قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ “.
حكايتي مع ذوي الإحتياجات الخاصة بدأت عام 1991 عندما أبلغت أن رفيق الطفولة ” عامر ” اليتيم المصاب بإرتخاء العضلات منذ نعومة أظافره قد قضى جوعا في أحدى دور اﻷيتام بمحافظة نينوى بعد أن ولى المسؤولون عن الدار هربا من جراء القصف اﻷميركي الغاشم ليعثر على جثته ﻻحقا طافية وسط المياه التي أغرقت الملجأ يومها ، وما تزال وستظل تلكم اﻷبيات الحزينة التي تغنى بها الشاعر الشعبي الشاب المقعد على كرسي المشلولين حسن الشيخ هادي ، الذي أستشهد بتفجير ذي قار الارهابي عام 2017 ، ترن في أذني (من حضن أمي كُبَل للكرسي اجيت ..كبرنا واﻷيام تمشي وما مشيت !) وستظل إبتسامات إمرأة العام 2016 وأيقونة ذوي الإحتياجات الخاصة العراقية جنات الجميلي ،التي توفيت قبل أن ترى معرضها التشكيلي الشخصي الذي أقيم في العاصمة اليابانية طوكيو وحقق حضورا ﻻفتا تجدد حزنا ، تستدر دمعا، تنكأ جرحا غائرا لم يندمل بعد ، وكلما حقق منتخب البارالمبية العراقي أوسمة ملونة إعتاد على تحقيقها في جميع البطولات الدولية والعربية وبرغم الفرح الغامر بالفوز الكبير عاودت اﻷحزان ظهورها لتؤرق ليلي وتقض مضجعي ذاك أن بلدا كالعراق يخرج من حرب ليدخل في أخرى ليس فيه مصنع واحد للاطراف الصناعية وﻻ للكراسي المتحركة وﻻ وسائل لخدمة المكفوفين والصم والبكم ومرضى التوحد وضحايا متلازمة داون والمرضى النفسيين وشديدي العوق وضحايا التقزم والتشوهات الولادية وأعدادهم تفوق الـ 3 ملايين بمثابة كارثة الكوارث ، كل ذلك التقصير يحدث مع الإصرار على عدم تفعيل قانون رعاية ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة رقم (38) لسنة 2013 والذي يعرف ذوي الاعاقة بأنهم ” كل من فقد القدرة كلياً أو جزئياً على المشاركة في حياة المجتمع أسوة باﻵخرين نتيجة إصابته بعاهة بدنية أو ذهنية أو حسية أدى الى قصور في أدائه الوظيفي” علما أن معاهد الرجاء المتخصصة برعاية المعاقين ذهنيا وعددها 17 معهدا في عموم العراق، ومعاهد الأمل المتخصصة برعاية الصم والبكم وعددها 22 معهدا، ومعاهد النور وعددها 5 معاهد لرعاية المكفوفين إضافة الى معهدي السعادة والمنار لرعاية الأطفال المعاقين حركيا، ومعهدي الحنان لرعاية الأطفال شديدي العوق، احدهما في بغداد والآخر في كربلاء ﻻتفي بمجملها بالغرض ولو بالحد اﻷدنى ﻷنه وكما يقول المثل العامي -الشك كبير والركعة صغيرة – !
هناك آفة إجتماعية خطيرة جدا يعاني منها المجتمع العراقي عموما إضافة الى كل ما ذكرت آنفا اﻻ وهي ظاهرة السخرية من المعاقين على إختلاف أنواعهم والإستخفاف بهم وإطلاق التسميات والتوصيفات الجارحة بحقهم ” أعور ، أجقل ، أعرج ، مخبل ..الخ ” ،ما يدفعهم الى ترك مقاعد الدراسة مبكرا ، والإنسحاب الى الداخل فضلا عن الإنكفاء على الذات ليتحولوا بمرور الوقت الى أشخاص إنطوائيين ، إنعزاليين ، غير منتجين تزداد أحوالهم سوءا كلما تقدمت بهم السن وإنفض من حولهم عنهم إما لوفاة أو سفر أو هجرة أو زواج أو نزوح ليتركوا في نهاية المطاف وحيدين لأقدارهم كما حدث مع ” عامر ” الذي أحيل الى دار اﻷيتام بعد وفاة أمه التي سبقها والده ، وألفت عناية كل من يسخر من ذوي الإحتياجات الخاصة أو يسكت على ذلك الصنيع المخزي الى ماقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ” وقوله صلى الله عليه وسلم ” كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طَمْرَيْنِ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ” ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ” هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ” كيف لا وهؤلاء الضعفاء وأمثالهم قد لقنوا البشرية عبر التأريخ دروسا في قوة الإرادة لاتلين، الألمان يفاخرون ببيتهوفن وسيمفونياته التسع التي ألف أروعها وهو أصم لا يسمع ، محمد بن سيرين المعروف بتأويل الرؤى وتفسير الأحلام كان مصابا بالصمم إلا انه بلغ من العلم ما دفع الشُعبي ليقول فيه (عليكم بذلك الأصم)، مصطفى الرافعي الملقب بمعجزة الأدب العربي كان أصما، العداء الأفريقي أوسكار بيستوريوس، كان مبتور القدمين ، السباح تيرينس باركين، الحاصل على الميدالية الفضية في دورة الألعاب الاولمبية 2000 لا يسمع منذ ولادته، الأمريكية، مارلا رانيان، فازت بـخمس ميداليات ذهبية في دورة ألعاب المعاقين ودورة أثينا 2004، وهي كفيفة ، النجم المصري إبراهيم حمدتو، الذي أذهل العالم بقدراته في منافسات دورة الألعاب البارالمبية 2016 في العاصمة البرازيلية وهو يلعب تنس الطاولة بفمه وقدمه، وقائمة المشاهير والعباقرة من ذوي الاحتياجات الخاصة وفي جميع المجالات طويلة جدا ﻻمجال لإستعراض عشر معشارها هاهنا !
