في سنة 2010 أصدرت كتيباً عن الغجر، وتحديداً الغجر الذين يسكنون العراق، وحاولت أن اشرح فيه مأساتهم ومعاناتهم المستديمة، وسلطت فيه الضوء على مشاكلهم بصورة عامة. وظل موضوع الغجر يؤجج مشاعري الانسانية، ويرهق ذاكرتي، بحيث بقيت اتعايش مع مأساتهم، وأتحين الفرصة تلو الاخرى لتسجيل صور أخرى في خزينة ذاكرتي لهم، فرأيت المأساة أكبر مما تسع الذاكرة، والمحن أعظم مما تروم الصمود امامها الانسانية، ويصعب على اليراع أن يسجل ما يمر به مجتمع الغجر، هذا المجتمع المسالم، من محن لا يدرك كنهها الا الغجر انفسهم، فهي مأساة بالمعنى الحقيقي لهذه المفردة.
وخرجت بحصيلة تفوق التصور، ووجدت ملحمة مروعة من مآس مجتمع كأنه يعيش خارج التاريخ، ويقبع في كهوف مظلمة، لها أول وليس لها آخر، مجتمع أموات في اجساد احياء، فهم مشروع لإبادة جماعية، حكمت عليها بعض العقول المتحجرة ونبذتها في العراء، أن عاشت وأن ماتت فسيان عند تلك العقول الهرمة، التي تنظر الى بعض المجتمعات ومنها مجتمع الغجر، على انهم انصاف بشر، واحيانا تعاملهم اقل مما تعامل الحيوانات، إذ جعلوا بينهم وبين الغجر حاجزا محاطا بالصلب والحديد، وتحرسه جنود جفاة اغلاظ الاكباد لا تعرف الرأفة والرحمة، علاوة على انهم اختلقوا لهم قصصا مروعة، منها انهم يسرقون الناس ويخطفون الاطفال ويرتكبون جرائم قتل ومختلفة، وفوق هذا وذاك ادعوا أنهم يعملون على فساد وافساد المجتمعات بشذوذهم، كما عبروا عنهم، وتلويث بيئة مجتمعية بعاداتهم تلك، حتى عزلوهم تماما عن مجتمع المدينة، بحيث لا يروهم ولا يختلطون بهم ولا حتى يكلمونهم بكلمة واحدة، وقالوا أن ذلك لا يليق بالإنسان السوي المتصف بالأخلاق الحميدة. وهكذا ظل مجتمع الغجر يرزح تحت ظل هذا الانعزال، منطويا على نفسه مكبلا بقود ذلك المجتمع واوامره، فلم يستطع أن يحرك ساكنا، بحيث حرم من ابسط وسائل العيش، تصب على رؤوسهم صنوف الشدائد، فأطفالهم عراة، حفاة، لم يدخلوا في المدارس، ولم يعرفوا مصطلح تعليم، اميون لا يعرفون القراءة والكتابة، وشيوخهم يرزحون تحت وطأة المرض، عاطلون عن العمل، واما نساؤهم فيشحذن في الطرقات والشوارع، فالدولة لا توظفهم، والمجتمع المدني لا يشغلهم، والحكومة لا تحل مشاكلهم، ومنظمات المجتمع المدني لم تزرهم، الدول الاخرى التي تنادي بحقوق الانسان لا تلتفت اليهم، الامم المتحدة لا تصلها اخبارهم، وأن وصلتها اخبارهم، فهم لا يعملون لهم شيئا، فقد زارتهم بعض الفضائيات العراقية وبثت لهم بعض التقارير المصورة، وشاهد هذه التقارير ملايين الناس، من مختلف العواصم العربية وربما الاجنبية كذلك.
لماذا العالم مطبق الصمت حيال هذا المجتمع، الذي يموت رويدا رويدا؟، من خلال الفقر والعوز والحرمان، وهو تتكالب عليه مختلف الامراض، ومنها الخطرة، لأنهم مجتمع معزول. اليس هم أناس؟، بشراً مثلنا، يريدون أن يعيشوا الحياة ويتمتعون بالدنيا كما نتمتع نحن، يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويناموا كما نحن نفعل هذا، يريدون أن يتمتعوا بمتعة الكهرباء وأن يشربوا ماءاً معلب بالقناني كما تشربه بقية البشر.
نفوس الغجر لعله اليوم قليل، لماذا الدولة لا تزجهم في المدن، على أن تفرقهم في جميع المحافظات، حتى يندمجوا هناك فيعملون وينتجون، وعلى الاقل يحصلون على جزء ولو يسير من حقوقهم، وبذلك نطوي صفحة من مأساة مجتمع مسالم كاد أن ينقرض بسبب الاهمال المقصود، ومن ظلم المجتمع الذي عزلهم عنه.