرة على مقدرات الناس والدول بحجج مفتعلة. الحرب العالمية الثانية كان سببها الاقتصاد والتوسع والتمدد على حساب الدول وشعوبها، للسيطرة عليها وضمها بقوة الغزو والاحتلال إليها. وليس لأي سبب أخر. في الاشهر الخيرة من الحرب التى باتت نهايتها على الابواب، وفي الوقت الذي يقاتل الجنود على جبهات الحرب ويقتلون، كان المنتصرين يتفاوضون على تقاسم دول العالم بينهم كمناطق نفوذ لهم. حتى الارض الفلسطينية تم التفاهم بينهم قبل انتهاء الحرب عليها بشكل او باخر، حين اصرت بريطانيا، ان يكون نهر الاردن بضفتيه، فلسطين والاردن تحت سيطرتها أو أنتدابها. لتحقيق وعد بلفور أو الوفاء بما وعدت بريطانيا،بأقامة الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي وتشريد الفلسطينين من أرضهم وممارسة القتل اليومي لمن تبقى منهم فوقها ويفضل الموت قتالا على مغادرة ارض الاجداد التاريخية..تمت أقامته،لأسباب اقتصادية، هدفها الهيمنة على اقتصادات الدول العربية بأستثمار المؤرث الديني الذي بات في السنوات الاخيرة، بتأثير الدعاية الصهيونية وصعود الانجيليين، يسيطر سيطرة تكاد تكون كاملة على عقول الكثير من اصحاب القرار والنفوذ في الولايات المتحدة. هل تغير الحال في عصر العولمة وثورة الاتصالات بالتأكيد لم يتغير اي شيء، لأن من يوجه سياستها في العالم هي ذات العقلية الامبريالية المتوحشة. التغير الحاسم والجدي هو التفنن في تخليق الدوافع والاسباب لأشعال الحرب او الحروب في أي جهة من العالم بأستثمار لافتة حقوق الانسان وحقه في الحياة الكريمة والاختيار الحر لمرؤوسيه وحقه في الرأي الحر بطريقة تختلف كليا عن اصلها في التطبيق على ارض الواقع بما يفقد مضمونها ومحتواها بشكل تام. وانت تنصت الى الاخبار؛ تسمع صدى أخبار الحرب والاقتتال والقتل بين ابناء البلد الواحد وفي اكثر من مكان في العالم. ومن ابرزها الاقتتال الداخلي في عدد من الدول العربية بعد ماسمي (بالربيع العربي) الذي جرى حرف اتجاه حركته عن اصلها بأرادة المستعمرين الحداثويين الجدد، عندما استخدموا اداوتهم التشغيلية من دهاقنة النظام الرسمي العربي وعلى وجه التحديد والحصر، امراء وملوك الرمال في الخليج العربي. وأنت تقرأ في كتاب( ليس للحرب وجه انثوي) للصحفية البيلاروسية، سفيتلانا، تتدافع امامك، في خيالك صور الرعب والقتل وسفك الدماء وخراب البلدان. كم طفل فلسطيني وعربي في دول الفوضى والاضطراب العربية، يفقد في اليوم الواحد، أباه او أمه، وكم ام فقدت ابنها او ابناءها وكم عدد الناس الذين يقتلون في كل يوم أو تخرجهم الرصاصة والشظية من فعل الحياة بأعاقة جسدية دائمة، امام أنظار العالم الذي يسمي نفسه بالعالم الحر الذي يدافع عن حق الانسان في الحياة، تلك الفرية التى طالما خدعونا بها أو خدعوا الناس بها، وأستخدموها لتحقيق مأربهم الأستحواذية على خيرات الشعوب والدول بسيل مستدام من دماء هذه الشعوب وتلك الشعوب، هنا، في المنطقة العربية وفي بقية اركان المعمورة..