ولعل إهتمامي بالسينما والدراما جعلني أشخص جانبا يذهل عنه الكثير اﻻ وهو أن معظم اﻷفلام العربية والعالمية التي تناولت نوعا من أنواع الإعاقة ” الذهنية ، الحركية ، الحسية، النفسية ” قد حصدت أرفع الجوائز وحظيت بشهرة طبقت اﻵفاق وحفرت في الذاكرة والذائقة عناوينها وأسماء أبطالها بأحرف من ذهب بدءا بفيلم ( أحدهم طار فوق عش الوقواق) الحاصل على خمس جوائز أوسكار والذي يتحدث عن مستشفى اﻷمراض العقلية ، مرورا بفيلم ( رجل المطر ) الحاصل على أربع جوائز أوسكار والذي يتحدث عن مرض التوحد ، فيلم ( أنا سام ) الذي رشح للاوسكار والذي يتناول قصة معاق ذهنيا ، فيلم ( فورست غامب ) الحاصل على 6 جوائز اوسكار ويناقش الاعاقة المركبة ” الذهنية – الحركية ” ، فيلم “عطر إمرأة” الحاصل على الاوسكار والذي يستعرض حياة رجل ضرير ، فيلم بنجامين الحاصل على ثلاث جوائز اوسكار من اصل 13 جائزة رشح لها ، مرورا بـ ” أيام الغضب ، اﻷخرس ، الخرساء ، الكيت كات ، توت توت ، قاهر الظلام ، أمير الظلام”. والقائمة طويلة جدا تؤشر بمجملها الى أن معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة تثير حيثما حلت و إرتحلت داخل النفس البشرية ما يدفع للتعاطف فضلا على التفاعل معها سلبا أو إيجابا ، ويبقى الخيار متروكا للمجتمع وحكمائه في أساليب وآليات توجيه هذا التفاعل بالإتجاه الانساني الصحيح ، أوالشيطاني الخاطئ وقطعا أن أمة ﻻترعى معاقيها لن تُنصر ، لن تُرزق، لن تفلح ، لن تنتج وﻻ خير مطلقا فيها !
المطلوب اليوم هو تثقيف المجتمع بكل شرائحه بحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة وكيفية التعامل معهم ورعايتهم ومعاقبة كل من يمسهم بسوء ولو همسا ، علاوة على العمل الجاد المثمر على دمجهم في المجتمع وتأهيل ذوي الإعاقة نفسيا وبدنيا ، ماديا ومعنويا ، علاجهم في المستشفيات والمستوصفات الحكومية مجانا ، توفير فرص عمل شريفة لهم ، تطوير مهاراتهم ، اكتشاف وتنمية مواهبهم ، تخصيص ممرات وطرق خاصة آمنة لهم ، صرف مرتبات شهرية مجزية وثابتة لهم وللمعين المتفرغ لرعايتهم ، تخصيص مقاعد دراسية ولجميع المراحل لهم ، وأخرى في وسائل النقل العامة والخاصة ،استحداث مرافق صحية خاصة بهم في المطارات والمرافئ والمحطات والمتنزهات واﻷماكن العامة كما هو معمول به في جميع انحاء العالم ، تزويدهم بالكراسي المتحركة المخصصة لذوي الشلل النصفي والرباعي ، بالعكازات الابطية والمرفقية ، بالمساند الرباعية والثلاثية ، بعصي الارتكاز ، الفرش والمراهم المضادة للتقرحات ، سماعات خلف اﻷذن لضعاف السمع ، مناهج التعليم بطريقة برايل للمكفوفين مجانا ، استحداث أكبر عدد من المراكز المخصصة لرعاية وتعليم المصابين بالتوحد ومتلازمة داون ، إشاعة مفاهيم إحترام المعاق وعدم التقليل من شأنه في خطب الجمعة ودروس الوعظ والارشاد والكتب المنهجية وعبر الملصقات والبوسترات والكراسات والفلكسات الارشادية التي يجب ان تعلق وتنشر في كل مكان ، إفتتاح نواد رياضية لهم تابعة للبارالمبية العراقية وفي جميع الالعاب والمحافظات ، إقامة معارض تشكيلية وورش عمل تدريبية تعنى بإحتضان مواهبهم وتطويرها وعرضها للجمهور مجانا ناهيك عن المؤتمرات والندوات وورش العمل المخصصة لهذا الهدف النبيل .اودعناكم اغاتي