بعد سقوط النظام السابق وفي أيام الفرهود والحواسم وفي خطب إحدى الجُمع صعد الخطيب الى المنبر وألقى خطبة عصماء محذراً ومتوعداً الذين تُسول لهم أفكارهم الأنضمام الى سلك الشرطة والجيش حيث كانا في بدايات تكوينهما، بأن لهم نار جهنم وعذاب من الله.
وكان الشيخ يعلل ويبرر تحذيره بأن الرواتب التي يتقاضاها هؤلاء المنتسبين من الدولة هي حرام مُؤكد بإعتبار أن هذه الدولة كافرة نصبّها محتل كافر وإن كل الرواتب والإمتيازات التي يتقاضاها الموظفين من هذه الدولة هي محرمة.
المفارقة المضحكة أن هذا (الداعية) كان هو نفسه يتقاضى راتباً من هذه الدولة الكافرة!!.
ذكرتني هذه (الحكاية) وقد مر على أذهاني استيقاظ البعض من سباتهم الذي دام لأكثر من ستة عشر عاماً من المشاركة والتشارك والإشتراك في العملية السياسية التي صنعتهم ليقرروا فجأةً أنهم أصبحوا مُعارضين والبدأ بتفعيل مبدأ المعارضة السياسية للحكومة وهو مبدأ يبشر بالخير لو كانت هذه المعارضة تستند الى أُسس وقرائن تعززها، حيث كان من الأجدى لهذه الكتل والأحزاب وفي بداية نقطة انطلاق مشروعها للمعارضة أن تقوم اولاً بإصلاح حال سقفها المتهاوي وأن تقوم بمحاسبة أفراد ومسميات تتغطى بغطائها مُتَهمة بقضايا فساد وسرقة المال العام وتسلمهم الى القضاء والعدالة ليكون هذا دليلاً وعنواناً كبيراً للشعب أن هؤلاء القوم صادقون في نِيتّهم. وكيف ستصبح العلاقة بين الحكومة والمعارضة إذا كان كلٌ مُنهما يمتلك ملفات فساد وسرقات وأدلة تدين الطرف الآخر حينها ستلجأ الحكومة الى فتح ملفات فساد بعض المحسوبين على المعارضة لإسكاتهم وليبدأ حينها التراشق الإعلامي والمواجهات في الفضائيات ولتضيع على المواطن أُصول الحقيقة، ثم هل سيكتفي (المُعارضون) من الغنائم والإمتيازات والنفوذ التي تمنحها لهم السلطة وهل سيتم الأستغناء عنها؟.
أحد القيادات السياسية ممن كان في أعلى السلطة التنفيذية في الدورة البرلمانية السابقة صدّع رؤوسنا بكلمة (البعض) فلم يخلو تصريح أو مؤتمر صحفي أو بيان من هذه الكلمة ولم نعرف من هم هؤلاء البعض حتى شكّ (البعض) أن الشعب هو هذا البعض، وطوال سنين أربع لم يجرؤ هذا (المُعارض) الحديث على تسمية فاسد واحد أو أن يسمي الأسماء بمسمياتها ربما خوفاً أو خجلاً أو ربما مُداراة لزملاء له في العمل السياسي حتى بِتنا نسمع في أواخر أيام وزارته بأنه سيضرب بيد من حديد كل الفاسدين وهي شعارات ضاعت كغيرها من الوعود التي تبخرت.
تُرى هل يستطيع هذا المعارض أو المعترض حديثاً أن يُسمي الآن هذا (البعض) وهو خارج أروقة الحكومة وبعيداً عن السلطة والنفوذ.
إن المُعارضين أو المُعترضين يبدو أنه قد أصابهم فقدان ذاكرة مؤقت نسوا فيه أنهم كانوا جزءاً من عملية سياسية أنتجتهم وحملات إنتخابية شاركوا بها ومناصب وحصص وظيفية ووزارات كانت لهم وكانوا جزءاً من حكومات متعاقبة ليتحولوا فجأة الى مُعارضين أو مُعترضين.
إن الحقيقة التي ربما يجهلها الكثيرون ومهما تفنن طباخوا المطبخ السياسي وجُلساء دهاليز الغُرف المظلمة لا يمكن إنكار واقع أن جميع الذين إستوعبتهم العملية السياسية العرجاء الى هذه اللحظة هم ممن يحمل فكرة (المُعترض وليس المُعارض) وهو منهج يختلف عن إستراتيجية رجل الدولة والدليل على هذا القول إن جميع من جاء من خارج الحدود ووضع بصمته في العملية السياسية لم يقدم شيئاً الى هذا الشعب بل أن بعض المُعترضين الذين حكموا إعتبروا أن الشعب هو شريك أساسي مع نظام الحكم السابق في قمع هؤلاء الهاربين ولذلك حاول هؤلاء القادمون من وراء الحدود إستعباد هذا الشعب وأضاعوا حقوقه وسلبوا حياته وأوصلوه الى حالة مزرية من الإذلال والدمار والإزدراء وإقتصرت المنافع والأمتيازات والرواتب الضخمة على من جاء من الخارج ظناً منه أنه هو المظلوم الوحيد دون الإحساس بمن بقى صامتاً وصابراً في هذه الديار يطحن نوى التمر ليجعله رغيفاً لإطفاله في فترات الحروب والحصار.
الرأي المُؤكد والأستنتاج الدامغ أن هؤلاء لايمكن إعتبارهم مُعارضين بل مُعترضين لأن المعارضة بمعناها الأشمل أن يتم تقويم الأخطاء لا التكريم، وأن تكون المُعارضة الحقيقة في المساعدة لتنفيذ القرارات الصحيحة وإعادة البناء ولا للعرقلة وأن يمتلك المُعارض الشجاعة لأن يقول لا لتلك القرارات التي يرى أنها تضر بالصالح العام وأن يقول للفاسد أنك فاسد دون خوف أو إستحياء.
المُعارضة ليست فكرة تتوقد فجأة في فكر سياسي وليست مقولة (ألعب لو أخرّب الملعب)، ومن المؤكد أن الذين إنتهجوا أسلوب (الإعتراض) في هذا الوقت بالذات ربما أدركوا جيداً إن المركب سيغرق بالجميع ولذلك سارعوا بالقفز خارج هذا المركب وهي نقطة تسجل لصالح المُعترضين فتحية لذكائهم.