أثار الصحفي شمال عادل سليم في دردشته السريعة على هامش أحدى الفعاليات الانصارية في محافظة أربيل مع أحد الكوادر الحزبية الشيوعية السابقة ، والذي تنكر لانتمائه ( الشيوعي ) بعد أحتلال العراق وبعد أن ساهم في تهيئة الحزب بأتجاه المشاركة في العملية السياسية والتي نصبها الحاكم الامريكي ( بول بريمر ) . وقد كان أحد مسؤولي قاطع ( بهدينان ) في فترة الانفال الحرجة الاخيرة العام ١٩٨٨ . لبيد عباوي في دردشته مع شمال عادل سليم حول تسليم عوائل المقاتلين الشيوعيين الى السلطات الحكومية حاول أن يحصرها بالمسؤولية الجماعية ليتهرب من دوافع موقفه والمسؤولية تجاه رفاقه ، هذا الموقف الغير مسؤول من لبيد عباوي دفع أبناء العوائل المغدورة في متابعة تطورات تفاصيل عن ماحدث في جزئين نشرا في ( الحوار المتمدن ، وبيدر ميديا ) للرفيق والصديق كفاح كنجي .
في السنوات الاخيرة شددت العزم أن لا أكتب عن حدث أو أتناول موضوعاً الأ أن أكون قريباً منه ولو عن جزء بسيط من تفاصيله ، رأيته في المرة الأولى بعد أحداث المؤتمر الرابع لحزب الشيوعيين العراقيين في مقر زيوه الفصيل المستقل في نهائيات العام ١٩٨٥ ، في اللحظة الأولى وهو واقف مع حميد مجيد موسى في جوف الوادي متباهياً متعجرفاً من خلال هندامه وتصرفه النزق ذكرني ببعض أبطال الادب الروسي المنبوذين والمتعجرفين والبائسين والخائنيين ، فانتظرت من الايام القادمة ربما سأكون مخطئاً في تقييمه من النظرة الاولى ، لكن لم أحس بأي أطمئنان حول شخصه ، حيث لايمت بأخلاق الشيوعيين ومآثرهم بمعلم يذكر .
وقد وصفه النصير كريم كطافه في روايته ( حصار العنكبوت ) ، حول الانفال الأخير ( بقالب الزبد ) بأستخدامه المفرط لكثافة الجل على خصلات شعره لتثبيتها في رقعة صلعت رأسه الكبيرة ، وهو ينسل من بين تلك الخصيلات المتناثرة على وجناته الوردية ( المحفوفة ) ، بفعل وطأة أشعة الشمس الحارقة في تضاريس الجبل ، وكان هناك أنصار شيوعيين يتلون من ضنك العوز وملابسهم الرثة ومستلزمات العيش الطبيعية .
في عز ثورة البلاشفة ١٩١٧تصدر مشهدها الثقافي أدباء ومثقفين مثلوا روح الثورة وأهدافها . ماياكوفسكي ، يسينين ، فادييف . لم يعترف ماياكوفسكي بالأسماء الكبرى في تاريخ الادب الروسي في بداية طريقه الأدبي والسياسي ، فادى به أخيراً الى الانتحار ، كان يدعوا الى ضرورة التخلص من الماضي والارتباط مع الحاضر فقط في الانطلاق نحو المستقبل . لقد دعا ماياكوفسكي في بداية مسيرته الادبية الى أسقاط بوشكين من منصة العصر الحديث وخلعه والاطاحة به . بوشكين عاش ومات قبل ماياكوفسكي بقرن من الزمن . أن لينين حضر مرة في أحدى مؤتمرات الشباب الشيوعي ، وسألهم ( هل تقرأون شعر بوشكين ؟) ، فأجابوه ، كلا ، نحن لانقرأ البرجوازي بوشكين ، وأنما نقرأ شعر البروليتاري ماياكوفسكي ، فاجابهم لينين مبتسماً بجملته الشهيرة والواضحة وضوح الشمس ، لكن شعر بوشكين أجمل وأفضل .
