الأزمة الراهنة بين الولايات المتحدة وايران ذات ابعاد جيوسياسية أوسع نطاقاً من مجرد مشروع نووي !!
اليورانيوم المخصّب ليس سلاحاً بحد ذاته ؛ هو المادة القابلة للتفجير في القنبلة الذرية ، وقضية صناعة القنبلة باعتبارها جهاز تفجير اليورانيوم هي قضية اكثر تعقيداً من تخصيب اليورانيوم ، وتتطلب معرفة تقنية في عديد من الفروع العلمية النظرية والتطبيقية ، بدءاً من صناعة السبائك المعدنية اللازمة الى صناعات كيمياوية والكترونية اخرى عالية التقنية كالمتفجرات التقليدية والمسرعات النيوترونية .. الى فروع اخرى لاتقل تعقيداً ، ناهيك عن وسائل نقل القنبلة من قاعدة انطلاقها الى نقطة الهدف !!
فلماذا تناور ايران مستخدمة قضية تخصيب اليورانيوم دون غيرها ، ولماذا تثير هذه الورقة ردود الفعل الغربية التي نراها اليوم في اطار الأزمة القائمة بين الولايات المتحدة وايران ؟!
اذا أردنا ان نفهم جوهر هذا الموضوع فانه يتعين علينا ببساطة ان نسلم بان الرؤية الامريكية ( والغربية عموماً ) للمشروع النووي في المنطقة ، سواء كان ايرانياً ام عربياً ، تتم بعيون إسرائيلية .
تستند ستراتيجية الامن النووي الاسرائيلية الى الاطروحة الشهيرة التي قدمها الپروفيسور الاسرائيلي ارييل ليڤيت في مقالته الشهيرة ( Never Say Never Again ) ؛ تقوم أطروحة ليڤيت على التقليل من شأن تصنيف البرامج النووية الى عسكرية واُخرى مدنية . كلاهما – وفقاً له – وجهان لقضية واحدة ، والمشروع النووي السلمي هو مشروع عسكري منخفض الدرجة ، وبالامكان رفع درجته ووضعه في مسار عسكري في وقت قياسي ، والقضية الجوهرية هنا تكمن في النوايا والسياسات .
يشكل اليورانيوم المخصب جوهر القنبلة الذرية من الناحية الفنية ، وهو المادة الوحيدة من مكوناتها التي يتعسر الحصول عليها بالطرق التجارية المألوفة ، بينما يمكن الحصول على بقية المكونات او تقنيات إنتاجها ، المعرفة او المعدات ، من اطراف ثانية . من هنا تحرص اسرائيل على ابقاء المنطقة خالية من آية دورة كاملة للوقود النووي التي تجعل من قضية انتاج اليورانيوم المخصب من خاماته متاحة للجميع ؛ لكن اتفاقية حظر الانتشار النووي تذهب بالضد تماماً من هذه الفلسفة ، وتلزم الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتشجع الدول الاطراف ، على تقديم العون والمعرفة لكي تقوم كل دولة وقعت الاتفاقة بانشاء برنامجها النووي السلمي بدورة وقود كاملة وفق ضوابط حددتها الاتفاقية وعززها مايعرف بالپروتوكول الاضافي ؛ تتضمن هذه الضوابط اليات إشراف ومراقبة وتفتيش صارمة .
السؤال هو اي التوجهين هو الاقرب للواقع : الفلسفة التي تبناها ليڤيت ام اتفاقية حظر الانتشار النووي ؟!
في عام ١٩٨٠ اتيحت لي فرصة المشاركة في مؤتمر مراجعة اتفاقية حظر الانتشار النووي كعضو في الوفد العراقي الذي ترأسه ، ثم ترأس المؤتمر المرحوم عصمت كتاني . تعلمت من مشاركتي في هذا المؤتمر ان مايفصل مشروعاً نووياً سلمياً عن اخر عسكري هو بالضبط ماقاله الپروفيسور ليڤيت ، وان تحول السلمي الى عسكري في الميدان النووي هي قضية قرار سياسي وليست قضية فنية ، لان المعرفة الجوهرية في المجالين واحدة .
