19 ديسمبر، 2024 1:18 ص

بيضة القبّان وفسيولوجيا الكتلة الأكبر

بيضة القبّان وفسيولوجيا الكتلة الأكبر

في المنظور التوازني (بيضة القبّان) هي (مؤشر) يتوسط كفتي الميزان للدلالة على الكيفية الثقليَّة التي تكون عليها المادة في الكفة الأولى وأوزانها القياسية في الكفة المقابلة.
أسمتها الشعراء مجازاً (واسطة العِقْد) كما وصَّفتها بكائية ابن الرومي الشاعر في ولده الذي تخطفه الموت:
توخى حِمامُ الموت أوسط صبيتي فلله كيف اختار واسطة العِقْدِ
ويذهب المجاز إلى مساحة أوسع في استخدام هذه الثنائية (بيضة القبّان) ليسجلها في مقولات القوم دلالةً على (الوسطية) أو ما يُطلق علية في المنظور المنطقي وفلسفة السياسة (اعتدالية المنهج).
وفي محادثات رجال المباحث الفقهية يسجلونها دلالياً في ميدان (توخِّي الحكمة) لرأب التصدعات والصراعات بين العقول المتباينة التوجهات. وقد يذهب المجاز بها إلى أبعد من خطوط المواجهة الدلالية ليطلقها على ما يسمونه في المحدث من أيامنا المعاصرة بـ(العرّاب).
أما أهل الرياضيات وصنّاع المعادلات فـ(بيضة القبّان) قد تعني من زاوية (جينات المعادلات الهندسية) (معادلة صفرية) إذا كانت كل من كفيتي الميزان في منطق (التوازنية) تساوي (صفراً).
أما في ملفات تجار السياسة المعاصرة فيبدو أن المقصود من (بيضة القبّان) هو (لعبة التوازانات) أو (التكتيك التوازني) أو(منظورات الحلول الوسطية) لأية قضية تدخل في دهاليز مظلمة مقفلة أبوابها في الأجندات الداخلية أو الخارجية قبل أن ينقطع الخيط وتنفرط الحَبّات. وقد يجد البعض نوعاً من القناعة حين يفهمها على أنها (معركة الحلول الوسطية) أو (لعبة منطقية الحدث) وقد يقفز إلى بنية دلالية أعلى فيسجلها بعض المريدين على أنها ( إرادة الأقوى في الميدان) حسب توجهات المصالح وأرجحية الأجندات.
وقد تظهر توجهات هذه المدلولات في أبعد مستوياتها في مناطق التوتر أو المواجهات الساخنة الإقليمية والدولية على هيئات وأشكال متباينة القيمة والمتّجه لتحقيق ذواتها في مثل (الحصار الاقتصادي) أو المقاطعة في ألوان قزحية متباينة بين خطوط الطول والعرض وقد تستخدم من أجل ذلك كله كافة الوسائل والبيانات المتاحة في الساحة السياسية حسب تجذّرها وطاقتها الاستيعابية في (المعادلة السياسية) لحفظ (ماء وجه البلد بعيداً عن التقاطعات) ومقصدها المحافظة على أوراق المصالح وبياناتها في السلَّم التصاعدي.
كان من حظ العراق الحديث أن يدخل (عالم الديمقراطية) من أوسع بوّاباته وهو يؤسس لـ(دولة مؤسساتية مدنية) لأنه صاحب الحضارة العملاقة والإرث الثقافي العريق وموطن الرسل والأنبياء ومشرِّع أول قانون للبشرية ومبدع الأبجدية التي الهمت العالم فنون القول والكتابة وصاحب أكبر احتياطي نفطي في العالم وفيه مقامات الأولياء والصالحين وآل البيت الأطهار التي يحج إلى أضرحتهم وقبابهم الأتباع والمريدون من كافة أنحاء المعمورة وبهذا فهم يشكلون مزارات مقدسة لأكبر سياحة دينية واقتصادية في العالم ذات مردود مالي كبير يقترب من هيبة النفط وتجذره الاقتصادي إن التفتت الحكومة بهيئاتها وعتباتها إلى توسعة محيطها لصناعة مدن تتوافر فيها كل ما يطمح السائح الديني من أن يجده في أماكنه الروحية. هذه رؤية يمتد بها الزمن إلى ما يقرب من 3 أو 4 عقود من الزمن المر الفائت وفيها من المرويات ما يؤكد عدم براءة أغلبية الذمم حكومات وتكتلات وعتبات من جدِّية المتابعة والابتعاد عن المصالح والمنافع الشخصية والتنفيذ لأن في توسعتها تقاطع مع مصالح المنتفعين.
دخل العراق (امبراطورية الديمقراطية) ولم يدر في خلده أن هذا الديمقراطية العملاقة قد تناولها (جرعة واحدة) فقضت أو كادت تقضي على المتبقي من هواء رئتيه الذي تنفس الظلم والقهر وجبروت السلطة والاضطهاد المتناهي وسنوات الحصار بكافة ألوانه وأشكاله وعاش مرارة الزمن وموتاً يباع جهاراً بالمجان وهو يتلو في كل توجّعاته اليومية:
(الموَتُ في حياتِنا مُقَدَّرٌ مَكْنونْ
وَالحزْنُ في نُفوسِنا غَريبٌ غامِضٌ حَنونْ
وَالنَّوْحُ في أَشْعارِنا مُورَّثٌ مُنْتَفِضٌ مَجنونْ
وَالصّاحِبُ الذي تَوَسَّدَتْ أَعْمارَنا عُيونَهُ السُّنونْ)!

