الأسلوب هو الأصل و ماوراء النص هو الحقيقة و كل شيء آخر في الأدب انعكاس لذلك ، هذا ما تعلمنا إياه رشا هلال السيد أحمد
أن النقد الأدبي الواقعي الصادق هو ما يجد له شاهدا و مصدقا في النصوص تهتف به وتنادي عليه ، أما التكلف و الإقحام و الإدعاء فليس حقيقة ، كما إن الإستغراق في الإطروحات الفكرية البعيدة و غير الملموسة هو محض فلسفة و ليس نقدا . و أفضل ما يشهد لذلك و يؤكده الوجدان و النصوص الادبية نفسها
رشا هلال من يعرفها يعلم انها تكتب بلغة الروح ، بنصوص هي كتل هائلة من العاطفة و التراكم الشعوري و التجربة المميزة . ان الميزة الاهم في الشخصية الكاتبة عند رشا اهلال هي القدرة العالية على تحويل المعارف الحسية الخارجية الى معارف شعورية ، هذا التحويل موجود عند كل مبدع الا انه يتفاوت في قوته ، و ان كل متتبع يجد و بأدنى تأمل ان القدرة التحويلية للادراكات و المعارف عالية جدا عند رشا اهلال ، كما انها تتميز بقدرة عالية على التحويل المعاكس ، اي تحويل المعرفة الشعورية الى نص .
اننا لا نحتاج الى مزيد كلام في بيان ان البحث في اسلوب التحويل المعرفي و الشعوري في النقد التعبيري هو تجاوز جاد و حقيقي للاسلوبية و شكلانيتها ، و الاتجاه نحو بناء نقدي و معرفي بامكاننا ان نسميه ( ما بعد الاسلوبية ) ، اذ رغم التقدم و التطور الكبير في نظرة الاسلوبية و صدقها و واقعيتها ، الا انها في الواقع تميل الى التشبث بالشكل و اعتماد المعطيات و المؤثرات النصية بكونها العالم الذي يبحث ، بينما نحن ندرك و نشعر بوجودات لاشكلية تهيمن و تفرض سطوتها على النص، و لو قلنا ان النص انما يكون بتلك الوجودات الماورائية لما كان خطأ .
المدركات المعرفية و الجمالية و التأثيرية و التعبيرية الماوراء نصية لها اشكال ، ترتبط بحالات التجلي التي يبدع فيها المؤلف ، فلدينا التجلي الذاتي و لدينا التجلي الماوراء نصي و لدينا التجلي العلوي ما فوق الكتابي و الذي يشبه الى حد كبير التجليات الصوفية الا انه متجه نحو مصادر الابداع محاكيا لها و مدللا عليها .
في التجلي الشعوري الذاتي يرى القارئ ان تعبيرية النص بلغت حدا صار بالامكان رؤية روح الكاتبة و شخصيته و ما يرتبط بهما من عوالم شعورية و مميزات و خصائص فردية .
و في التجلي الماوراء نصي تبرز مجموعة المجالات او الانظمة التعبيرية و الدلالية و التأثيرية التي تقف وحدات النص و ترتبط بها برابط الرمزية و البوح ، بحيث يجعلك ترى مفردات النص تتوهج و انها معبأة بطاقات دلالية و تعبيرية كبيرة .
و في التجلي الشعوري المافوق كتابي ، تجد الاشارة و التدليل على العالم الابداعي الاعلى و مصادر الابداع و الالهام ، وهذا العالم هو اعمق عوالم الشعور و يحتاج ادراكه معادلاته العميقة الى اشراقة و نوع خاص من الادراك لا يتيسر لكل شاعر ، و اللغة التي يكتب بها نص التجلي الأعلى هذا هي لغة اشراقية ساحرة تجعلك ترى وحدات النص تنزل من مكان عال و ليست شيئا مكتوبا على ورقة أو شيئا مقروء في الزمان و المكان ، إنها لغة السحر .
في قصيدة ( إليك تصعد القصيدة حبا ) المنشورة في مجلة تجديد
إليك تصعد القصيدة حبا ؛ رشا السيد احمد المفتي
بلغت الشاعرة الفذة رشا اهلال السيد احمد درجات جد متقدمة و متفردة في الشكل الابداعي تحقق بصمة و حضورا في فن التجليات الكتابية
فالعنوان يكشف عن تلك النزعة التجلياتية و ذلك الاستغراق في العوالم الماوراء نصية ، إن العنوان وحده و كما هو ظاهر مقطوعة ( ميتاشعرية ) تبين و تؤسس الى نظرية التجلي في تكوين القصيدة ، و بخلاف ما يمكن أن نفهمه من أن القصيدة تنزل من الأعلى إلى النص فإنها عند رشا هلال تصعد إلى المثل ، و في الواقع هذا العنوان أو بالاصح المقطع وحده يجمع المستويات الثلاثة التي أشرنا اليها ،ففي صعود القصيدة إلى المثال يتحقق المستوى التجلياتي العلوي المافوق كتابي و في ميتاشعريتها يتحقق المستوى الماوراء نصي و في رابطة الحب المبثوثة هنا يتحقق مستوى تجلي الروح و الذات.
إننا حينما نعمد الى بحث فن التجلي في الكتابة ليس فقط نحن نحاول أن نبين القدرة الابداعية الكبيرة للمؤلف ، و أنما نريد أن نبين أنه يمكن أن تكون للغة طاقات غير معهودة في التعبير ، و أننا و بكل صراحة يوما بعد يوم نجد الشعر السردي هو الأقدر على تحمل هكذا طاقات و إبداعات و أن النقد التعبيري هو الأقدر على كشف هكذا أنظمة و عوالم تعبيرية .
