يثير فرانسيس فوكوياما في كتابه ” بناء الدولة ” أن ضعف مؤسسات الدولة هو المصدر الأول للمشاكل الخارجية والداخلية، مثل هذا التجديد في تفسير معضلة إدارة الدولة كمهنة ديمقراطية في الدول التي تعتمد النظام الليبرالي، فان مقارنته بحالة العراق وما يمكن ان تؤول اليه هذه المهنة في المستقبل المنظور، تقع في مطب التلاقح مع النتاج المشوه لما تم تعريفه ب ” الديمقراطية التوافقية” التي انتهت الى “مفاسد المحاصصة” وجعلت الدولة في حالة ضعف دائمة ما بين مطرقة المشاكل الخارجية وسندان الأوضاع الداخلية.
السؤال: هل يكفي المثقف العراقي اليوم ان يقول كلمته ويمضي، ام هناك واجبات مفترضة للمسؤولية المجتمعية في التغيير المنشود وإصلاح هندسة بناء الدولة ؟؟
في مهنة الديمقراطية، يأتي الجواب بان الرأي الأخير للناخب الذي يبحث عن امنه في الحاجات الأساسية التي تعترف بها جميع الشرائع السماوية وعهود حقوق الانسان، وساسة البشر لها ثوابت عامة تم تطوير قياسها في نماذج الإحصاء الكمي عرفت ب” استطلاعات الراي العام ” هكذا وجدت مهنة الديمقراطية الحاجة الى تحديد هذه الاتجاهات ودراستها عن قرب لتحديد البرامج الانتخابية والحزبية وتعديلها حسب متغيرات نتاج هذه الاستطلاعات ، واذا كانت الولايات المتحدة الامريكية هي المبادرة لتطوير هذا النموذج الذي يتماهى مع طبيعة التداول السلمي للسلطة، فان دول كثيرة اخذت به في إدارة هندسة بناء الدولة، ويختلف عنهم من يروج لأفكار تعتمد تجهيل الانسان في حياة الدنيا، بانتظار ثواب الاخرة، هذا المنطق الذي لا يعترف بميول واتجاهات التطوير التقني في القرن الحادي والعشرين، فيأتي من اغوار جاهلية التاريخ القديم بهندسة مجتمعية تقوم على الغاء حق التفكير فيما يحدث اليوم او ما يمكن ان يحدث غدا، جعل حق المواطنة والانتماء الدستوري للدولة خارج مساق مهنة الديمقراطية ، فيما حصل الكثير ممن يروجون لهذا المنطق على امتيازات يفترض ان تكون منطلقا للعدالة الاجتماعية ، لكنها نفذت كامتيازات في إدارة الدولة التي عرفت بمصطلح ” الدولة العميقة “.
يتكرر السؤال: ثم ماذا ؟؟
الجواب أي هندسة مقترحة لإعادة هندسة بناء الدولة في عراق اليوم، تتطلب في حدها الأدنى الاتي:
أولا: أدى نموذج الخوف من ماضي الدولة الشمولية في صياغة الدستور، الى تقنيين مفسدة السلطة، وهذا يتطلب إعادة صياغة قانوني الأحزاب والانتخابات لتصحيح ما يوصف دائما من ذات الأطراف التي قامت بصياغة الدستور ب”اخطاء التأسيس” من خلال إعادة انمذجة مناهج عمل الأحزاب بموجب عقد دستوري وطني شامل يلغي نموذج المحاصصة الطائفية والعرقية، بفرضية هندسة جديدة تمثل اغلبية العراقيين بمختلف اطيافهم الاجتماعية ما لا يقل عن 10 محافظات في حدها الأدنى.
ثانيا: يفترض بالأحزاب الوطنية التي تستهدف دخول حلبة المنافسة لانتخابات البرلمان الاتحادي، فهم مهنة الديمقراطية، كخطوط عمل متوازية ، تبدأ بمأسسة نشاطاتها الحزبية ، لا تكون لها اية اتصالات خارج اطار الدولة ، بما يمكن ان يوقعها تحت طائلة المحاسبة القانونية بالتخابر مع قوى خارجية ، حصر السلاح بيد الدولة ، كون ممارسة العنف للحفاظ على الامن والأمان العام ومهمة نفاذ القانون بيد الدولة حصرا، لا تمول الحملة الانتخابية لأي حزب بأموال خارجية ، يمكن ادراج نصوص عقابية صارمة واضحة في قانوني الانتخابات والأحزاب بهذا المضمون، فما جدوى تكرار الحديث عن رفض الأغلبية المتصدية للسلطة ربما المطلق لمفاسد المحاصصة، حتى بات الكثير ممن يظهرون في وسائل الاعلام من كبار الشخصيات ، بوصف محلل سياسي غير معني بحلول أزمات اقتصادية ومجتمعية صارخة لعل ازمة الكهرباء ابرزها اكثر من توظيفها لتسقيط الاخر غير ديمومة هذا النتاج المشوه للدولة .
ثالثا : المحور الذي لم يحظ باهتمام أي حزب عراقي ، بل وحتى إدارة الدولة ، فهم رأي الشعب بمجريات الاحداث، ولم اجد أي ندوة تعقد على مستوى مراكز الأبحاث، جامعية رسمية كانت ، ام ضمن مؤسسات الدولة ، تحاول وضع هذه الحلول في برامج تطبيقية ، تشرف عل تطبيقها ، من خلال لجان مجلس النواب والأمانة العامة لمجلس الوزراء وهيئات المستشارين بامتيازاتهم المالية الكبيرة ، فالجميع يشخصون الأخطاء ، ويحددون الفجوة في الاستراتيجيات الوطنية ، لكن دون سؤال الشعب عن رأيه في هذه الأمور، وابسط سؤال يمكن ان نطرحه في إعادة هندسة الدولة، عن تلك الأموال التي صرفت دون تحقيق نتائج مفترضة ناهيك عن ملفات الازمات المتتالية، كل ذلك يتطلب تمكين مراكز البحوث والدراسات من إدارة الرأي العام الوطني عبر استطلاعه باستبانات علمية فحسب، واشدد استطلاعات علمية ذات معايير دولية، عندها يمكن ان يعرف من يجلس على كرسي السلطة ويتمسك به خارج ثقافة الاستقالة معنى الفشل والنجاح في هندسة بناء الدولة ولله في خلقه شؤون !!