استبشر القوم بهذا الوافد الجديد (الديمقراطية) وبمعيته أوراق (المؤسساتية) لإدارة الأرض والميراث. وما أن هبطتا في العراق الشهم الغيور منذ 2003م حتى تحولت معادلة أيام الزمن المر إلى أيام من ( الصراع) وسط فنون قتالية لم يألفها القوم بين (الإخوة الأعداء) مناصباً ومواريثاً.
ومنذ ذلك الوقت ونحن في مواجهة ديمقراطية مؤسساتية مشلولة وحمى روماتزمية مزمنة وزهايمر السلطة وصولجان الحكم.
منذ زمن الانتخابات الأولى التي كان الموت فيها يباع جهاراً بالمجّان والشعب العراقي المقهور قد وفّى الكيل وانتخب ممثليه إيماناً منه بشفافية العملية الديمقراطية بعيداً عن المحاصصاتية والكتلوية والمناطقية والمذهبية والإثنية وأنه سيصار إلى الكتلة الأكبر التي منها ينتخب رئيس الحكومة الذي بدوره يؤسس لكابينته الوزارية من أهل الكفاءة التكنوقراطيين المهنيين مثلما هو متبع في الدول الديمقراطية المتقدمة.
وافترّت الروليت في الدورات الحكومية الستة منذ 2004م وحتى 2018م
والشعب في حركة بندولية بين صناديق الانتخابات وصرعات تزويرها ومحارقها وبيعها وشرائها في مزادات الدوائر الانتخابية في الداخل والخارج وقرابين صنمية وآمال متكسّرة الأجنحة تفترش الأرض وتلتحف السماء والشعب العراقي المقهور يلوذ بالصبر الجميل حتى طفح به الكيل فكانت (ثورة المظاهرات) التي اشتعلت فتيلها في الجنوب العراقي من البصرة المدينة العملاقة التي تطفو على 80% من ثروة العراق النفطية.

