22 نوفمبر، 2024 11:47 م
Search
Close this search box.

خيمة صفوان … الحقيقة المغيّبة …!

خيمة صفوان … الحقيقة المغيّبة …!

في إحدى جلسات مجلس الثلاثاء الثقافي الأسبوعي المُلتئم في صالون دار الأستاذ الدكتور شوقي ناجي الساعاتي بعمان، ألقى على مسامعنا الأستاذ هاشم الشبلي، القانوني الضليع ووزير العدل الأسبق، محاضرة قيّمة ومهمة عنوانها (العلاقات العراقية-الأمريكية في ضوء الاتفاقية الأمنية سنة 2008، وإطارها الاستراتيجي). وخلال استرساله وتسلسله المنطقي لأحداث الموضوع وصولاً إلى صُلب القضية، أسهب المحاضر وتطرّق إلى حوادث عدّة، منها المفاوضات التي جرت في مدينة سفوان بين العراق وأمريكا عام 1991، عقب انتهاء حرب الخليج الأولى ووقف إطلاق النار، وما أُطلق عليها إعلامياً بـ (مفاوضات خيمة سفوان) وقال: إن جملة قرارات قاسية اُتخذت ضد العراق على طاولة هذه الخيمة، منها ترسيم الحدود ونزع أسلحة الدمار الشامل ودفع تعويضات مالية وغيرها من القرارات المجحفة، التي وافق عليها العراق مرغمًا لا بطل…!
وبينما أنا منهمك وكلي أذن صاغية لكلام الأستاذ الشبلي، سرحتْ أفكاري بعيدًا وعادت بيّ الذاكرة إلى أقل من ثلاثة عقود عندما كنت عسكريًا في البصرة عام 1991، وأنا استمع إلى راديو مونتي كارلو وتقرير صوتي من مراسلها العسكري (عبد الله الشّهري) وهو ينقل تفاصيل المفاوضات ، حيث قال في حينها: (انتهت قبل قليل في مدينة سفوان الحدودية العراقية مفاوضات وقف اطلاق النار بين قوات التحالف ووفد الحكومة العراقية، وتمخّضت عنها عدد من القرارات المُلزمة على العراق، فيما كان أعضاء الوفد العراقي يُصغون إليها وهم مخفقون، ولم يردّوا على تلك القرارات سوى بكلمة نعم … ثمَّ نعم … ثمَّ نعم …! وانتهى الاجتماع وغادر الوفدان الخيمة …!).
إلى هنا والأمر اعتيادي كأي خبر يذاع من راديو غربي منحاز، ومراسل سعودي خصم، فتقبّلتُ الخبر على مضضّ كأي عسكري عراقي يستمع إلى هكذا قرارات بهذا الوصف المفتري والتضخيم الإعلامي المبالغ، ونحن أبعد ما نكون عنها.
سفوان، التي سمعنا بها كثيرًا ولكن لا يعرفها إلا القليل، هي مدينة حدودية عراقية صغيرة، تقع جنوب مدينة البصرة وتابعة لقضاء الزبير، تبعد مئات الأمتار عن الحدود العراقية الكويتية، وسُمّيت بهذا الاسم نسبةً لمؤسسها الصحابي الجليل سفوان بن عسال المرادي اليماني. وأصبحت فيما بعد أشهر من نار على علم، بفضل هذه الخيمة البالية …!
بعد أكثر من عشر سنوات وتحديدًا في عام 2002، شاءت الصدفة المحضَة أن ألتقي بالعميد البحري نوفل عبد الحافظ، الذي قام بدور المترجم بين الوفدين تحت ظل هذه الخيمة. ودار بيني وبينه حديث جانبي حول تلك المباحثات وما أُقرَّ فيها. فقال: إن العراق بهذا الوفد العسكري الاحترافي المتواضع، لم يوقّع على أي قرار، أو وثيقة استسلام، ولم يُسجّل أي محضر للاجتماع، على الرغم من وجود أوراق وأقلام على الطاولة، إنما جرى اتفاق عسكري شفهي حول عدد من الأمور اللوجستية لتسهيل مهمة وقف إطلاق النار بين الجانبين. أي أنها كانت مباحثات ميدانية بين قيادتي الجيشين لتسهيل عملهما القادم وأنهاء حالة الحرب.
بعد انتهاء محاضرة الأستاذ هاشم الشبلي، افتتح مدير الجلسة الدكتور شوقي، باب المداخلات والتعقيبات والأسئلة حول موضوع البحث، ولما سُمح لي، وجّهت كلامي للأستاذ الشبلي، وقلتُ له، نفس ما سمعته وقتئذ من المترجم نوفل. فأبدى استغرابه واندهاشه وعدد من الحاضرين، عما سمعوه من أمرٍ مناقض تمامًا لما ذُكرَ في المحاضرة وما هو معروف لدى كل الناس. لكن الشبلي عادَ وأصرّ على ما قاله، لأعود أنا مرة ثانية وأصمّم على ما قلته وأوضحت له ولجميع الحاضرين أن أحد المفاوضين العراقيين مَن كان داخل خيمة صفوان، لا زال على قيد الحياة، وهو في عمان وباستطاعتنا معاودته والاستئناس برأيه-لفضّ الاشتباك بلغة أهل الجيش-بيني وبين الأستاذ هاشم، ووضع النقاط على الحروف باعتباره شاهد حي لا لبس فيه على كل ما جرى من كلام في الخيمة.

