18 ديسمبر، 2024 11:41 م

أفق القراءة والعلاقات الأحالية للنص – قراءة في مجموعة (هذا غبار … دمي) للشاعر حيدر عبد الخضر

أفق القراءة والعلاقات الأحالية للنص – قراءة في مجموعة (هذا غبار … دمي) للشاعر حيدر عبد الخضر

إن التحفيز للذائقة القرائية يقوم على إيجاد المشتركات بينها وبين النص بكل أبعادها الصورية والدلالية، وبتلك المشتركات تتجدد الصلة بالنص مع كل قراءة، حيث التراكم الزمني للذائقة، والذي يولد نظرة واتجاهات جديدة، بكيفية التعاطي مع رؤية النص.
       حيث إن الشعر سلسلة غير منقطعة من التوالدات التي تنمو وسط بنية مشروطة تدعى (النص)، حيث تتوجه القدرة الإيحائية والاحالية للغة وفق مسارب بنائية مخصوصة، كوحدة نصية منتظمة وفق تصورات معيارية، على اعتبار إن النص كبنية مخصوصة، ينشأ داخل المنظومة الثقافية والاجتماعية، حتى وإن كان يبني نفسه وفق تصورات (المحتمل الدلالي) كما تسميه كرستيفا، مما يجعله منفتحا على تعدد القراءات، ونصا متناميا يستفز تلك المنظومة بمعياريتها التي تحكم ذلك التغيير والتنامي المنضبط وفق توجهات النص وبنيته العلامية.
       فمشتركات نصي القراءة والكتابة، أو ما يسمى بالقارئ الضمني الذي يحدد أفق القراءة، كمتصور ذهني أولي يواجه القارئ، ويحدد الصورة التي سيبني بها موقفه تجاه النص، أي إن تلك المشتركات هي ليست صيغ واقعية مباشرة داخل النص، وإنما هي مجموعة من البناءات والعلاقات الأحالية، التي تنشأ مع القارئ، كذائقة متفردة تحاول – داخل النص – من لظم مجموعة من العلاقات، لتنشأ لها نصا يتواءم ويوافق افتراضية محتملة لأفق القراءة، بعيدا عن ما من الممكن أن تنتجه من علاقات القراءة الحقيقية، أو التعامل مع النص بصورة واقعية وإجرائية تأويلية، وإنما هي اشتراطات وأدوات  خاصة بمتلقي النص.
      فلو قرانا مجموعة (هذا غبار.. دمي)* للشاعر حيدر عبد الخضر، لرأينا العلاقات الاحالية واشتراطات القراءة التي تولدها النصوص، فنص (أمنية) الذي منه المقطع التالي:
كم حلُمنا بالبحر
حتى أصبحت قلوبنا
     مالحة
يرينا مجموعة من العلاقات التي ربما تشكل متناً افتراضيا للمشتركات الدلالية، التي تقوم عليها ذائقة المتلقي، وذلك من خلال الدلالة التي تولدها العلاقة بين (حلم – نحن) ، (قلب – نحن ) بالمقابل مع (حلم”نحن” – بحر”هو”) و (قلب”نحن” – مالح”هي”)، والتي ربما تحمل تضمين (نحن) السابقة، ومن هذه العلاقات تطفو العلاقة التالية (نحن والبحر ونحن والملوحة) التي ربما هي مولد لتلك المشتركات، التي يقترحها المتلقي للنص، وإن كانت العلاقة الأولى التي هي (نحن والبحر) قائمة في أفق افتراضي وهو ( الحلم)، عكس العلاقة الثانية القائمة على شيء مادي وهو (القلب)،، بيد إنها ليست علاقة اشتراطيه مباشرة، وإنما إيحائية، تفترضها العلاقة السابقة، وتولدها المشتركات المرجعية والاحالية ما بين البحر والملوحة، وهذا كله لإيجاد أرضية تنطلق منها احتمالية الدلالة وتوالداتها المفترضة، مما يجعل المقطع السابق قابلاً لإنشاء العلاقات الاحتمالية داخل فعل القراءة وبنيته الإجرائية، بالاعتماد على المشتركات بين النص والذائقة القرائية التي استندت على المشتركات المرجعية التي قامت عليها تلك العلاقات، واعتبارها قاعدة لتوالد الدلالات.
     أما المقطع:
كم فكرنا باجتياز
   الصحراء
الى أن جفت أرواحنا…؟
هكذا خرجنا من دكاكين
      الحروب
وفي حقائبنا….
جحافل من الأًسَر
   المعطوبة…
وهذا المقطع يرينا أيضا علاقات تشبه العلاقات السابقة، والتي تنبني على مشتركات بين المتلقي والنص، تنهض كعلامات دالة ومحددة لأفق القراءة، أي الأفق الذي ستبنى عليه القراءة، وفق الإحالات المرجعية المفترضة، وإن تحررت على مستوى احتمالية الدلالة وانفتاحها داخل الفعل القرائي.
      وتظهر تلك العلاقات بين ضمير (نحن) المضمر داخل مفردات النص، من أفعال وأسماء والذي يوحيه الضمير المتصل (نا)، (فكرنا، أرواحنا، خرجنا، حقائبنا)، والعلاقات الاحالية مابين (الصحراء و الجفاف) و (الحروب وجحافل من الأسر) وأيضا (حقائبنا ومعطوبة) وان لم تكن بصورة غير مباشرة، والتي من الممكن للمتلقي ان يبني عليها لاحقا في متن النص القرائي.
    أما نص (سرير العائلة):
مالي كلما
تطلعت في العائلة
أصابني دوارُ
   العائلة

