من أين تستمد تلك الهياكل الخشبية المسماة بالاحزاب السياسية المتصدية للحكم في العراق قوتها وسر بقائها؟.
لم يعد التحدي حد كسر العظم كافيا بين المفسدين وبين الشارع. ليست ثمة هوية واضحة المعالم لذلك الشارع. كرنفالات الاحتجاجات والتظاهرات أصبحت مواسم قصيرة النفس يتفرج عليها المفسدون وهم يشاركون في حلقات الرقص الغجري، أو ضمن طقوس المناسبات الملحقة بالسلوك الديني. لا فرق كبير بين الحالتين.
في عشاء نكبتها الاخير، أكلت الموصل، أو نينوى، لجنتها التي كان من المفترض أن تدير أزمتها المتفاقمة دون أن تُوثق لحظة العشاء الموصلي الاخير تلك من قبل ناشطي المدينة أو نخبها أو وجهائها. مصالح المفسدين انتصبت بين ركام عظام الموتى الذي خلفته معارك “التحرير” وبحيرة الدم التي خلفتها كارثة العبارة، وتحت يافطة الاصلاح وإعادة البناء، عادت القوى التي راهنت على التآكل التدريجي لغضبة الموصليين الى فرض قواعدها على لعبة السلطة في المدينة. محافظ جديد تداولت الاوساط إسمه باستهجان قبل تسنمه المنصب بشهور، عقود فاسدة ومناصب ورشى مطروحة على طاولة الدسائس والبازار في أربيل التي تنظر الى المدينة بشهية ذئب جائع.
الذكرى الخامسة لاجتياح المدينة من قبل تنظيم داعش في العاشر من حزيران 2014 ليست مجرد ذكرى نكبة أو فاجعة أو هزيمة. بل هي ذكرى جرح غائر مازال شاخصا ونازفا وقد يزداد منسوب صديده ليغرق ما تبقى من آثار المدينة وتاريخها وعاداتها وناسها الموزعين على خرائط خيم النازحين وأنقاض البيوت والشوارع المهدمة بفعل التحرير الذي أحرق يابس المدينة وأخضرها. نصر بطعم الحنظل في أفواه اولئك العراة الحفاة الذين يعض أجسادهم برد الشتاء وتلسعها أسواط قيض الصيف وهم يأنون تحت السقف الوهمي للخيم المثقوبة التي أصبحت جزء من أسمال ساكنيها.
الكل يدعي وصلا بالنصر المنجز على رجال “الخليفة” المزعوم الذي سقط من سفح التاريخ ومن تلابيب الجغرافيا، دون ان يعي ذلك البعض، أو يهتم، بان ذلك يعني أيضا الوصل بخراب المدينة.
السباق المحموم على الفوز بلعب دور الذئب وسط قطعان الغنم أعاد المدينة الى مربع الفساد الأول. فساد السياسيين في المحافظة وبعض حيتان الفساد في بغداد يعبد الطريق لعودة داعش إو إحدى شقيقاته لاجتياح المحافظة والمحافظات المحيطة بها من جديد. ليس بالضرورة أن يترك بصمات أنيابه وأضلافه على أضلاع المدينة ونهرها وجسورها هذه المرة، بل قد يكتفي بلعبة التقدم والانسحاب، وحينها سيكون نشيد التضحيات مجرد حشرجة مكبوتة وسط عواء جوقة الذئاب.
ما الذي خلفه ذلك الحلف السري الدبق بين العمائم واللحى وبين الياقات البيضاء سوى تمرير خطابات الجهل والعوم في وحول الفضائح والخراب؟.
ليس سوى خواء الدولة التي أنهكها مارثون الفساد الذي يجري في جلباب الطائفية، ولم يعد يجدي نفعا ذلك الصبر “الاستراتيجي” الذي يعايشه عادل عبد المهدي وهو يرقص على قدم واحدة وسط حفلة سمر من أجل العاشر من حزيران التي تقيمها تلك الهياكل الخشبية المسماة بالاحزاب السياسية وسط رماد الفجيعة.