إثـنان من المفاهيم المغلوطة التي أورثتنـا اياها عهود السيطرة الرجعية في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي وهما : السياسـة والثقافــة ، فقد تربينا على أساس ان السياسـة هي من اختصاص جمع من ” السـحرة ” الذين يدركون اسـرار لعبة خطيرة تتحكم بمصير الناس وقوتهم ومستقبلهم ولا يجوزلأحد غيرهم على الاطلاق ان يحاول سبر أغوار هذه الطقوس السـحرية ، وكم من مرة حذرنا أهلنــا ، ونحن ما زلنا في طراوة العـود ، من ان نـبتـعد ما استطعنا عن كل ما له رائحــة ” سـياسـة ” من قـريـب أو بعـيـد ، فقد كان ( أولياء القوم ) وحدهـم هم المخولون ركـوب الامواج السياسية وفك الطلاسـم الايدلوجيـة وقيادة شعبهم الى شـواطيء الهدى والامان .
لي شهادة على عصر خمسينيات القرن الماضي ، ففي عام 1957 حينها كنت تلميـــــذا في المراحل الاولى من الدراسة الابتدائية .. وكان دارنا قريبا من دار خالـي ، كنت اشاهده يقرأ الصحف والكتب التي لا افقـه ما بداخلهـا ، وفي أحـد الأيام ، فجـأة ، تمت مداهمة داره من قبل الشرطة السرية، وتم ايداعه التوقيف ثم السجن ، وبعد حين عرفنا ان ســبب اعتقاله هو ( قراءة الكتب والصحف اليسارية ) ولحد الآن اذكر ذلك اليوم الشتائي الممطـر الذي رافقت فيها والدتي ( رحمها الله ) الى سـجن بغـداد المركزي في باب المعظم ( موقع بناية وزارة الصحة الحالية ) من أجل زيارة خالـي ، وعند دخولنــا بوابـة السـجن تم خـتم معصمي ، هكذا اذن هي السياسـة ، ومع انقشاع كثير من الغيوم الفكرية ، يتضح ان السياسة شـيء آخر مختلف تمام الاختلاف ، لاتصنع في السراديب المظلمة ، ولا في الغرف الخلفيـة ، بل في ضوء الشمس أمام الجماهير العريضة ، فلم تعد
السياسة حكرا على بعض الوجهاء الذين ينفذون ارادة غيرهم ، بل اصبحت ملكا لكل الناس الذين اصبحوا ينظرون اليها على اساس انها اداة تغيير في ظروف حياتهم اليومية ، فالسياسة بمفهومها الجديد والحقيقي هي صناعة الغـد ، وصناعة المستقبل بالنسبة الى الاجيال الصاعدة وبالنسبة الى الامـة بأسـرها .
والتحول نفسه طرأ على مفهوم ” الثقـافـة ” ، فقد كان الفكر الرجعي السـائد يصورها على اساس انها مجموعة من شهادات ( الـدبلوم ) تعلق في الصالونات الأنيقـة وتحاط بأطـر من الذهب الخالص ، لا تستعمل إلا في المناسبات المهمة، ولكن الفكر الجديد والصحيح يعلمنــا غير ذلك تماما ، فالثقافـة ليست مظهرا من مظاهر الترف ، ولا أداة للاستعمال المؤقت بل هي سـلوك الانسـان اليومي وقدرته على تفهم حاجات محيطه ، والتصرف وفق هذا الاساس ، ومع التغيير الذي طرأ على خارطة بلادنا الفكريــة ، بدأت تتغير معها مفاهيم كثيرة نحتاجها في حياتنا اليوميــة .