بعد أيام قليلة قصدّت الفريق الركن صلاح عبّود، قائد الفيلق الثالث وعضو الوفد المفاوض في خيمة صفوان وقتئذ، والتقيت به لأستفسر منه وليطمأنَّ قلبي عن حقيقة تلك المفاوضات، وشرحت له أيضًا ما جرى في مجلس الثلاثاء من نقاش وحوار واختلاف في وجهات الرأي، فأكد لي صحّة مداخلتي مع الأستاذ هاشم، وقال مستذكرًا تلك الدقائق: [دوّنتُ كل فقرات ذلك اللقاء الذي جرى مع وفد العدو، نصًا وروحًا دون تحريف للحقائق أو تزوير للتاريخ، ونشرتها في كتابي الموسوم (أم المعارك … الحقيقة على الأرض) الذي صدر منتصف عام 2016].
وعليه وللزيادة في التوضيح على ما جرى أمام الرأي، وكبادرة ثقافية، فقد طلبتُ مستأذنًا من السيد الفريق ودعوته باسم مجلس الثلاثاء أن يُمتعنا بمحاضرة يتناول فيها بأسهاب ما جرى، باعتباره شاهدْ شهِدَ كلَّ شيء وسمِعَ كلَّ ما قيل، تحت سقف هذه الخيمة وبين حبال أركانها. فتقبّل الدعوة دون تردّد، وبرحابة صدر، وخُلقْ معهود، فتشجّع للحضور لإفصاح الأمر علينا على الرغم من هرم سنّه الكبير، الذي ذاقت هذه المهنة الشاقة وتحمّلت رزيئة الأحداث الجمّة.
في صباح يوم 16/7/2019، حضر الفريق صلاح عبود، مع ولده البكر عمر، في الموعد المحدد له إلى المجلس حاملًا في رأسه ذكريات الماضي، وفي جعبته هموم وطنه، وفي يده اليمنى نُسخ عديدة من محضر مباحثات الخيمة ليوزعها على الحاضرين. وفي يده الأخرى كتابين أجنبين صدرا في أمريكا كدليل إثبات من لسان غريم ندّ، على ما سيذكره من حقائق أمام الحاضرين.

