خاص: إعداد- سماح عادل
“الشيخ أبو العلا محمد” مطرب ومنشد وملحن مصري، هو “أبو العلا بن محمد بن حافظ”، وهو واحد من أهم الملحنين في الربع الأول من القرن العشرين في مصر.
حياته..
“الشيخ أبو العلا محمد” من مواليد 1884 في قرية بنى عدى مركز منفلوط بمحافظة أسيوط، وهو حفيد الشيخ (العدوى) من ناحية الأب، والأمير (حسن كتخدا) من ناحية الأم. في طفولته حفظ القرآن الكريم والتحق بالأزهر الشريف، واشتهر بين أقرانه بالصوت الحسن وإلقاء الشعر، وذاعت شهرته بين مشاهير الطرب في عصره، وقام بتلحين مجموعة من القصائد الشعرية الدينية لكبار الشعراء، سجل بصوته نخبة من القصائد والأغنيات على اسطوانات.
رزق”الشيخ أبو العلا محمد” من الأبناء بولدين وست بنات، وكان ابنه الدكتور”جلال الدين” يرغب في الزواج من “أم كلثوم” ولكن لم تتحقق رغبته.
وتميز “الشيخ أبو العلا محمد” في تلحين القصيدة وحافظ على القالب التقليدي للقصيدة أي نموذج الشعر العمودي، وألزم المطربين بالتقيد الكامل لشروطه من خلال اللحن الذي يضعه، وتعتبر مؤلفاته نموذج مثالي للقصيدة العربية في الغناء الكلاسيكي العربي لحنا وأداء وصياغة، وصورة ناطقة عن حبه للغة العربية الفصحى. ومن أشهرها “وحقك أنت المنى والطلب” وقصيد “الحب تفضحه عيونه”…
شيخ الملحنين..
في مقالة بعنوان (أبو العلا محمد شيخ الملحنين) يقول: “عمرو رضا”: “إذا كنت شغوفاً بالبحث عن البدايات في مسيرة الموسيقى العربية، فسينتهي بك المطاف غالباً عند أستاذ الأساتذة الشيخ أبوالعلا محمد رائد تلحين القصيدة المغناة، وأول من أخرجها للشعب بعدما كانت حكراً للحضرة الخديوية، فضلاً عن أنه مبتكر أول تخت موسيقي حديث، وأول صانع للنجوم في عالم الموسيقى الشرقية، كما أنه أول من كرّس سلطة الملحن منهياً بذلك عصوراً من الارتجال، درس زمناً في الأزهر، حيث استقرّ بحارة سوق المسك وابتدأ منشداً وقارئاً للقراَن، ومن ثمّ منح لقب الشّيخ، بعدها مال إلى عالم الفنّ فصار يغنّي في السّهرات الخاصّة القصائد والأدوار، مستلهماً الأصول الجماليّة للمدرسة الفنّيّة الّتي أسّسها المطرب والملحّن عبده الحامولي، وغنّى عدداً من أشهر أعماله مضيفاً إليها من إبداعه وقدرته على الارتجال، وقد سجّل أسطواناته الأولى في يناير/كانون الثاني 1912 لشركة جراموفون ثمّ لعدد من الشّركات الأخرى، مثل ميشيان خلال سنوات الحرب وبيضافون سنة 1920 وبوليفون سنة 1924! كانت تلك التسجيلات أول محاولة للخروج (بالموسيقى الفصحى) من المجالس الخديويّة الخاصّة لتنتشر بين الجمهور في القاهرة والمحافظات، مؤسسة فيما بعد الملمح الأساسي للموسيقى المصرية في القرن العشرين، وقد تخلّى جزئيّاً عن الغناء الدّينيّ كالإنشاد وتجويد القراَن، واتّخذ لنفسه تختاً من أكبر عازفي ذلك الوقت، وقد ذكر عازف الكمان الشّهير سامي الشّوّا أنّ أبوالعلا محمّد لم يكن يتدرّب على الألحان الّتي يسجّلها، فكان يطلب من أفراد التّخت أن يعزفوا مقدّمة من مقام معيّن تاركاً العنان لبديهته وقريحته، ويقال إنّهم كانوا يسألونه: ماذا ستغنّي اليوم يا شيخ؟ فيجيبهم: (اللّي يجود بيه علينا ربّناً)، إلاّ أنّ المنصت إلى تسجيلاته يتبيّن معالم تمكّن كبير من القطع المغنّاة وجهداً تركيبيّاً لحنيّاً متطوّراً”.