على المستوى السياسي والستراتيجي فان المعلومات التي تؤكدها مراكز أبحاث غربية متخصصة تشير الى ان ايران قد حسمت قضية السعي نحو امتلاك سلاح نووي بأيقافه منذ عام ٢٠٠٣ حين قرر خامنئي ايقاف العمل نهائياً ببرنامج تصنيع جسم القنبلة الذرية وتفكيك مكونات العمل به في مشروع اطلق عليه اسم ( آماد ) في طهران ، اضافة الى الاعلان عن جميع مكونات البرنامج النووي العاملة التي كان البعض منها سرياً ، وكان موقع التجارب الخاص بمكونات جسم القنبلة يقع في داخل معسكر تابع للجيش بالقرب من طهران يسمى ( پارتشين ) . لقد تم اتخاذ القرار لاعتبارات ستراتيجية حيث توفرت القناعة لدى القيادة الايرانية انذاك ان الولايات المتحدة واسرائيل لن يترددا في توجيه ضربة مدمرة اذا ما استمرت ايران في المشروع ، كم ان القوات الامريكية اصبحت تجاور الحدود الايرانية منذ نيسان في ذلك العام ؛ لقد قدم غزو العراق [ وماسبقه من اتفاقات إيرانية – إسرائيلية – امريكية حول ادارة الوضع في مرحلة مابعد الاحتلال ] فرصة ذهبية لتمدد النفوذ الايراني في المنطقة تزيد قيمة عما يمكن ان تضيفه قنبلة ذرية ربما تشكل عبئاً اكثر مما تضيفه من قوة ، لكن هذا الإجراء الايراني بوقف أبحاث جسم القنبلة ثم الصفقة النووية لعام ٢٠١٥ والتقدير الستراتيجي الذي عرضناه للتو لم تكن كافية لطمأنة القلق الاسرائيلي ، والامر الوحيد الذي يمكنه تحقيق ذلك هو اقتلاع برنامج التخصيب من المشروع النووي الايراني من جذوره .
الى جانب ذلك تشكل قضية الملف الصاروخي احدى العقد الاساسية في الأزمة الراهنة ، واذا علمنا انه لايبدو في الأفق مايشير الى ان الدول الغربية والولايات المتحدة تشعر بتهديد مباشر من هذا الامر ، فنعود الى ذات التشخيص الذي ذكرناه في مطلع المقالة : يتم النظر الى هذا الملف ايضاً من خلال عيون إسرائيلية .
في أعقاب العدوان الثلاثيني على العراق عام ١٩٩١ نشرت مجلة فورين افيرز الامريكية مقالة كتبها المعلق العسكري والستراتيجي زئيف شيف وخلاصتها ان ٣٩ صاروخاً عراقياً تلقتها اسرائيل خلال العدوان قلبت نظرية الامن الاسرائيلية رأساً على عقب ، وانها فتحت صفحة جديدة في الصراع العسكري بين اسرائيل وخصومها في الاقليم ؛ لقد انهت تلك الصواريخ شعور الامن الذي ساد صفوف الجمهور الاسرائيلي بعد الهزائم المتكررة التي تلقتها الجيوش العربية على يد جيشهم ، وقد اصبحت الصواريخ هاجساً يومياً ينتاب الاسرائيليين . لقد ساد نوع من التفاهم غير المعلن بين ايران واسرائيل رغم الخطاب العدائي المتبادل ، ولكن الحكمة الإسرائيلية التقليدية تقول انه لايمكن لاسرائيل ان تشعر بالاطمئنان لضمانات الانظمة الاقليمية ، وهي أنظمة غير مستقرة ؛ فمن يدري بأية ايدٍ ستؤول هذه الصواريخ في المستقبل ؟! ان الاسرائيليين يفكرون ويحسبون حساب القدرات والامكانات لدى الاخرين ، ويعتبرونها خطراً محتملاً يهدد كيانهم وشعورهم بالامن المطلق ، ومن هنا يثير هذا الموضوع قلقهم وقلق الغربيين والامريكان ويشكل بنداً اساسياً في الأزمة القائمة ، خصوصاً اذا ماعرفنا ان صواريخ من نوع ( شهاب ٣ ) يمكنها ان تحمل مايسمى بعربات العودة ( Reentry Vehicle ) المصممة لنقل اعتدة نووية وكيمياوية وبايولوجية !! والخلاصة ان اصحاب القرار ومخططوا السياسات في اسرائيل لاينظرون الى هوية السلاح الحالية بل الى قدراته ووجودهم في مرماه .
