اذا رايت نفسك تخصص وقتا لنظم الشعر فانت لست بشاعر ، واذا رايت نفسك تهيء الطاولة ابتداءا والورقة لتشرع في كتابة قصيدة فانت لست بشاعر، واذا وجدت نفسك تبحث عن موضوع تنظم فيه اوعنه ، واذا وجدت نفسك تميل الى قول البيت والبيتين ولايسعك ان تكمل منهما قصيدة ذات موضوع مكتمل ووحدة وأول وآخر، وظل ذلك ديدنك وماتقدمت خطوة اخرى فانت لست بشاعر ، ولن تكون شاعرا بتعلم أسرار اللغة واتقانها ولا بدراسة البلاغة وفروعها وبيانها ، ولو حفظت سرالصناعتين وجواهر البلاغة ! والا لكان ابو هلال العسكري شاعرا او لسبقك اليها الامام عبد القاهرالجرجاني ، فقد قال كل منهما البيت والبيتين ولكنهما ماكانا شاعرين ، ولن تكون شاعرا بالشهادة الجامعية الأولية ولا العليا في اختصاص الشعر والأدب والا لكان الدكتور محمد كاظم البكاء والاستاذ جواد علي والدكتو طه حسين شعراء ، ولا بمعونة المنجد والقاموس المحيط ولسان العرب .فشعراء المنجد ليسوا شعراء بل نظام ! ولا بالتمرس والنقد والا لكان العبد الفقير شاعرا …وقد قيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به ؟ قال : علمي به هو الذي يمنعني من قوله ، وأنشد :
وقد يقرض الشعر البكي لسانه …… وتعيي القوافي المرء وهو لبيب
الأمراصدقائي وأعزائي يتعلق بالفطرة والموهبة والشيء الذي يجبرك على قول الشعر ولافكاك لك منه وان حاولت ، كما يجبرني على الكتابة في الفلسفة والنقد وكما يجبر النجار البارع على التفنن بانتاجه فيصبح نحاتا توضع تحفه امام النظار ويأتي الناس لشراءها من بعيد الامصار ، وكما يجبرالرسام الحقيقي على مسك فرشاته وان كان مريضا منهكا تعبا ، وان كان مهموما ومشغولا ولو كان مفلسا ولا أجر للوحاته ، هذا هو الامر ، شيء بداخلك ينبهك ويدفعك لقول الشعر وفي موضوع لاتحدده وفي غرض لاتصنفه انت ولاتسميه الا بعد ان تصحو الى نفسك ويفترعزمك أو ان ياتي الناقد فيخبر الناس عنه اوقد يخبرك ، شيء يسهل امامك كل صعب ويلقنك الكلمات والمعاني ..شيء في طبعك كان يسميه العرب “الجن” ويسميه جبران “الوحي” ويسميه بيرم التونسي “الزنقة” : «لما تواتيني زنقة الإلهام فقل على الدنيا السلام» ..وهو الشيء الذي أجبر الجواهري على الغربة وعلى التدوين المستعجل على الحائط والوسادة وطاولة الطعام ،!:
ناديت شيطاني فاحسن جابة ….وهو المعاصي سيد الارباب
شيء اودى بالشاعر الأول الى المهالك ، فقتل على يد فاجر فاتك . فغادر شاغل الناس ومالئ الدنيا ، مبكرا هذه الدنيا ! وأجبراحمد شوقي على ترك فرش الملوك ومصاحبة كل ماجد أو صعلوك ،وأجبر السيد الحبوبي على نزع عمامته والقول في الغزل والطرب زاهدا في امامته! واجبر البارودي على ترك العمل السياسي وهو رئيس الوزراء السابق ، وفتح بيته بالقاهرة للأدباء والشعراء، من امثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومطران خليل وإسماعيل صبري، حيث تأثروا به جميعا ونسجوا على منواله، فخطوا بالشعر خطوات واسعة، وأسسوا “مدرسة الإحياء” ..هونفس الشيء الذي جعل الأخطل الصغيراميرالشعراء اللبناني ينهض من فراشه تتنازعه الحمى ليرثي نده أمير الشعراء المصري ، وأخرج البردوني من محبسيه في اليمن ، العمى والبيت ودفعه الى المنابر، كما أخرج مثاله المعري قبله من الشام وأركبه راحلته الى بغداد في ليل سادر. ومكن ابا القاسم الشابي ومثله طرفة بن العبد من قول الشعرالناضج في الصبا ورحلا عن الدنيا ولم يتما طور الشباب بعد .! وهو الشيء الذي ألهم محمود فرحان ليخالف الشعراء فيقول :
وما انا بالمعلل فيك نفسا…….وهل مثل التعلل من هوان
ولكني اذوب أسى لاني………احاورذا الزمان بترجمان
انه امرلاتستجديه ليحضربل لاقبل لك برده ، فهذا ذو الرمة يريد ان يمنعه فلا يقره فيقول « والله لأكسفنك بشيء ليس في حسبانك ثم ردد سبحان الله والحمد لله، ولا اله إلا الله والله اكبر».