الابتكار المقامي..
ويواصل: “وكان فنّاناً مبدعاً ذا قدرات جبّارة على الابتكار المقاميّ، ممّا أكسبه شهرة كبيرة بين الأوساط الفنّيّة، حتّى إنّه عُدّ خليفة الحامولي، وتشهد على تلك السّمعة كثرة المطربين الّذين أعادوا غناء ألحانه وأبرزهم كوكب الشرق أم كلثوم ومطربة القطرين فتحية أحمد والشيخ سيد الصفتي والسلطانة منيرة المهدية، كما يشهد على ذلك أيضاً موافقة أشهر قراء القراَن الكريم الشيخ محمد رفعت على غناء قصيدة (وحقك أنت المنى والطلب) من تلحين الشيخ أبو العلا محمد في إحدى الإذاعات المحلية الأهلية، وللأسف لم تسجل على أسطوانة! جرّب أبو العلا كلّ ضروب الغناء الفصيح وقوالبه بما في ذلك الطّقطوقة، غير أنّه وسم عصره بما لحّنه من قصائد استأثرت بما يفوق النّصف من مجموع رصيده من التّسجيلات، وهي نسبة لم يبلغها غيره من بين معاصريه من أهل الغناء، وهي في معظمها قصائد صوفيّة من مؤلّفات أعلام التّصوّف المصريّ في العصر الأيّوبيّ أمثال ابن النّبيه المصريّ وابن الفارض والبهاء زهير الذي غنى له رائعته (غيري على السلوان قادر)، ونجد بينها أيضاً أعمالاً لشعراء متأخّرين مثل (والله لا أستطيع صدك) للإمام الشّبراوي شيخ الأزهر في نهايات القرن الثامن عشر وإسماعيل صبري باشا وأحمد رامي”.
ويضيف: “وخلافاً للأسلوب الكلاسيكي كما عرفناه عند عبد الحي حلمي أو سلامة حجازي، فإنّ أبو العلا محمّد أول من قدم القصيدة المغنّاة الموقّعة عبر مقام موسيقي محكم لا مجال فيه للارتجال، وفيما يخص ّ الدّور فإنّ ألحانه كانت بداية لعصر سيطرة الملحن ونهاية لعصر ارتجال المطرب، مبشّراً بما ستصير عليه الموسيقى المصريّة فيما بعدُ، كذلك مثّلت ألحان أبو العلا محمّد مرحلة في تطوّر مفهوم القصيدة المغنّاة، حيث كانت ممهدة لألحان زكريا أحمد ومحمّد عبد الوهاب خاصة أعماله الأولى، فقد بدت بصمات تأثير المُعلّم (أبو العلا) فيها واضحة مثل (منك يا هاجر دائي)! ابتكارات أبو العلا محمد لم تنحصر في مجال التلحين فقط، فهو صاحب السبق في مجال صناعة النجوم وتجربته مع كوكب الشرق تصلح درساً لكيف تصنع نجماً، فعندما استمع لصوتها على رصيف محطة قطار طماي الزهايرة قال لوالدها: حرام عليك أن تحبس هذه الموهبة في قرية صغيرة.. ونصحه بالانتقال إلى القاهرة عاصمة الفن والشهرة، وبالفعل استجاب الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي والد أم كلثوم لنصيحة الشيخ أبو العلا محمد واستقرت الأسرة في القاهرة، ولم يبخل الشيخ أبو العلا محمد على أم كلثوم بفنه وتجاربه، فأعد لها دروساً في الموسيقى والإلقاء بمعاونة الشاعر الكبير أحمد رامي وفتح لها أبواب الإعلام، وكان صاحب أول (نيولوك) في تاريخ الموسيقى العربية عندما أقنعها بالتخلي عن العقال والزي البدوي والتخت البدائي المصاحب لها، وحولها إلى الآنسة أم كلثوم (صاحبة العصمة)!”.