مالي كلما نظرتُ
إلى البحر
أدركت سر
الرحيل
ففي هذا المقاطع نرى العلاقات قد أخذت طابعا أخر، إذ لم تبنى وفق متصور مباشر كعلاقة البحر بالملوحة في النص السابق، وإنما قامت على علاقة افتراضية بين الدلالات المهيمنة للمقطع، وهي (أنا) والمائدة والعائلة، وهذه الدلالات هي التي تلعب دور المؤثر الأولي، الذي ينشط عملية  التحفيز القرائي وإيجاد المشتركات، ويفعل ديناميته الاحالية، التي تبني العلاقات العلامية والدلالية، ويستمر النص على هذا المنوال في المقاطع اللاحقة، كالعلاقة بين (أنا) والبحر والرحيل في المقطع الثاني.
أما المقاطع التالية:
(يسألونك عن الساعة أيان مرساها)
        أرجو ألا تنسفَ
          ما تبقى
         من بلادة
        الانتظار
       لتقولا بلغة
       مستهجنة
(إنما علمها عند…)
   لنعود الى الاسرة
       ورقابنا
   مثقلة بالحنين
فتستغل التناص مع الآيات القرآنية ، ولم تخرج المقاطع من الهيمنة الدلالية للآيات، ربما في المستوى البنائي الأولي، الذي يحدد أفق القراءة، أو ما أسميناه المشتركات بين النص وذائقة المتلقي، حيث إن الآية الكريمة ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها) (النازعات 42 – الأعراف 187)، ارتبطت بدلالة أخرى داخل المقطع وهي (الانتظار) الذي يحقق العلاقة الافتراضية بين الساعة والانتظار، وأيضا ارتباطها بالآية الأخرى التي هي آية مجتزئة وليست كاملة (أنما علمها عند..)، وقد أعطى الشاعر كلا الآيتين تأويلات خاصة به من خلال استخدام الإشارات  – الإشارة للآية من سورة النازعات بالساعة البايلوجية و الآية الأخرى من سورة الأعراف بالساعة الميتافيزيقية – هو توظيف مقصود، أراد به الشاعر أن يبني رؤية دلالية تعيد توجيه النص والآيتين  لرؤية جديدة، بيد إن هذا التضمين لهاتين الآيتين ومن خلفهما السورتين –  مع العلم بان كلا الآيتين موجودتين في سورة الأعراف (يسألونك عن الساعة أيان مرساها. قل إنما علمها عند ربي… إلى أخر الآية) (الأعراف: 187) –  بيد إن استخدام هذه الإشارات لم يدعم الدلالة للآيتين إن كانتا في سورتين مختلفتين أو في نفس السورة ولم توجهها توجيها جديدا، مع الافتراق الواضح بين تفسير السورتين، بيد إنهما نهضتا كمحفز دلالي لإيجاد المشتركات البنائية، التي تبني المقطع وتبني الصورة الافتراضية لأفق القراءة، أو ما سيؤل إليه نص القراءة داخل العملية القرائية والتأويلية، إذ لم نجعل قراءتنا السابقة كتأويل للعلاقات الاحتمالية للنص، وإنما حاولنا إعطاء متصور للقيمة الدلالية؛ التي جمعت كلا الآيتين بالاشارات التي وظفها الشاعر، والتي استندت على القيمة الاحالية لهما، وفتحهما على العلاقات الكامنة في بنية الآيتين، وعلاقاتهما داخل النص، أي إن تلك الإشارات وارتباطاتهما بالآيتين نهضتا كمشترك دلالي أولي، قائم على الأفق الاحالي للقراءة كمتصور ذهني، قبل تفعيل اجرائيتها.