نفسها موهبة العالم الذي فتح لنا علوم الفيزياء ومغاليق الهندسة التي استعصت على المختصين والدارسين واختراعات الطب التي اعيت الباحثين ، فقفزت فكرة في ذهن احدهم من سقوط تفاحة او من ضوء منبعث لم تعر له انت اهمية طوال قرون . الالهام الذي الهم ارسطو والكندي الفلسفة. ليس كل من رغب اصبح شاعرا وافلح ، وليس كل من تمنى واشتهى نال المنى او المنتهى .
فالشاعر هو الممسك باللحظة، والمنقذ لها من العدمية والصائغ لها اللفظة والمسبغ عليها المعنى حرصا عليها من الضياع والعماء والاندثار مع العبث .وليس نلزمك بان فلانا الاشعر بين الأقران والاشجع بين الفرسان فلا تقرب الميدان . كلا فميدان الشعر ليس حكرا لاحد ولن يغلق ابوابه أحد ولو كان المتنبي او جرير ، فلكل شاعر نصيب وغرض يتفوق فيه وبيرع في اجادته ، ولذا ماجعل النقاد العرب المنصفون للشعر حدا ولا زعيما ولا رجلا لايجوز التباري معه ..نعم وصفوا فلانا أميرا والاخر كبيرا وغيره شاعر مفلق والرابع مطلق ..ولكنهم ماحكروا الشاعرية على أحد وظلوا ومازالوا يناقلونها من شاعر فحل لآخر ..الا اننا انما اردنا منك ان تحوز شاعرية ما ، فلن تكون شاعرا بدونها ..ولذا قال العرب في الجاهلية : اشعر الشعراء أربعة : “زهير اذا رغب، والنابغة اذا رهب، والاعشى اذا طرب، وعنترة اذا غضب” معتبرين ومقيدين شاعرية زهير برغبته فان لم يكن في مزاجه خرج شعره أدنى من شعر غيره :
وَمَن لا يُصانِع في أُمورٍ كَثيرَةٍ …….يُضَرَّس بِأَنيابٍ وَيوطَأ بِمَنسِمِ
وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِايا ينلنه ……..وَإن يرق أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ
والنابغة برهبته وخوفه من بطش الملك النعمان الذي اهدر دمه فأتحفنا بأجمل اعتذارياته :
حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ رَيبَةً……..وَلَيسَ وَراءَ اللَهِ لِلمَرءِ مَذهَبُ
لَئِن كُنتَ قَد بُلِّغتَ عَنّي خِيانَةً…..لَمُبلِغُكَ الواشي أَغَشُّ وَأَكذَبُ
والأعشى بطربه وذهاب الخمرة بلبه ، فهو صناجة العرب:
ليست كمن يكرهُ الجيرانُ طلعتها…..ولا تراها لسرِّ الجارِ تختتلُ
إذا تقومُ يضوعُ المسكُ أصورةً….والزنبقُ الوردُ من أردانها شملُ
وعنترة بغضبه وفروسيته:
موتُ الفتى في عزهِ خيرٌ له ………منْ أنْ يبيتَ أسير طرفٍ أكحل
إنْ كُنْتُ في عددِ العبيدِ فَهمَّتي ……فوق الثريا والسماكِ الأعزل
وانا لا اوصيك بقول الشعر ان لم تكن اهلا له ، وقد قيل “ لايزال المرء مستورا وفي مندوحة مالم يصنع شعرا او يؤلف كتابا او سطرا ، لان شعره ترجمان علمه وتاليفه عنوان عقله”
وقال محمد بن مناذر وكان اماما في الفضل والادب :
لاتقل شعرا ولاتهمم به ….فاذا ماقلت شعرا فاجد
