عقود مضت على عهد الحكومات الثورية العربية، اغلبها كان بروتوكولياً لم يفارق الشعار، وبعضها حاول تطبيق ذلك الشعار ضمن حقب الثورات ودولها.
ولعل جمهورية مصر، أول من حمل راية (الثورية) العربية، وما كاد ينقضي عهدها الأول، إلا وتنازلت عن شعاراتها المحكية والمكتوبة. فلم يمضي وقت قليل على استلام انور السادات سدّة الحكم، حتى أعلن عن تحطيم (مراكز القوى).
كان مصدر مراكز القوى المصرية هو السلطة، وأبرز تلك المراكز هو الجيش وسطوته على القرار السياسي، فضلاً عن مخابرات (صلاح نصر) وشذوذها بين “زوار الفجر” واستخدام “الفضائح الجنسية” المسموح بها ردحاً طويلاً من قبل عبد الناصر. ولهذا معنى أن الدولة تهب القوة لمن تشاء وتسلبها وقت ما تريد، ولا يمكن تحصيل القوة من خارج الدولة!
بالضبط، كما يحصل اليوم في العراق. مراكز القوى كثيرة، وعنوانها الأبرز (احزاب سياسية). بيد أنّ مصادر قوة تلك المراكز متعددة، وإشتراكهم بالسلطة (الدولة) مصدرها الأضعف أو الثانوي. على سبيل المثال: التيار “ص” او “ع” بكافة تفاصيله وفروعه، لم يحصل على قوته من الدولة او اشتراكه بها؛ إنما نتجت تلك القوة عن السلاح، وهو السبيل الرئيسي لتحوله الى مركز قوة يتفوق على الدولة ذاتها. مصادره الاخرى تتنوع بقدر تنوع قراراته بالإشتراك في جوانب الحياة المختلفة. فمن اشترك منهم بالسلطة أضاف إلى قوته مصدراً آخر، فضلاً عن السطوة الدينية والجماهيرية!
في هذه الحالة لا تعطي الجماهير شرعية؛ إنما قد تسطو على الشرعية وتضر بها. فالانتماء الثانوي يطغي عادة على المواطنة، وتصبح الآيدلوجية او العقيدة (الرمزية) هي القضية التي يستقتل في سبيلها جمهور هذا الفصيل او ذلك الحزب!
هذه الحالة شديدة الوضوح في الوضع العراقي، ومشخّصة من قبل العامة قبل الساسة، والحكومة اشدّ إدراكاً لها ومعرفة بها.
بيد أنّ ذات الحكومة الواعية، تذهب إلى ترسيخ تلك الحالة لتحولها الى ظاهرة متجذرة في الواقع العراقي، فعوض ذهابها -أي الحكومة- إلى مكافحة الحالة بشتى الوسائل، تهرب الى الامام عبر تشكيل مل يسمى “مجلس اعلى لمكافحة الفساد”!
مجلس مكافحة الفساد، لن يبتعد أكثر من مراجعة الأوراق والإسفاف في التصريحات والاجتماعات. بمعنى آخر: هو حيلة ليست ذكية للتغطية على نشاطات القوى الداعمة للحكومة.
الحكومة، كونها المعنية بهذا الملف، تستطيع اتباع اقصر السبل للقضاء على الفساد؛ فتحطيم مصادر قوّة القوى السياسية: المال والسلاح والمحاصصة، يفضي بالضرورة إلى خفض منسوب الفساد، سيما وأنّ مكافحة الظاهرة ليست بحاجة الى هياكل او دوائر مستحدثة بقدر حاجتها الى جدية وشجاعة في الفعل قبل القول، ولعل هذا ما يفسر مفهوم “الحازم الشجاع”؛ إما في حالة غياب صفة الحزم والشجاعة، فلن تشهد الدولة سوى إستبداد سلطة الأحزاب والفصائل، سواء عبر مظاهر الحرق أو الخرق!