جاء عراق ما بعد 2003 محفوفاً بالمخاطر والتحديات منذ لحظته الأولى، فقد كان تحديه الأول يتمثل في التعاطي مع إشكالية (احتلال/تحرير) وصفاً للقوات والوجود الأجنبي الذي ساهم بشكل مباشر في إسقاط النظام السابق، وتمكين الجماعات السياسية الجديدة من تأسيس نظام سياسي آخر، الأمر الذي خلق تشويشاً عميقاً داخل الفضائيين (النخبوي والشعبي)، ومهد لمجموعة لوازم ترتبت على تبني أحد المفهومين، وأنتج على الأرض جملة مشاكل، كان الصراع المسلح بالنيابة أحد مظاهرها.
ظل الأمن العراقي ممسوساً بلعنة هذا التشويش في صعيديه الداخلي والخارجي، فكان الإرهاب في الداخل بكل صوره ومراحله، منطلقاً من مقولة مواجهة قوات الاحتلال بوصفها موقفاً عقائدياً ووطنياً (بحسب أدبياته)، ومنتهياً إلى صورته الحقيقية كعدو مباشر للشعب العراقي بكل أطيافه وجماعاته، وقاتلاً سفاحاً لا يتوانى ولا يتورع عن سفك دماء الأبرياء مهما كانت أعمارهم أو حالتهم، كما أنه طرح نفسه (محتلاً بديلاً) عبر خرافة تنظيم الدولة تجاوز مقولة لا شرعية النظام إلى ضرورة إزالة الدولة، وفي كل هذه المسارات، كان الزمن قاسياً على العراقيين، والكلفة باهظة، حيث خلف هذا الصراع ما يعادل ضحايا حرباً نظامية لعدة سنوات، واستنزف ما يكفي للإيفاء بكل متطلبات البلاد المادية، وأما على الصعيد الخارجي، فقد كان مطية مواقف قصدية (إقليمية ودولية) حاصرت التجربة العراقية الجديدة بكل ما تعني الكلمة مغلفة لموقفها العقائدي المضاد من (العراق القديم والجديد) بأغطية منسوجة من هذا التشويش ولوازمه التي اتصلت بشكل عميق بقضية الخلافات القومية والمذهبية التي طفت إلى السطح بشكل واضح عقب غياب الضاغط القسري القائم على كبتها.
يتوسط العراق في حوض جيوسياسي مشحون بصراعي (السلطة والثروة) اللذين يغذيهما آلاف المدخلات التصعيدية، والتي من أبرزها الخلاف الآيدلوجي والفكري، فضلاً عن صراع المصالح والنفوذ، وقد كانت ولا زالت هذه المنطقة بؤرة انقسام وتقاسم، يدير لعبتها العامل الخارجي مع اختلاف صوره عبر الزمن، ويساعده في ذلك حاجة الكثير من الحكام والأنظمة للاستقواء بالآخر، الأمر الذي ضاعف من هشاشة الأمن فيها، واستوجب تدابير غير تقليدية، وربط كل الأطراف (قهراً) بمصير واحد.
ومع استمرار الاهتزازات التي طالت بالتتابع الدول المؤثرة في هذا الحوض (العراق، مصر، سوريا)، وإعادة رسم جيبولتك جديد قائم على رماد ما خلفته الأحداث في تلك الدول وخصوصاً في (العراق وسوريا)، زحف صراعي (السلطة والثروة) إلى المنطقة الرخوة، بحيث صارت نقطة التقاطع لمسارات الأضداد في المنطقة (أمريكا، إيران، دول الخليج، روسيا، الصين، الاتحاد الأوربي) على الجغرافية (العراقية والسورية)، وربما يظهر وجودها في العراق بصورة أوضح للخصوصية العراقية.
إن هذا الصراع الممول بحمولته من خارج المصالح العراقية، المتصل بإشكالية الموقف من الوجود الأمريكي في العراق، والمتضايف مع إفرازات ملف مكافحة الإرهاب وخصوصاً عصابات داعش الإرهابية والجدل حول الدور الإيراني فيه، والمتغطي بمقولات فضفاضة قابلة للتوظيف المزدوج مثل (ضرورة عزل العراق وإعادته إلى محيطه العربي) لا زال يصدع الترابط الداخلي بين المكونات العراقية المتنوعة، ويخلق فجوات تنعكس في مواقف متباينة، تتجلى في أفعال وممارسات تأخذ خطاً مختلفاً عن مسار الترتيبات الحكومية الرسمية، وتفرض نفسها بديلاً عنها، تريد من الجميع (الحكومة والشعب) و (بالإكراه)، أن يتخندقوا خلف موقفها بغض النظر عن نتائجه وتداعياته، رافعة له إلى مستوى الموقف العقائدي والأخلاقي والوطني الذي لا مناص من السير فيه.