في تصريح منسوب له ( لبيد عباوي ) وتناوله أكثر من مصدر للتأكد من فحواه ، وفي حديث ودي مع عدة صحفيين من الاتحاد الوطني الكردستاني ، رافعاً رأس خس بيده ، ومكشراً عن أنيابه المسوسة ، قائلاً .. أني أرتكبت أكبر خطيئة في حياتي حين أصبحت شيوعياً اللي طلعت ما تسوه رأس الخس هذا . لم ينمو بيننا أي ود رغم أننا في فصيل واحد محصور بين واديين ، بعد فترة زمنية قليلة لم يعد له وجود داخل الفصيل المستقل . في شباط العام ١٩٨٦ قرر الحزب أن أستعد للتوجه الى بغداد عبر رحلة تمر بجبل ( كارة ) في وادي ( مراني ) حيث مقر الفوج الأول بقيادة المرحوم أبو نصير ومقر قيادة الأقليم بمسؤوليه ، المرحوم سليم أسماعيل ( أبو عواطف ) ، المرحوم ( أبو جنان ) ، ولبيد عباوي ، وكان في الموقع أيضاً سبهان ملا جياد وزوجته ، وفي وصولي الى الموقع التجأت أليهم طيلة مكوثي لمدة أربعة أيام لمعرفة قديمة أيام قاطع سليمانية وكركوك ، وكنت في حديث يومي معهم ومع أبو عواطف من ضمن تلك الاحاديث طريقة توجهي الى الداخل ، وأي نقطة سأتسلل منها أمناً الى بغداد ، أما مع لبيد لم يكن أي حديث بيننا لامن قريب ولا من بعيد ربما حتى السلام نمرره بغفلة ، وحتى عندما تحركت باتجاه قرى الموصل مع الرفيق خديدا ( أبو داود ) ، ودعت الجميع الا لبيد لانه لم يشعرني بوجوده بل يستفزني مظهره وطريقة تعامله بما يتفرد به من غرور وعنجهية وسذاجه وغموض ، قدره لا يسوه الأ أن يكون بعثي صغير يتحرك ضمن دائرة ضيقة . ذهبت الى بغداد وحملت روحي على كفي ، وعدت الى الجبل ورجعت مرة أخرى الى بغداد ، وكنت أشاهده في موقع الأقليم بملابس لاعلاقة لها بملابس ويوميات النضال للانصار الشيوعيين . التطورات السريعة أجتاحات المنطقة أسرع من التوقعات والتحليلات ورسم الخطط أنتهت بنهاية قرار وقف الحرب بين البلدين الجاريين في ٨ آب ١٩٨٨ ، ذهبنا بأتجاهات متعددة نحو حدود الدول المجاورة . في دمشق ، كانت وجهتي بحثاً عن أفق للفضاء الانساني تليق بآدمية البشر ، وبمساعدة رفاق حصلت على جواز يمني ( جنوبي ديمقراطي ) . كانت وجهتي براغ ومنها الى دول اللجوء دول ( الرأسمالية ) ، أعلى مراحل الامبريالية كانت تتصدر أدبياتنا ومحاور ثقافتنا ، في ربيع العام ١٩٨٩ رافقت الرفيق المرحوم علي الجبوري ( أبو أحمد ) ، الى مقر الحزب في العاصمة ( دمشق ) للحصول على كتاب تأييد الى السفارة التشيكية في دمشق للحصول على فيزة دخول الى براغ ، ألتقينا في المقر بعد طول غياب من جانبي بلبيد عباوي ، وعندما تحدث أبو أحمد حول كتاب التأييد لي أنبرى لبيد عباوي قائلاً ( خلي يروح لطيف والمقصود أنا الى عامر عبدالله وباقر أبراهيم يعطوه الكتاب ؟) ، لم يسبق أن أرى المرحوم أبو أحمد بهذا الموقف وهو القريب الى القلب والتفكير ، في مهاجمته بأقذع الكلمات والعبر في داخل مبنى المقر ، ولولا توسلات الرفاق الذين كانوا حاضرين وتهدئة أبو أحمد لأصبح في موقف يحسد عليه ، وفوق ذلك مسح تلك الأهانة بكل ممنونية ، لو كان أي أنسان غيره لحجم تلك الأهانة لبات في وضع آخر ميئوس منه . في الليل من نفس اليوم جرت عدة أتصالات وكان حميد البياتي ( أبو داود ) ، محورها لتهدئة الموقف المتأزم ، وذهبت في صباح اليوم الثاني الى مقر الحزب الشيوعي العراقي وحصلت على كتاب التأييد ، ولصقت الفيزة على جوازي اليمني . هذا الشريط من الاحداث عادني الى الواجهة أثر الكتابات الاخيرة والخطيرة حول ما حدث من ملابسات في تسليم العشرات من عوائل رفاقنا الى أجهزة السلطة ، كان واحد من أبطالها لبيد عباوي بل له يد الطولى في هذا الملف الخطير ، الذي سكت عنه لسنوات ، لكن أبناء ورفاق الضحايا فتحوه بعد أن تقيأت جروحهم على أمل أن تندمل بجزء من الاجراءات الطبيعية في الحد ومعاقبة المذنبين ، والموقف الانساني والشيوعي يتطلب من الجميع بملاحقة المسيئين وممن سبب كوارث بحق الناس . بدل من أن تتخذ المواقف الشديدة تجاه هؤلاء المسيئين لتكن عبر للأخرين ولتقويم عود الحزب وتعزيز رفاقه به ، بل كرم في المؤتمر الخامس العام ١٩٩٣ في مدينة شقلاوة العراقية ، ليصبح لبيد عباوي عضو مكتب سياسي في الحزب الشيوعي العراقي . المؤتمر الذي دعا الى التجديد ومد يد المصافحة وروح التسامح ولملمة الشمل الذي تشظى بفعل أخطاء الماضي ، لكنه تبين فيما بعد أنه مجرد أعلان تسويقي ، وحل عنه في الواقع سياسة التهميش والتشهير برفاق الأمس ، وباتت هي الطاغية مما أدت بنا أن نشارك بالعملية السياسية وعلى أسس طائفية ونلحقها بتحالفات هشه غير مدروسة وستكون نتائجها وخيمة على تاريخ الشيوعيين ومستقبلهم في العراق . بعد العام ٢٠٠٣، عام الكارثة الوطنية عين وكيل وزير خارجية في أفسد وزارة وأفسد وزير شهده العراق الحديث ( هوشيار زيباري ) . وعينت زوجته مستشارة بأحدى السفارات العراقية تتقاضى راتباً برتبة وزير .
