نبّهني طالب عراقي في جامعة آيندهوفن الهندسية في هولندا، الى أنّ الدروس التي يلقيها أستاذه في مادة الديناميكا، على الطلاب، تشغل نحو العشرين بالمائة من وقته، فيما الجزء الأكبر منه، يقضيه في البحوث والاستشارات العلمية التي يقدّمها للمعامل والمصانع، والورش، فضلاً عن إيجاد الحلول للمشاكل، وتطوير طرق الأداء، والتصنيع.
مثل هذا الأستاذ، حيث أغلب زملاءه على نفس النمط، لم يعد يجشّم الجامعة كلفةً، بل على العكس من ذلك، إذ انّ ثمار جهود هؤلاء الأساتذة الجامعيين، ينتج عنها أموالا طائلة ترفد ميزانية الجامعة، ما يفسّر كيف انّ صروحا علمية، باتت مصدرا للمال والاستثمار والمشاركة في تنمية المدن، والاقتصاد، على عكس ما يحدث في جامعات العالم الثالث، ومنها العراق، حيث يستنزف تفريخ الجامعات، كماً، لا نوعاً، الكثير من ميزانية أحادية تعتمد على النفط، فقط.
لا يقتصر الأمر على الجامعات الهندسية، ذلك أنّ الاستشارات التي تقدّمها كليات ومعاهد الفن، الى مشاريع تجميل المدن، وبيع النصب واللوحات الفنية، وإقامة الفعاليات الفنية، والمهرجانات، تدرّ على هذه الجامعات، رؤوس أموال طائلة، أيضا، محوّلة هذه المراكز المعرفية الى مصادر تمويل تسهم في إنعاش الاقتصاد، وتؤسّس لنمط إنتاج اقتصاد المعرفة الذي طغى في البلدان المتقدمة، على نمط الإنتاج التقليدي.
في العراق، يحدث العكس تماما، فلا زالت الجامعات التي فاقت في أعدادها، مثيلاتها في الدول المقارِبة للعراق في الظروف الاجتماعية، وتعداد النفوس، تشكّل عبئاً ثقيلاً على الميزانية، فضلاً عن تخريجها الآلاف من الشباب سنويا، والذين يتراكمون على مصطبات العاطلين، بغض النظر عن احتياجات السوق.
تبرز الحاجة، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الى دعم الجودة، لا الكمّ، في الجامعات، وتحويلها الى مراكز معرفة حقيقية، وصاحبة أدوار في تغيير المجتمع، لا مصادر لشهادات أكاديمية لا فرصة لها في سوق العمل العراقي والمحلي لاسيما حين يكون الخريج، في مستوى متواضع من القدرات المعرفية، والمهارات، وقدرات الابتكار.
لا يقلّ طلاب العراق، قدرة على التفكير، والإبداع عن شباب العالم المتقدم، لكن غياب تقنيات التعليم المتطورة، وتخلّف المناهج، وعدم مواكبة تقنيات التواصل المعرفي مع العالم، يضعهم في مستوى أداء ادنى، ومن ذلك انّ اغلب خريجي البلاد، لا يجيدون اللغات الأجنبية المهمة في التواصل المعرفي، مثل الإنكليزية، فضلا عن ضعفهم حتى في اللغة الام، العربية.
لا يلمس المراقب، دورا حيويا للجامعات والمعاهد العلمية في العراق، في توظيف المعرفة في التطوير والتنمية، وقد روى لي أستاذ جامعي عراقي انّ كل البحوث التي يقوم بها الطلبة الخريجون، فضلا عن رسائل الماجستير، والدكتوراه
والدراسات العليا، لا تتعدى كونها نصوصا إنشائية، ليس لها أي دور في النهوض بالبلاد، وهي تركن على الرفوف، ومصيرها النهائي، النفايات، والأدراج.
بسبب ذلك كله، فانه ومنذ العام 1492، حيث طلبت ملكة قشتالة من كريستوف كولومبس، الخروج في رحلة استكشافية من أجل الذهب، احتكر العالم المتقدم، العلوم والمعارف، ونجح بشكل مذهل في تحويل النظريات والعلوم الى تطبيقات، وأصبحت الدول الخمس التي لا تشكّل سوى 12 في المائة من العالم، هي مصدر المعرفة المهيمن بكل مجالاتها، الهندسية والطبية، والعلوم الإنسانية، والادب، والثقافات المختلفة، بعد أنْ ساد نمط ديكارت في البحث والتقصي، منذ أواسط القرن السابع عشر، بعباراته المشهورة “أنا أفكر إذن أنا موجود”، وعزّز ذلك الفيلسوف ديكارت في ترسيخ آلية التفكير.
ما يزيد من فداحة الخلل، استثمار القطاع الخاص في التعليم، الذي يحوّل الجامعات الأهلية، الى مشروع تجاري، حتى بات الكثير منها، غريبا حتى في “الشكل”، عن الجامعة بملامحها المعرفية المرموقة، لتتحوّل الى مصنع لا يتوقف من تفريخ الشهادات، بدلا من انتاج المعرفة، واستثمارها في الإنماء.