بعد أن نجح العراق في تجاوز خطر الجماعات الإرهابية كوجود عسكري ممتد بشكل علني على مساحات من الأرض، وأنجز عمليات تحرير واسعة، استطاعت أن تسقط أكبر مؤامرة تم تدبيرها له، ولا يزال يستثمر في عملية بسط الأمن مع الاعتراف باستمرار وجود داعش الفكري والسياسي، وبعض من الوجودات العسكرية المتناثرة هنا وهناك، والتي تحاول أن تثبت وجودها في عمليات جزئية، يقف اليوم أمام تحدي لا يقل خطورة عن تحدي داعش، والمتمثل في قدرته على حفظ مسافة مناسبة تضعه في المحل الآمن من دوامة التصعيد التي تشهدها المنطقة بين أمريكا ومن يقف معها وإيران ومن يدعم موقفها، وهو صراع يراد له أن يوصل المنطقة إلى نقطة الهشاشة الكاملة، بحيث يتاح للاعب الأقوى أن يعيد صياغة المشهد وفقاً لاشتراطاته، ويمثل منتوج هذا الصراع (مروحة سحب عملاقة) موجهة إلى العراق (الجغرافية والمصالح) من اجل وضعه في صف أحد طرفي الاستقطاب، مرة بلون أمريكي يقوم نفسه بالارتكاز على أساس أن هناك اتفاقية إطار استراتيجي بين العراق وأمريكا، تتيح لأمريكا توظيفها في معاركها وصراعاتها، وأن ما يقوله الأقوى يمثل الشرعية والمشروعية التي لا بد أن يصطف كل العالم حولها وإلا يكون العاصي والمتمرد عرضة للشيطنة التي تجتهد الماكنة الأمريكية ومن يقف معها على أن تجعلها صفة ثابتة لإيران، كما أن الخط الخليجي الذي يقف في مقدمة صف التصعيد مع إيران يطالب العراق بالانخراط ضمن موقفه معللاً ذلك بالمسؤولية العربية المشتركة، ومرتكزاً على معطيات حملة شيطنة إيران، المصنعة في واشنطن، والمنفذة في تل أبيب، والممولة من أكثر من يد خليجية سخية، وفي المقابل فإن هناك جهد إيراني مركز، مدعوم بموقف لبعض الأطراف الداخلية العراقية، لا يتمنى للعراق أن يكون في موقف الحياد من هذا الصراع، بل يريد له أن يكون طرفاً في الجبهة الإيرانية، مرتكزاً على مقولة الشرعية في الدفاع عن النفس، وطبيعة المخطط الذي تقوده أمريكا للمنطقة، وأن هذا التصعيد ضد إيران ما هو إلا ترجمة للعداء الإسرائيلي وبغض الأنظمة الخليجية لها، وأنها سبق وأن تحملت موقفاً مصبوغاً بدماء أبنائها في آخر معارك العراق لتحرير أرضه من عصابات داعش الإرهابية، وموقفها المساند والداعم منذ التغيير في 2003.
ثلاثة مسارات تضغط على صانع القرار العراقي باتجاه أخذه إلى منطقتها، ليكون الموقف والجهد الرسمي إلى جانب هذا المسار أو ذاك، يتمثل الأول في دفعه إلى التخندق الواضح والمعلن خلف (الحرابة الأمريكية)، وإعلان العداء على إيران بوصفها عامل تهديد للمنطقة، ومصدر إضرار بالمصالح العراقية، ويطلب هذا المسار الالتزام بالعقوبات على إيران وزيادة الحصار عليها في البعد الاقتصادي، مع وجه غليظ وعلاقات محدودة جداً في البعد السياسي، وتضييق شديد على كل من يصنف على أن له صلة أو علاقة بإيران من أهل الداخل العراقي، بينما يحاول الاتجاه المعاكس لهذا المسار، أن يأخذ العراق إلى مواقف معلنة ترفض الاعتداء الأمريكي على إيران، وتطالب برفعة العقوبات، وتدعم شرعية ما تتخذه في هذه الأزمة، كما لا بد أن يغض الطرف، بل تساند مواقف الأطراف الداخلية المسلحة التي تمثل أحد أوراق الضغط على الطرف الأمريكي، ويطالب طيف عريض يمثل الموقف الثالث، أن يكون العراق في منطقة الحياد بعيداً عن دائرة الصراع، وتوجد صور متعددة لهذا الموقف، تتدرج من صورته الحادة التي تريد من الحكومة العراقية أن تأخذ جانب الصمت التام والابتعاد الكامل عن كل ما يتصل بهذا التصعيد، ولا مصلحة من قريب أو بعيد للعراق فيما يجري، بل أن المصلحة العراقية تكمن في النأي التام بالنفس، بينما تفسر جهة ثانية الحياد من منظورها أن لا يدخل العراق ضمن دائرة التصارع المتبادل في الألفاظ والمواقف، إلا أن ذلك لا يمنع من أن يعبر عن رأيه عن الحوادث والمجريات والتصريحات بطريقة لا توحي بالانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، ويطالب اتجاه آخر أن يكون حياد العراق إيجابياً، بحيث يتدخل ساعياً لمنع تصاعد فتيلة الأزمة، ويتوسط بين الطرفين لتقريب وجهات النظر بينهما.
