هل هي لعنة التاريخ التي أخبر عنها ماركيز في نهاية رائعته مئة عام من العزلة (ان الشعوب التي قٌدر لها ان تعيش مئة عام من العزلة لن يعطيها التاريخ فرصة أخرى للحياة)؟، أم هو غضب الله الذي حل بهذه الأرض منذ أن سُفك عليها دم الحسين؟، أم هي غلطة تشرشل الذي قال عنه منتقدوه بأن أخطأ عندما أنشأ بلدا يضم الشيعة والسنة والأكراد؟، أم هي لعنة الجغرافية التي جعلت من هذه البقعة من الأرض ملتقى لثلاث قارات؟، أم هي البداوة التي سكنت نفوسنا كما يقول علي الوردي فجعلتنا ننفر من أي صيغة للنظام والحكم؟، هل هي تلك المؤامرة الكونية الشاملة التي لا هم لها سوى تفتيت العرب والمسلمين؟ أم تراه النفط الذي سكن أحشاء العراق ولم يجلب له سوى المصائب؟ أم هي تلك اللوثة العقلية التي اصابت بوش وعصبته من المحافضين الجدد و أقنعتهم بأن الفوضى الخلاقة يمكن أن تخلق شرق أوسط ديمقراطي؟ وطبعا يجب أن لا ننسى حجتنا المفضلة “دول الجوار” التي نتوقع منها لسبب ما أن تترك مصالحها من أجل مصلحة العراق ووحدة أراضيه!
كلا سادتي، أنه ببساطة الفشل، نعم الفشل، الفشل خلق هوية وطنية قادرة على احتواء مكونات المجتمع، الفشل في الوصول الى رؤيا مشتركة لطبيعة البلد/الوطن الذي نريد، رؤيا تجعل من تناقضاتنا مصدر قوة، وهدف يجعل الجميع على استعداد للتضحية من أجله لان النتيجة ستكون مكاسب أكبر للجميع. فجميع الأنظمة التي حكمت العراق منذ تأسيسه ولحد الآن حكمت بأجنداتها الخاصة وتصوراتها التي افترضت ان هذا ما يريده “الشعب”، متناسية أن هذا “الشعب” هو ليس خليط متجانس يحمل ثقافة مشتركة وبالتالي أحلام مشتركة ممكن أن تقود ألى تكوين رؤيا محددة، في حين ان الحقيقة غير ذلك تماما، اننا مجموعة من الشعوب التي لا يجمعها الا ثقافة بدوية هزيلة تفرق أكثر مما تجمع.
يوما بعد يوم تظهر جليا أثار هذا التخبط وعدم القدرة على انتاج ثقافة حية قادرةعلى تشكيل هوية لوطن لم يعد يعرف نفسه، وطن لو استطاع النظر الى نفسه في المرآة لم يجد سوى شبحاً او بالاحرى مجموعة من الأشباح المتخاصمة، لم يعد هناك ما يجمع شتاته الا مجموعة من الشعارات والأحلام التي تبدو انها تعود لماض سحيق أو أنها أوهام لن تتحقق أبدا. والنتيجة سلسلة انقلابات ثم حروب ثم احتلال واحتراب داخلي واليوم الحديث عن التقسيم الذي يرفضه الجميع في العلن بينما يسيرون باتتجاهه يوما بعد يوم.
أحد الحلول التي نجحت في الماضي مع الدول التي تعاني عوامل تفكك داخلي هو تحديد عدو خارجي محدد واحد، أيا كان هذا العدو، فنحن اذا كنا لا نعرف من نكون فعلى الأقل أن نحاول أن نعرف من لا نكون، بمعنى أن نحاول تعريف أنفسنا بتعريف ما هو الضد منا، وحتى نتمكن من ذلك يجب تقليص القائمة الطويلة للأعدائنا الحاليين الى اقل عدد ممكن، هذه القائمة الطويلة من الأعداء المفترضين والتي وضعت جزءً منها في بداية المقال والتي لا تشمل فقط شعوب أو ثقافات اخرى بل تمتد وتمتد لتشمل كل شيء من التاريخ والجغرافية لتشمل عند البعض حتى الخالق جل في علاه.
و حتى نصل الى تقليص قائمة الاعداء، يجب أن نبدأ بتعلم فن جديد يبدو اننا لم نستطع أن حتى الآن اتقانه، ذلك الفن هو بناء التحالفات على اساس استراتيجي أو على الاقل تحييد من نستطيع تحييده قدر الامكان، فعلى ما يبدو من قرأة التاريخ العراقي المعاصر، أن الحكومات العراقية المتعاقبة لم يكن لها حلفاء حقيقيون يمكن الوثوق بهم( مع وجود بعض المحاولات لاقامة تحالفات هشة مثل حلف بغداد ومجلس التعاون العربي)
أما بالنسبة للأعداء المعنويين فعلى ما يبدو أن التخلص منهم ليس بالسهولة التي نتماها، وذلك يعود الى أن هذه العداوات المفترضة لا وجود لها من الأصل الا في مخيلة الشعب العراقي والشعوب العربية والاسلامية عموما، فلا “الله” يريد ان يعاقبنا على ما اقترفه ابآئنا الأولون لانه ارحم واعظم من ذلك، ولا المؤامرات الغربية تستهدف العراق تحديدا بدليل أن نفس هؤلاء الغربيون قاموا ببناء تحالفات مع أنظمة اخرى في المنطقة لعقود عديدة رغم اختلافهم الايديولوجي العميق معها، أما الجغرافية والتاريخ فهما ينتظران منا المبادرة لخلق واقع ومستقبل افضل ان استطعنا تحديد ملامح هذا المستقبل. فهل سنتمكن من ذلك ام ترانا سنستمر في لعب دور الضحية المسكينة والحديث عن مظلومية تاريخية التي لاتساهم الا في تحطيم ما تبقى من عزيمة من لازالوا يؤمنون بعراق قابل للحياة؟