كانت الصالة ممتلئة برواد المجلس الدائمين وجلّهم من المدنيين إضافة إلى عدد من العسكريين المتقاعدين كضيوف على المجلس. بدأ السيد عبّود، كلامه بالقول:
[إنَّ كلَّ كلمة قيلت في مفاوضات خيمة صفوان، لم تسجّل على الورق ولم يكن هناك توقيع على اتفاقيات أو قرارات وحتى سرّية، كما يضنّ البعض، لا من الجانب العراقي ولا من الجانب الأمريكي، وكل ما دار بيننا هو مناقشات شفهيّة سُجّلت على آلة تسجيل وأعطيَّ للوفد العراقي نسخة من شريط التسجيل، وقام المترجم العراقي لاحقًا، بتفريغ الصوت على الورق، لأقوم أنا بعد سنوات بنشر نصّها في كتاب شامل.
صدر قرار وقف إطلاق النار من الجانب الأمريكي ليلة 28 شباط 1991، ليبدأ سريانه اعتبارًا من الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي، فيما بدأت مفاوضات وقف إطلاق النار يوم 3 آذار، حيث انتقلنا والوفد من الجسر السريع المؤدي إلى أم قصر بسيارة جيب أمريكية، ومنه إلى مدرج طائرات جبل سنام في ناحية صفوان، تحيط بنا حماية كثيفة من الناقلات والدبابات، بينما انتشرت على جانبي الطريق أعداد كبيرة أخرى من الدبابات وناقلات الأشخاص المدرّعة والجنود، إضافة إلى مواضع مدفعية وراجمات صواريخ. ورافقنا في السماء وبارتفاع منخفض طائرتين عموديتين (هليكوبتر)، لإظهار من نوع الترهيب واستعراض للقوة…!]
الوفد العراق تألّف من الفريق الركن سلطان هاشم، معاون رئيس أركان الجيش للعمليات (فكَّ الله أسره) واللواء الركن صلاح عبّود، قائد الفيلق الثالث، (أطالَ الله عمره) والعميد البحري نوفل عبد الحافظ، كمترجم (رحمَ الله نفسه). فيما تألّف الوفد المفاوض من الجنرال الأمريكي نورمان شوارزكوف قائد قوات التحالف، والأمير الفريق خالد بن سلطان بن عبد العزيز، قائد القوات العربية المشتركة ومترجم من جانبهم، وآخرين …!
عند وصولهم إلى المكان وترجلهم من السيارة، أحاط بهم جنود ليحولوا بينهم وبين عشرات من الصحفيين والمصورين الذين تجمهروا على طول الطريق، ثمّ توجهوا إلى خيمة وقف في بابها عدد من الضباط الأمريكان لإخضاع الجميع للتفتيش اليدوي الشكلي، فبدأوا أولًا بشوارزكوف ثمّ سلطان ثمَّ خالد، فصلاح، وبقية أعضاء الوفدين، وولجوا إلى داخل الخيمة حيث توسّطها طاولة كبيرة تحيط بها بثلاثة كراسي من كل جانب وخلفهما كراسي أخرى لبقيّة الوفدين.
بدأ الاجتماع في الساعة 11,30صباحًا في جو متوتّر ومشحون، لم تتم فيه المصافحة الودية بين الطرفين كما هو المعتاد. تحدّث في بدايته الجنرال شوارزكوف عن النقاط التي ستبحث والموكلة إليه من حكومته وأجابه الفريق سلطان بالشيء ذاته موضحًا له أنه مخوّل من القيادة العراقية لمناقشة كل النقاط المتفق عليها والتي أرسلت عن طريق سفير الاتحاد السوفيتي في بغداد وأي أمور أخرى تُستجد خلال المباحثات.
في مسار تلك المباحثات جرى التطرّق إلى أمور عسكرية بحتة لمِا بعد وقف إطلاق النار، واهم ما جرى في ذلك اللقاء هو الاتفاق على إطلاق سراح الأسرى فوراً ومن كلا الطرفين، وتبادل الجثامين، وتسليم خرائط حقول الألغام البرية والبحرية، وتعيين مواقع الأسلحة الكيميائية داخل الأراضي الكويتية. كما توصّل الطرفان إلى انسحاب قوات الطرفين داخل الحدود بمسافة كيلومتر واحد. إضافة إلى نقاط لوجستية أخرى اتفقا عليها لتسهيل مهمة حركة القطعات العسكرية. ومن جهة أخرى وافق الجانب الأمريكي على استخدام العراق لطائراته السمتية فوق أراضيه لنقل الجرحى والمسؤولين وحالات أخرى، واستمرت المباحثات قرابة الساعة من الزمن.
تصرّف الوفدان بحكمة ورويّة وتناقشا بهدوء وسكينة، على الرغم من الأجواء الملبّدة بينهما وانتهت جولة المفاوضات وغادر الوفد العراقي الخيمة متوجهين إلى مكان العجلات، وعند باب السيارة تبادل شوارزكوف مع سلطان التحية العسكرية وتصافحا بقوة هذه المرة، ثمَّ صافح شوارزكوف الفريق صلاح قائلًا له: (أهنئك … قدّت معارك ناجحة لكن سوء الحظ لم يُوفّر لك الإمكانيات لتربحها). وانطلقت السيارات عائدة باتجاه مدينة البصرة.