تشكل السياسات الاقليمية لايران هي الاخرى بنداً اخر في الأزمة تشمل اطراف اخرى الى جانب اسرائيل ؛ لقد قدمت ايران من خلال سياساتها القائمة على التوسع في الجوار الاقليمي تحت ستار المذهب خدمة كبرى للمشاريع الغربية والأمريكية والايرائيلية على حد سواء . ان عالماً اسلامياً منقسماً على نفسه بفعل العامل الطائفي هو حلم راود الغربيون والإسرائيليون ، وقد انحازت لايران في سياساتها الاقليمية بشكل مستتر او مفضوح ، واعتبر الاسرائيليون كراهية الايرانيين للعرب رصيداً في ستراتيجياتهم حتى وهم في ذروة الخلاف مع ايران . ان شعار ” عدو عدوي صديقي ” يتردد في الادبيات الغربية والاسرائيلية وقد شكل الاساس الذي تم السماح بموجبه لايران بالتمدد في الاقليم ، لكن الامر كان يتم وفق ضوابط وتفاهمات مسبقة ، ويكفي ان نشير الى اللقاءات التي تمت بين عناصر صهيونية من پيروقراطيا البنتاغون والاسرائيليين ومسؤولين كبار من المخابرات الايرانية في روما وپاريس لترتيب الأدوار في مرحلة مابعد احتلال العراق ، اضافة الى لقاءات خليلزاد مع جواد ظريف ودبلوماسيين ايرانيين اخرين لذات الغرض ، وهو موضوع تحدث عنه خليلزاد بكل صراحة في مذكراته المنشورة تحت عنوان ( المبعوث The Envoy ) فضلاً عما ذكره مايكل ليدن ودوغلاس فيث وهما من كبار مهندسي احتلال العراق في داخل الپنتاغون بهذا الخصوص . لكن حجم الفوضى التي نشرتها ايران جعل الامور تخرج عن السيطرة حتى من أيدي ايران ذاتها ، واصبحت الكثير من مليشياتها عبئاً علىئاً على استقرار المنطقة المنهكة اصلاً . هذه الفوضى اصبحت ، اضافة لذلك ، مثار قلق لانظمة الخليج بشكل خاص وهي الوحيدة التي شهدت على مدى عقود قدراً كبيراً من الاستقرار الاجتماعي والسياسي بفضل الوفرة المالية والرفاه العام الذي يسودها ، لكن ذلك لم يعد كافياً لمواجهة فوضى مسلحة عارمة في منطقة تغيب فيها السياسة لصالح العنف بشكل متزايد ، وهو عنف تغذيه ايران من خلال خلايا منظمة وصلت نشاطاتها حداً مخيفاً ، ولعل قضيتي تفجير الخُبٓر في السعودية وخلية العبدلي في الكويت وقضايا اخرى قد كشفت حجم الفوضى التي تثيرها ايران ؛ مشكلة ايران هنا تكمن في ان هذه الانظمة قادرة على توظيف سياسات دول كبرى لها مصالح في المنطقة من اجل توفير الامن والحماية لها ، وكان الاولى بايران ان تعمل على تهدئة المخاوف لكنها لاتفعل اكثر من اللجوء الى الإنكار والتنصل من المسؤولية رغم ظهور أياديها بشكل لاسبيل للتغطية عليه ، وكأنها لم تتعلم من درس العراق في قضية الكويت .
لاينبغي هنا ان نغفل عامل قلة كفاءة الانظمة العربية التي منحت ايران فرصة الاستيلاء على ملف ام القضايا في المنطقة ، وفق تعبير جيمس بيكر ، وهي القضية الفلسطينية . لقد تلقفت ايران هذا الموضوع ووظفته لخدمة ستراتيجيتها التوسعية تحت ستار زعامة محور المقاومة ؛ نحن نعلم ان خميني وفي اول لقاء له بسفراء ايران في الخارج بعد توليه موقع القيادة وجه بأن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين بالدرجة الاولى ، لكن ” الخطاب الايراني ” تعامل معها كما لو كان هو المعني الاول بها ، وروّج جملة من الاكاذيب منها انه أغلق السفارة الاسرائيلية في طهران وهي سفارة لم يسبق لها ان وجدت اصلاً ، ولم يكن المبنى المزعوم سوى مقر لبعثة تعاون فني رفض الشاه منحه صفة سفارة ومنعه من الاتصال بوزارة الخارجية ، في الوقت الذي توافد فيه الخبراء والمستشارون الاسرائيليون على ايران لإدامة سلاح الجو وبقية فروع الجيش خلال الحرب مع العراق .
يبدو ان قيادة نخبة الحكم الحالية في ايران قد اساءت ، وماتزال ، قراءة النوايا الامريكية . يذكرني هذا الموقف بالحديث الذي جرى بين السفير الايراني في بغداد والخميني بعد تولي الأخير سلطة القيادة في البلاد . وفقاً لما يرويه ابراهيم يزدي اول وزير خارجية للجمهورية فقد التقى الاثنان وقال السفير لخميني انه ينبغي ايقاف الاستفزازات للعراق لان صدام سوف يرد ، وكان تقدير خميني ان العكس هو الصحيح وأمره بالعودة الى وظيفته في بغداد ، وقد ثبت ان تقدير السفير هو الأصح ؛ هذا هو المشهد اليوم اذ يبدو ان القيادة الايرانية وأدوات سطوتها وخاصة الحرس الثوري واقعون تحت تأثير اغراء الأيديولوجيا بينما قدرت الدبلوماسية الموقف بشكل اخر ، ووفقاً لذلك يمكن فهم استقالة ظريف الاخيرة التي لم تقبل ؛ لست من هواة قراءة الغيب ولكن يبدو لي ان ظريف ونخبة من القوميين الذين تحالفوا مع سلطة الحكم في ايران سوف لن يجدوا مكاناً بعقلانيتهم اذا ازدادت الأزمة مع الولايات المتحدة توتراً ، وقد نشهد تفرداً صريحاً للقيادات الدينية والأيديولوجية بالسلطة وقراراتها ، ولعل الأهم هو ازدياد إهمال ” حكمة ” الپيروقراطيا المحترفة التي درس اغلب أفرادها في دول الغرب والولايات المتحدة وفهموا كيف تصنع قراراتها وكيف يعمل النظام السياسي هناك ، وقد كانوا وراء الكثير من ” عقلانية وپراغماتية ” السياسة الخارجية الايرانية حتى اندلاع الأزمة الاخيرة ،،