ومن هو الجبوري …؟ . أنه علي محمد جاسم الجبوري المعروف بأبو أحمد ولد عام ١٩٤٠ لعائلة فلاحية من قرية جديدة الشط التابعة لقضاء الخالص ، محافظة ديالى مر في سجون كثيرة ، أولها في سجن نقرة السلمان الصحراوي وغيره ، بين أعوام ١٩٦٣ ، ١٩٦٧ . وكان من الناجين من مجزرة ( بشت ئاشان ) ، أو من الشهداء المؤجلين . عمل في تنظيم بغداد المحلي كعضو لجنة محلية حتى بداية السبعينات ، ثم أرسل للدراسة الحزبية في معهد موسكو . بعد عودته عام ١٩٧٢ أنتقل للعمل في منظمة الفرات الاوسط ، وعمل بعد ذلك كسكرتير للجنة المحلية في محافظة الأنبار وعضو لجنة المنطقة الوسطى حتى مغادرته العراق عند أشتداد حملات القمع عام ١٩٧٨ . عاد الى الداخل أكثر من مرة بين أعوام ١٩٨٤ / ١٩٨٧ . عانى الكثير من صعوبات ومرارات العمل السري ، في ظروف لم تكن تتوفر فيها أبسط إمكانات هذا العمل . وبسبب أخلاصه وأندفاعه لأداء الواجبات الصعبة المطلوبة منه ، تعرض لما كان من المتوقع أن يتعرض له أي مكافح آخر ، ويضطر ، لخيار بغيض يكره عليه ، وهذا ما ولد في دواخله أزمة نفسية عميقة . وفي سنوات لاحقة جمعنا الجبل ومن يومها أمتدت علاقتنا ، كنت ألتجأ أليه في البحث عن الحلول في أزالة ثمة أشكالات . كان كادراً حزبياً مجرباً في تنظيمات العمل السري وبين المدن ، مدن الفرات الاوسط وبغداد وديالى والرمادي الذي كان في فترة ما أحد قادة تنظيماتها . في العام ١٩٨٧ تحركنا مع مفرزة من مقرات لولان عبر الاراضي الايرانية الى ( دولا كوكا ) بأتجاه مناطق وقرى أربيل وسليمانية وجهتنا العاصمة بغداد ، تعرضت المفرزة الى مخاطر جمة كادت أن تؤدي بحياتنا ، وعندما وصلنا الى مناطق قريبة الى المدن ( سماقلي ، طقطق ) ، ودعنا أبو أحمد الى بغداد مضطراً لتدهور حالته الصحية وعدم قدرته على المسير الطويل ، وأنا واصلت الرحلة مع المفرزة الى قرى ( قرداغ ، كرميان ) ، ومن هناك الى بغداد . في نهاية العام ١٩٨٨ ، ألتقينا مجدداً في دمشق ، وكانا يعتقد بعضنا نحن في عداد الموتى المرحوم أبو أحمد يعتقد أن أستشهدت وأنا كان ينتابني نفس الشعور حول مصير أبو أحمد ، قضينا سوية شهور في دمشق في لقاءات يومية وأحاديث مرة ومؤلمة عن تجربة خطيرة ومواقف أخطر في مواجهة أساليب الدكتاتورية . تركت دمشق يوم ١٥ آيار ١٩٨٩ باتجاه مملكة السويد ، والمرحوم أبو أحمد ساءت حالته الصحية لتراكمات صحية ونفسية ، وكان هناك أهمال متعمد بمتابعة وضعه الصحي ، الذي بدأ يسيء ساعة بعد ساعة ، فوصل الى موسكو في وضع ميئوس منه وفي محاولة أخيرة وصل الى مستشفيات العاصمة السويدية ( إستوكهولم ) ، وعجزوا الأطباء عن أنقاذه فودع الحياة ومتاعبها الى السماء ، فتوارى ثراه في مقبرة ( إستوكهولم ) بتاريخ ١٢ أكتوبر ١٩٩٠ . له ولدان أثير وسمير . وقد سبقته زوجته الى عالم التضحية والخلود ، كأحد ضحايا القمع داخل الوطن ، وتوفي صغيره سمير أيضاً .
المصادر …
مذكرات باقر أبراهيم .
كتابات كفاح كنجي ، أبن العائلة المنكوبة في أنفال ١٩٨٨ .
كتابات البروفيسور ضياء حسن نافع .