أم كلثوم..
وكان الشاعر “أحمد رامي” على صلة وثيقة ب”الشيخ ابو العلا محمد”، إذ كان أبو العلا محمد صديقا له وصديقا لوالده من قبل، وفي أحاديث رامي المسجلة نجده يشيد بجمال صوته وحسن غنائه وأدائه المتقن للألحان فهو في نظره “سيد الملحنين وأحسن الغنائين للقصائد» كما جاء في أحد هذه الأحاديث”.
وفي الأحاديث المسجلة لأم كلثوم، وهي ليست بالقليلة، نجد تأكيداً آخر على تلك الصفات التي تميز بها “الشيخ أبو العلا محمد” كأستاذ في الغناء وكأستاذ في التلحين، لاسيما ما جاء في ذلك اللقاء المطول الذي أجراه معها الإذاعي “وجدي الحكيم” وتم تسجيله في الكويت في مؤسسة «النظائر»، ولعل ذلك يعود إلى نهاية الستينيات. وهناك لقاء آخر مطول أجراه مع “أم كلثوم” الإذاعي “طاهر أبو زيد” في تلك الفيلا التي كانت تقيم فيها في الزمالك قبل رحيلها بفترة من الزمن، وفي هذا اللقاء أيضا نجد بعض الإشارات إلى أستاذها الأول “أبو العلا محمد”.
ويتبين مما قالته “أم كلثوم” عنه أن “الشيخ أبو العلا محمد” هو من كبار الملحنين ومن كبار المؤدين لفنون الغناء، وذلك لا يعود في نظرها إلى موهبته وجمال صوته وحدهما بل يعود كذلك إلى علمه وتمرسه بمقامات الغناء، وامتلاكه لألفاظ اللغة في أوضح صورها وأصفاها. وأشادت “أم كلثوم” بمقدرته على الارتجال في التلحين فذكرت أنه يستظهر القصيدة في غضون دقائق ثم يشرع في تلحينها على الفور، فيقف أمام الميكرفون الموصول إلى آلة التسجيل ثم يبدأ بالغناء الذي تطبعه آلة التسجيل على الأسطوانة.
وقد أوضحت “أم كلثوم” إلى جانب ذلك أن كل ما غنته “للشيخ أبو العلا” من القصائد كان قد غناه هو من قبل وسجله على الاسطوانات، ولكنها لم تكن هي لتكتفي بما تستمع إليه من الأسطوانة، بل كانت تفضل كثيرا أن يؤدي لها اللحن بنفسه، بصوته الطبيعي، فتظل تستزيده من ذلك كثيرا قبل أن تبدأ هي في الغناء والتسجيل.
كما ذكرت “أم كلثوم” أن صوت أبو العلا هو من أعذب ما تكون عليه الأصوات وأن من يستمع إلى غنائه كما هو مسجل على الاسطوانات فإنه قد لا يجد أية رغبة في الاستماع إلى أي غناء آخر.
وفاته..
أصيب “الشيخ أبو العلا محمد” بالشلل فتعذر عليه الغناء والتلحين، وفي يناير عام 1927 فاضت روحه إلى بارئها، وشاركت (أم كلثوم) في جنازته وودعته إلى مثواه الأخير. وفى احتفالية إحياء ذكراه أنشدت بصوت يتمزق ألماً وهي تذرف الدموع مجموعة من ألحان أستاذها “الشيخ أبو العلا محمد”، وفي هذه الاحتفالية قال شاعر الشباب “أحمد رامى” مرثية:
كان شعري في فيك للغناء
فغدا اليوم في فمي للرثاء
من معيني على افتقادك
يا من كنت عوني على الأسى والبكاء
عز دمعي عليك يوم نعى
الناعي أعز الأحباء والأصفياء.