ودارت رحاها وامتدت إلى أكثر المحافظات سخونة حين بلغت الروح الحلقوم وتحيَّر (صولجان الحكم) وكادت تتداعي الخيوط من كثرت الشد والإرخاء. وبحث القوم عن (بيضة القبان) لكي تتلاقف سحر الموقف من ذا يكون صاحبها في ميزان الكتلة الأكبر و(معادلة المحاصصة الهندسية) والعرش في غيبوبة أوْراده مُسبّحاً في ملكوت محاصصاته لا حول له في إعادة التوازن إلى مستوياته المنطقية وفق سيناريوهات العملية السياسية الثلاثة في العراق الحديث ( الشراكة والتوافقية والتوازن).
إن السبيكة الحزبية العراقية على وفق هذه الثلاثية بأحزابها الشيعية والسنية والكردية إلى جانب الكتل الأخرى والتي أشَّرت في مقالاتي السابقة أن أعدادها أصبحت بعدد أيام (السنة الكبيسة) تحاول أن تؤسس (فناراً) للكتلة الأكبر ومن ورائهم الدستور ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية في (التفسيرات الفقهية السياسية) ليكون هو (بيضة القبان) لكنها أغفلت بياناته الصريحة في (الدستور العراقي المؤسساتي) محدثة ثغرات جوهرية مفصلية في ديباجته الديمقراطية والتي لو كانت مفصَّلة لأغنتهم عن (رحلة الألف ميل) بحثاً عن الكتلة الأكبر وبيضة القبّان.
قال الدستور في (أولاً) من المادة 76 (يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء).
وقالت المحكمة الاتحادية الكتلة الأكبر هي التجمع الذي يضم أكبر عدد من النواب في الجلسة لبرلمانية الأولى وليست الكتلة التي فازت بعدد أصوات أكثر في الانتخابات.
وهذا الخلاف على قضية مفصلية كهذه (ماهية الكتلة الأكبر) لابد أن يجرى تعديلها في نص الدستور وإلا فإنها ستبقى خلافاً جوهرياً في الدورات القادمة يؤدي إلى حدوث مفارقات وتجاوزات على (الأرض والإنسان العراقي المقهور) حدثت في انتخابات 2010م وطفت على السطح مرة ثانية في انتخابات2018م.
كان ذلك بصدد الخلاف الذي حصل بين الكتلة الفائزة في انتخابات 2010م وهي ائتلاف العراقية بـ( 91 مقعدا) مقابل( 89 مقعداً) لقائمة دولة القانون. وعلى ضوء هذا التفسير والتوجيه تشكَّل التحالف الوطني من 140 نائباً بعد جمعه عدة تحالفات ليشكل الحكومة.
وجاءت انتخابات 2018م بما تحمله من مشاكل وانزياحات على ظاهر الأرض وفوق كواهل الإنسان العراقي المقهور فعادت الصراعات مرة أخرى إلى المربع الأول حول (ماهية الكتلة الأكبر) أجرياً وراء الدستور أم وراء منظورات المحكمة الاتحادية.
اجتمع القوم في فندق بابل في عدة لقاءات مكثفة وصرحوا بأنهم توصلوا لبنية الكتلة الأكبر مكونة من 177 نائباً وسموه (تحالف النواة) وعرفوه بأنه كتلة كبرى عابرة للطوائف ورافضة لمبدأ المحاصصاتية والمفسدين. وفي مقابل ذلك الإعلان وقف تحالف آخر باتصالات مكثفة ورحلات مكوكية بين الكتل والزعامات يؤشر أنه سيشكل الكتلة الأكبر.
وتفتت أحلام الفريقين المتناظرين حول تشكيل الكتلة الأكبر مرة أخرى ولجأ القوم في (العراق الحديث) إلى مبدأ (التسوية) لإنقاذ العملية السياسية من الانهيار.
وبقيت (بيضة القبان) تغرد (خارج السرب السياسي) فرئيس الحكومة لا ينتمي لأية كتلة وهو سياسي وأكاديمي مستقل وهناك على السطوح تفوح رائحة المعارضة أو كما وصفتها في مقال سابق (حكومة الظل). ويبدو أن الكتل المؤتلفة بدأت تخطط للخروج من مسارات كتلها التي انضوت تحت خيمتها من أجل (بناء الكتلة الأكبر) لكي يكونوا هم (بيضة القبان) و (العين الراصدة) وأنها ستكون معارضة لسياسة الحكومة هذه المرة. تبدو من سطوحها حالة صحية إذا كانت ديمقراطية ومؤسساتية وتكنوقراطية وإلا فإنها بصدد البحث عن (المجد الضائع) و(صولجان الحكم) و(هيبة الملك المفقودة) بطرق من خارج الأسوار المؤسساتية وهذا فوق طاقة الشعب العراق المقهور.
من حيث الحسابات السياسية تبدو العملية منطقية ولكن كيف يؤسسون لحكومة ظل وهم أشتات تبحث عن مستحقاتها الانتخابية وعليهم أن يأتلفوا أولاً من أجل الحالة الصحية لـ (حكومة المعارضة أو الظل) تتلوها أمور عرضت لها بالتفصيل في مقال سابق.
كما اضاع القوم فرصة تشكيل الكتلة الأكبر بين نص الدستور العائم ومنظورات المحكمة الاتحادية التي لو تحققت لأمكن وصفها بأنها (بيضة القبان) مجازاً بعيداً. لكني في نهاية هذا المطاف أرى بأن (بيضة القبان العراقي) تتأرجح بين خطوط الطول وخطوط العرض لأجندات داخلية وخارجية وصراعات إقليمية على جوهرية حركة البندول العالمي في منظوراته الاقتصادية والسياسية.
لهذا فإن (محيط بيضة القبان) قد يتشكل من ألوان قزحية بمتواليتين (حسابية وهندسية) حسب أولوية سُلّميَّة المصالح خارج أسوار الديمقراطية والمؤسساتية وأن فسيولوجية الكتلة الأكبر تبقى تراوح بين الكفة الأولى (كفة المادة) والكفة الثانية (كفة الأوزان).
وحتى يقف الشعب العراقي المقهور على حقيقة المسار لنقرأ معه النص الإلهي المقدّس في القارعة ونحن نطالع السلوكية الكتلوية في العراق العظيم:
(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ) .
وبعدُ من سيكون بيضة القبان في (العراق المعاصر) بعد صراعات الكتل والأحزاب والطوائف بعيداً عن الكتلة الأكبر؟
يبدو حسب قراءة أوراق ديمقراطيات العالم أن (الشعب) وحده هو بيضة قبان الدول الديمقراطية المؤسساتية لأنه صاحب (الأرض والإرث) و(التاريخ والحضارة) و(المالك الشرعي) لموجبات القوة ودستورية القرار وأحقية العرش بعيداً عن الفروض والمحاصصات والصولجانية التي يتهافت عليها المريدون فبصوته يستطيع هذا (الشعب) أن يقلب الموازين ويصنع ملوك آخرين.
في العراق العظيم بعد سنوات الكد والمجاهدة لما يقرب من عقدين من الزمن الفائت سجل مسرح الأحداث السياسية أن جذور المحاصصاتية والكتلويات بكل أطيافها اللونية لا يمكن أن تؤسس لديمقراطية مؤسساتية طالما أنها في مارثونات مستمرة وراء كفّة المصالح المادية وأن (بيضة القبان) ستبقى جوهرية في الأرض والإنسان العراقي المقهور وليس في الكتلة الأكبر وفسلجتها مهما بلغت مستوياتها في حركات المد والجزر السياسي.