ثم تتبع رشا هلال هذا العنوان أو البيان بمقطع تجليات آخر و من مجال معنوي مقارب في الميتاشعر الماوراء نصي و الحنين الروحي و الشخصي والصعود و الإرتحال الى المثال و العوالم المافوق كتابية العليا حيث تقول :
( ما زلت أذهب بعيدا ارسم ظل القصيدة شفيفا كم هو بنكهة الشرق وبرائحة مدينتي العتيقة ) *
إن من ميزات كتابة رشا هلال و التي يلمسها المتتبع أنها تعتمد الموجهات الدلالية الراسمة ، أي انها لا تعمد فقط عن التعبير العام و الاجمالي بل تعمد الى تفصيلية تعبيرية تصل الى أدق التفاصيل ففي عبارة ( ما زلت أذهب بعيدا ارسم ظل القصيدة شفيفا ) نجد مجموعة من الموجهات الدلالية التي وجهت مجال المعنى و مجال المعارف ، و بإسلوب الرسم بالكلمات جعلتنا نتصور ذلك النظام أو الحالة التي عليها الكاتبة ( فالذهاب ) هنا ليس أي ذهاب و إنما هو ذهاب ( بعيد ) كما إنه ليس مجانيا و لا ماض و إنما هو ذهاب ( ما زال ) مستمرا ، وهذا الذهاب و أن كان للرسم ، إلا إنه لرسم ( ظل ) و ليس أي ظل بل هو ظل ( القصيدة ) و لا تكتفي رشا هلال عند هذا الحد من الرسم بالكلمات ، بل أيضا تخبرنا إنه ظل ( شفيف ) ثم تنتقل الى بيان حالة شعورية و موقف شعوري تجاه هذا النظام و تجاه الشرق و رائحته و مدينتها العتيقة .
و هنا نجد التجليات حاضرة ، فالذهاب البعيد لأجل قدرة الرسم هو من تجلي العالم الشعوري الفوق كتابي العلوي و القصيدة و ظلها و رسمه و تعبيرية و رمزية تلك الكيانات من مجال التجلي الماوراء نصي ، و الموجهات الدلالية من ( بعيدا و شفيفا ) هو من تجلي روح المؤلف و مشاعره و الذي تتوجه الشاعر بعبارة (كم هو بنكهة الشرق وبرائحة مدينتي العتيقة )
و إن لكلمة (كم ) هنا طاقة دلالية هائلة ، فمع إنه أداة رسم للشعور ، و أداة بيان لحقيقة ان ذلك الظل الشفيف انما هو في اروع حالاته بنكهة الشرق ، وهي أيضا إعلاء لما ترتبط به مشاعر الكاتبة من الشرق و مدينتها العتيقة و في النهاية كشف عن حب و حنين لتلك الوجودات الغالية .
أن فن توجيه الدلالة و فن الرسم بالكلمات هو من الفنون الكتابية الفذة و الرائعة ، و التي تعطي للنص عذوبة و ألفة ان صيغت بصورة حساسة و مليئة بالشعور كما نجده واضحا في كتابات رشا هلال
ثم تتابع رشا هلال ملحمتها التجلياتية في عبارة ( أعود ، أجد الوجود قصائد تهرول وجعا ، تزحف بظلها ،ابتعد عنها .. ) وهنا تتراكم و تجتمع العوالم المتجلية و تتحقق اللغة الراسمة بالموجهات الدلالية ، فإنها تعود فتجد الوجود قصائد لكنها ليست ككل القصائد بل قصائد تهرول ، إنها تهرول بسبب الوجع ، بل إنها تبلغ حالة الزحف
و في مقطع مشاعري وجداني تتجلى فيه ذات الكاتبة تقول الشاعرة ( يعود ذاك العندليب بقصفة ياسمين يبللها المطر والرصاص ..يغفو في شرفة القصيدة.. أضحك بسخرية على خيبات الدنيا .. أبحث عن ضحكتي الوردية في الحكايا المؤجلة .. في مهد الأحلام
ألملم أجزاء الليل المنكسر بأنين التشظي .. ) وهنا تبلغ الشاعر اقصى حالات البوح و أقصى حالات التجلي للذات ، إنها التعبيرية الكاملة و الموقف الكامل تجاه الوجود و الأشياء و الزمن ، و يعرف المتتبع لرشا هلال إنها من الكتاب التعبيريين ، فهي تأبى أن ترى العالم إلا بالرؤية الخاصة و تأبى أن تكتب عن الأشياء إلا وفق الرؤية الخاصة بها فتسمي الأشياء بأسماء من عالمها و تضفي عليها صفات من داخلها، فتكون الأشياء واضحها و غامضها عند رشا هلال معان مختلفة مغايرة عما نعرفه و نفهمه ، وهذا المقطع و ما تقدم كاشف عن تلك التعبيرية الواضحة
و مثله مقطع ( …والقمر السكران بجمال القمم .. يتدحرج على وجه البحيرة الغربية ( …… و من ثم يأتي موجه دلالي و أداة راسمة متمثلة بكلمة ( هنااااك ..) و التفصيل هنا يطول اكتفينا بالإشارات ، ثم و ببراعة تجمع رشا هلال بين عوالم الروح و الذات و بين العوالم المثالية و المافوقية مخاطبة المثال ( وأنا أنا .. انظر في وجهك أرى النجوم تسجد لك .. وفي كفك وحدك لؤلؤة الحياة ..) وهذا إضافة الى كونه نظام تجلّ واضح فإنه رسم بارع بالكلمات و بوح أقصى تجيده رشا هلال السيد احمد المفتي,