تبذل الحكومة بشقيها رئاسة الوزراء والجمهورية جهوداً حثيثة من خلال رحلات مكوكية إلى العديد من دول المنطقة خلال الفترة الماضية لـ (تسمع بفتح التاء وتسمع بضمها) صوت العراق وموقفه من هذا الصراع وتداعياته، وفي ذات الوقت تحاول أن تذلل من حدته من خلال السعي الإيجابي، متحملة في ذلك ضغوطاً (داخلية وخارجية)، يريد كل منها أن يدفع القرار العراقي إلى جهته، كما أن كلفة هذا المسار ليست هينة، فالمتابع يدرك حساسية الوضع الذي قبله العراق في مجموعة القمم التي دعت إليها السعودية منذ أيام، ومثل العراق فيها السيد رئيس الجمهورية، حيث أعلن تحفظ العراق على البياني الختامي للقمة لأنه لم يشارك في صياغته، ولم يرضى على أجزاء من مضمونه مع تأكيده على مؤازرة الدول في الحفاظ على أمنها وسيادتها وسلامتها، وضرورة تجنيب المنطقة تداعيات الحرب التي إذا اندلعت يمكن أن تتطور إلى حرب كونية، وقد استحضر صانع القرار في موقفه كافة الكلف (الداخلية والخارجية) التي تترتب على هذا الموقف، والتي ظهر بعضها حتى خلال الجلسة التي تم فيها إعلان البيان الختامي، وفي ذات الوقت كان الحديث الشفاف والصريح إلى وزير الخارجية الإيرانية بإن العراق لم يتخذ هذا الموقف من منطلق الانحياز إلى إيران والاصطفاف إلى جانبها في هذا الصراع، وإنما كان الموقف منطلقاً من المصالح العراقية وما تمليه ضرورات المحافظة على أمن وسلامة العراق، وفي ذات السياق تتواصل جهود السيد رئيس مجلس الوزراء في أن يضمن سلامة العراق، ويبعده عن دائرة الصراع ومخلفاته، ويتحدث إلى كل الأطراف، أن العراق لم ولن يمكن أي جهة من الجهات المتصارعة أن تكون أرضه وحدوده منطلقاً لعدوان من هذا الطرف أو ذاك، كما أنه ملتزم بضبط إيقاع تصرفات جميع القوى والأطراف المحلية بالشكل الذي يجعل فعلها خاضعاً ومحكوماً بإرادة الدولة وتوجهاتها.
يفرض هذا الاستحقاق المهم، والتحدي الخطير، الذي لا يقل أثره عن أثر الإرهاب، على جميع القوى السياسية وسائر الجمهور، أن يقوم كل منهم بمسؤوليته تجاه أمن وسلامة البلاد، وأول موجباته أن يضبط الجميع تصرفاتهم وسلوكهم ومواقفهم تجاه الأزمة الجارية بطريقة لا تخرج عن رؤية الدولة وموقفها، كما أن على الجميع ممن يملك صلات إيجابية لها تأثير مهم عند ومع أطراف الأزمة أن يسخروا هذه الإمكانات إلى جانب جهود الحكومة في وضع العراق ضمن المنطقة الآمنة، ويحولوا خصوصيته الجغرافية والجيوستراتيجية إلى فرصة إيجابية يمكن أن تمثل حاجز عزل يخفف من مناطق الاحتكاك، ويعيد صياغة المقاربات المقدمة لأمن المنطقة والتي تبنى لدى كلا طرفي الصراع على أساس فكرة التفرد والهيمنة إلى نموذج جديد من الأمن التشاركي المبني على تشاطر المسؤوليات واحترام الخصوصيات، والتفكير بصوت عال بين الأضداد عن المخاوف والتوقعات.
ختاماً لا بد من التأكيد على أن الحديث عن أمن وسلامة العراق من هذا الصراع مطلوبة على كافة الاحتمالات سواء كان هذا الصراع متوجه بجد إلى الحرب والمواجهة العسكرية (وهو الاحتمال المستبعد جداً)، أو بقي الصراع في حدود لعبة شد الحبل والشحن التصعيدي، فعلى هذا المستوى تبقى المنطقة بيئة غير آمنة، وغير مساعدة على أي مشاريع للتنمية والإصلاح، فضلاً عن التداعيات المتصلة بحالة التوتر، والتي يستطيع أكثر من طرف أن يستثمر فيها بمصالح تضاد (كلها) المصالح الوطنية العراقية العليا.