كان الفريق صلاح قد أهداني مشكورًا نسخة من كتابه (أم المعارك … الحقيقة على الأرض) وحرصت على قراءة جميع فقرات الحوار بين الوفدين بتمعّن، وما جرى بينهما، فلم أشك بأمانة ما كُتب وصدق ما قيل، لكن خرجت بقناعة جازمة هو أن 99،9% من الشعب العراقي-إن لم يكن أكثر-لا يعرف حقيقة وواقع ما جرى في هذا الاجتماع وأنا منهم.
ومن نافلة القول إن كلَّ ما ذُكرَ في حينها على صفحات الجرائد والمجلات وبرامج التلفزيون عن هذه المفاوضات ونتائجها من اتفاقيات (سرّية)، هو محضّ افتراء وتكهّنات من بنات الخيال، أو أنه دسّ مقصود من نفر ضالّ، ومن سياسيين معارضين مغرضين ومعروفين هدفهم تشويه الحقائق والتاريخ، وتضليل الشعب العراقي والرأي العام ومعاداة النظام القائم حينذاك.
يُذكر إن الجنرال نورمان شوارزكوف، قد أصدر كتاب بعنوان (الأمر لا يحتاج إلى بطل) نشره عام 1992. والفريق خالد بن سلطان، هو الآخر أصدر كتاب أسماه (مقاتل من الصحراء) صدر عام 1995، وتتطرق الاثنان بالتفصيل عما جرى داخل وخارج هذه الخيمة، ولا اختلاف في جوهرهما عن كتاب السيد صلاح.
إن سبب جهل هذه النسبة الكبيرة بما جرى، وغياب الحقيقة عنهم، هو أما ضعف الإعلام العراقي آنذاك في نشر فقرات المفاوضات أمام الشعب العراقي والعربي وبكل وسائله الإعلامية المتاحة، والعمل على استذكارها سنويًا للأجيال المتتالية … أو أن القصد من ذلك هو ألّا يُجيّر هذا الموقف إلى رباطة جأش المفاوض … أو ربما غايةٌ في نفسِ يعقوب … والله أعلم.
بعد احتلال العراق عام 2003، قيل الكثير عن خيمة صفوان، وخرجت الكثير من العبارات الغليظة من أفواه نتنة، منها: خيمة الذل والهوان، والاتفاقية المذلّة، وضياع السيادة العراقية، وصدام حسين باع العراق في صفوان … وإلخ من الألفاظ المخزية والسمجة، وجُلّ هؤلاء هم من شُذّاذُ الآفاقِ وخارج نسبة 99،9%.
لذلك صنيعًا للعراق والتاريخ، ما فعله الفريق الركن صلاح عبّود، عندما نشرَ كتابه هذا وإن كان متأخرًا عن زمانه بعض الشيء لكنَّ التاريخ لم يغادرنا بعد … وشهودهُ لا زالوا أبرار … وأبطاله عظماء، حتى اليوم، حتى تُكشف الحقيقة المغيّبة عن الجميع.
ولا فضَّ الله فوكَ أيها الضابط الكبير فيما قلته أمامنا من حديثٍ بليغ.
وصدق الشاعر حين قال:
إذا قالت حذامُ فصدّقوها
فإنَّ القول ما قالتْ حذامُ

أحدث المقالات