وقال الصحابي الشاعر حسان بن ثابت :
وان اشعر بيت انت قائله …………بيت يقال اذا انشدته صدقا
وانما الشعر لب المرء يعرضه …على المجالس ان كيسا وان حمقا
ولذا فقد صبر دعبل الخزاعي على الشعر حتى تاتى له فقال :
ساقضي ببيت يحمد الناس امره ….ويكثر من اهل الرواية حامله
يموت رديء الشعر من قبل اهله ….وجيده يبقى وان مات قائله
فان قلت ولكن زهيرا كان يصنع الحوليات وينقحها ويزيد وينقص والنابغة الذبياني لم يقل الشعرقبل الاربعين والسياب كان يقرأ لغة الغرب ..اقول لك نعم ، فمن قال ان كل الشعراء جرير ، فمنهم كثير ينقح الشعر ويتفوق عليه ، ولكنه ينقح الفكرة التي واتته والالهام الذي خالجه وليس الفكرة التي يشتهيها ، ويستعيرها او يشتريها ، ولا التي يسرقها و يدعيها ولذا فقد كان القوم من العرب يقيمون عرسا اذا ولد لهم شاعر! ..وقيل : قائلوالشعرثلاثة شاعروشويعروشعرور ، والشعرور كما قال الاصمعي مثل ابن حمران سماه بذلك امرؤ القيس . وقال العبدي في احدهم يدعى الشويعروهو من بتي ضبة ثم بني حميس :
الا تنهى سراة بني حميس ….شويعرها فويلية الافاعي
وفالية الافاعي دوبية فوق الخنفساء صغرها ايضا تحقيرا
وقال الحطيئة يصف صعوبة الشعر:
الشعر صعب وطويل سلمه …اذا ارتقى فيه الذي لايفهمه
زلت به الى الحضيض قدمه …..يريد ان يعربه فيعجمه
فلن تكون شاعرا بالادعاء والمحاولة والانتحال فاعرف قدرك قبل ان يعرفك اياه من لايتوانى فيحزنك ، وروي في تراث العرب ان رجلا لقي آخر وقال له انما الشعراء ثلاثة شاعر وشويعر وماص بظرامه فايهم انت ؟ فاعترف الرجل وتواضع مازحا وقال ؛ اما انا فشويعر واختصم انت وامرؤ القيس في الباقي ! واليوم كثير ممن يقول الشعر لايقرب ان يكون شويعر ولابشعرور ..شعره مفلس من كل فضيلة ..ومشتمل كل رذيله.
وبعد فلن تكون شاعرا بالدرس والتعلم بل تنمي شاعريتك بهما ان وجدت كما ينمي الكاتب موهبته بالاطلاع واللغة والترجمة ، وكما يفعل الموهوب موسيقيا بالتدريب وغنائيا بالتعريب والتطريب والرسام بالتفصيل وبالتشذيب ، “واذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه ولا استطراف لفظ او ابتداعه ولا زيادة فيما اجحف به غيره من المعاني او نقص مما اطاله غيره من الالفاظ او صرف معنى عن وجه الى وجه اخر كان اسم الشاعر عليه مجازلاحقيقة وليس له الا فضل الوزن وليس هذا بفضل مع النقصير” * ، ولن تكون شاعرا بمصاحبة الشعراء وقرائتهم والالكنت انا شاعرا ، ولن تكون شاعرا بطبع ديوان واعطائه عنوان فهذا صار متاحا حتى للصبيان ، ولن تكون شاعرا بتطبيل غيراهل الصنعة لك وتهليلهم ، فاذا لم تولد شاعرا فلن تكون كذلك ..أي ..لن تكون شاعرا اذا لم تولد كذلك .