” حزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور”1[1]
يعود الفضل للعلماء الذين انحدروا من تاريخنا الحضاري في اكتشاف صورة العالم كما نعيشها اليوم بعدما ابتكروا أدب الرحلة وفن السفر وعلم الملاحة وتعلقوا بتجارب الهجرة والسياحة والتنقل بين البلدان وضربوا الأرض وركبوا البحر وجالوا في الآفاق واشتهر منهم في هذا المجال كل من ابن حوقل وابن جبير الأندلسي والمسعودي والشريف الإدريسي وياقوت الحموي والحسن الوزان أو ليون الإفريقي والمقدسي وحسان المراكشي وابن رسته وأحمد ابن فضلان وزيارته بلاد الروس والترك والصقالبة.
بيد أن ابن بطوطة وابن ماجد هم الأشهر والأهم في هذا الميدان وذلك لما أفادوه من رحلاتهم من أخبار واكتشافات ولامتلاكهم رؤية تاريخية وإحاطة بالجغرافيا السياسية والذوق الفني والتحليل الثقافي المقارن.
لقد انطلق محمد ابن عبد الله ابن بطوطة المولود سنة 1304 والمتوفي سنة 1377 والمنحدر من قبيلة لواتة في رحلته الاستكشافية للعالم من مسقط رأسه بطنجة من بلاد المغرب وزار الجزائر وتونس ومصر والسودان والحبشة والشام والحجاز واليمن والعراق وفارس وبلاد ماوراء النهرين والهند والصين وجاوة وبلاد الترك والروم وغرب إفريقيا ووسطها وجاب الصحراء الكبرى والجبال العالية والسواحل البحرية وبلغ آسيا الوسطى وجنوب آسيا وشرق إفريقيا والصومال وأرض الأندلس وشواطئ المحيط الأطلسي.
لقد بلغت المسارات التي انخرط فيها أمير الرحالين مسافات طويلة واستغرقت عقودا بأسرها وتطلبت بذل تضحيات جسيمة من الناحية المادية والاجتماعية ولكنها كانت رحلة غنية ومثمرة ومفيدة إلى أبعد الحدود.
لقد كان ابن بطوطة يتقن العديد من اللغات إلى جانب العربية والأمازيغية والتركية والفارسية وبرع في الشعر والأدب والرواية وترك لنا كتابه الشهير “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” الذي صور فيها معظم البلدان التي زارها ووصف ما رأى من عادات وتقاليد وذكر الكثير من الأحداث والأفراد ونال به شهرة أول رحالة منفرد قبل بداية النقل البخاري وتمت ترجمة بعض فصوله إلى اللغة الألمانية.
لقد دوّن أهمية التصنيع في تقدم الدول وتسهيل استعمال النقود الورقية للعمليات التجارية وتوقف عند الوجبات الغذائية والنبتات والتوابل المستعملة في المطبخ وفي الطب واهتم بالحيوانات الأهلية والملابس وانتبه إلى جمالية صور الصين العظيم وتعجب من تجاوب الشعوب الأسيوية في جزر ماليزيا وأندونيسيا والفلبين وبلاد التتار والأتراك مع ثقافته وحلم بعد عبوره الصحراء بجلب كنوز الذهب من أدغال إفريقيا.
لقد تعرض أثناء رحلاته للكثير من المخاطر والأهوال وعاش وضعيات قصوى تغلب عليها بالاستعانة بالصبر والتسلح بالإرادة وبالتقرب من الملوك والسلاطين والأمراء وساهم في توطيد السلم بين الدول وإبرام اتفاقيات صلح وتوقيع معاهدات في التبادل التجاري وقام بالتعريف بثقافته وآدابه وقيمها الكونية.
لقد بلغ القاضي الرحالة ابن بطوطة مراده من الدنيا ومراميه من الحياة بالسياحة في الأرض ومقابلة معظم شعوب الكون والتعرف على عاداتهم وتقاليدهم والالتقاء بهم في أماكن تواجدهم والتواصل مع حكامهم. لقد انتهى به المطاف إلى تفقد البحر المتوسط وزيارة جزره من الشرق إلى الغرب مبينا أهميته في العالم. فهل يمكن استئناف هذه النزعة الاستطلاعية التي اتصفت بها الشعوب الحرة وإيقاظ روح المغامرة في الفضاء من سباتها؟
المصدر:
محمد ابن عبد الله ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، دار إحياء العلوم، بيروت، 1987، 799صفحة.