        في أعراف الكتابات السردية يتكرر دائما مصطلح (الحبكة)، فهل توجد هذه الحبكة في الكتابات الشعرية التي استندت على السرد أو ما يعرف بالسرد/شعري، إن المدقق في هذا النمط الأسلوبي من الكتابة سيجد بأن هناك حبكة تتخلل تلك الكتابة الشعرية وخاصة و بصورة واضحة في الملاحم الشعرية الكبيرة للكثير من الشعراء حتى عدت من أهم المظاهر الفنية التي تميز فيها جيل شعري مهم في الساحة الشعرية العراقية والعربية، وخاصة كما أظهرها السياب في ملحمتيه الشهيرتين (المومس العمياء) و(حفار القبور)، وهناك من الشعراء من تظهر على كتاباتهم مظاهر خادعة لتلك الحبكة، وهي بالحقيقة مجموعة من البؤر السردية، وتظهر هذه البؤر في مجموعة الشاعر حيدر عبد الخضر، والتي ستلعب دور المشتركات البنائية لأفق القراءة، حيث إن هذه البؤر السردية، تظهر على السطح  وكأنها هي التي تسيطر على مقاليد النص كحبكة أو كخطاطة سردية تفرض هيمنتها الخطابية على دلالاته  وعلاماته، بيد إن المتفحص لهذا الأسلوب الكتابي يرى بأن تلك السيطرة مبنية على علاقات وهمية سرعان ما ستتبدد، عندما تتقد احتمالية الدلالة، من خلال تسليط رياح القراءة التي ستجبر تلك الدلالات للخضوع لإعادة تمظهر في بنيتها الإجرائية والاحالية.
لذلك فنص (هكذا تقطف الأناشيد):
عليَّ ما على…
الراسخ في المحنة
أن أثير.. أو أنبه
هذا هو دوري
بينكم أيها السادة
ربما ستدركون ذلك
بُنيَ على تسيد تلك البؤر السردية، التي تخللت مقاطع النص والتي لعبت دور المشتركات البنائية التي قد تظهر أمام المتلقي مفعلة افتراضية  أفق القراءة قبل تحقق النص بفعل إجرائية القراءة، التي ستحرر تلك المشتركات، وغيرها من الدلالات، وفق المحتمل الدلالي الذي من الممكن أن يسبح فيه النص، وقدرته على فتح فضاءه وتحريك دلالاته.
      فنلاحظ إن النص قائم على راو بضمير (أنا) المتكلم يأخذ دور الحكواتي، الذي يوجه خطابه إلى الآخرين، متلقي نص المحكي، والذي يسرد فيه عدة أفعال ترتبط به وبهم، تأخذ تلك الأفعال دور البؤر التي تتجمع حولها دلالات النص مكونة مجموعة من المقاطع، أو الانتقالات السردية التي تظهر كمشتركات بنائية تتجمع حولها فرضيات النص ماقبل القراءة الفعلية، ومابعد الكتابة، فأول مقطع يرينا بأن مجموعة دلالاته تتمحور حول لفظة (دوري)، والتي تحدد صلة ارتباط تلك الانا الساردة بالفعل السردي من خلال (بينكم) المرتبطة بأنتم، ودورها في تحديد تلك البؤر أو المشتركات، التي أوردناها سابقا، وربما تأخذ أيضا لفظة (المحنة) دورا اقل قوة.
أما المقطع:
ربما ستدركون ذلك
   فيما بعد
   ربما تقولون…
        منفعل
        لكنني
   بدينار أصلع
 أختبر ضمائركم…
فيتحدد وفق كلمتي (منفعل) و (ضمائركم)، وارتباط الاولى بشخصية السارد، وارتباط الثانية بأنتم الموجهة اليهم، وهكذا الى اخر النص، الذي ينتظم وفق العلاقة بين (انا) السارد و(انتم) المتلقين والبؤرة السردية المتكونة حول (انا) من خلال دورانها في فضاء تلك الانا والموجهة نحو الاخرون أو انتم، والتي تلعب دور المشتركات البنائية التي تحدد افق القراءة.

* هذا غبار … دمي (شعر) – حيدر عبد الخضر- دار الشؤون الثقافية العامة – سلسلة تواصل 5 – بغداد 2010