البداية أريدها من منطقة أعتز بانتمائي إليها، لاحتفاظها بتراث تاريخها لغة وعادات وحضارة، واحتوائها رغم صغر حجمها جغرافيا لمئات من العلماء والمفكرين والشعراء والرسامين والمغنيين والموسيقيين.. طالتها يد النظام تشويها وتجريحا لنضالها المستميت ضد المحتل، وانفتاحها على العصرومستوى وعيها السياسي، ومعارضتها لكلّ استبداد وظلم صادر من أيّ جهة كانت، من الرئيس أو الوزير أو الوالي أو رئيس البلدية.
إنها منطقة القبائل بالجزائر التي تضم ولايتي تيزي وزو وبجاية، وأطرافا من ولايات بومرداس والبويرة وبرج بوعراريج وسطيف، تتكلم اللغة القبائلية، وتسكن المرتفعات من الجبال، العمل ديدنها والصدق شيمتها، والعزة بالنفس شعارها “أنرز ولا نكنو” بالأمازيغية تعني نقبل الانكسار ولا نقبل المذلة.
أطلق النظام طابوره الخامس وأذنابه من الصحفيين والكتاب على هذه المنطقة المجاهدة إبان الاحتلال الفرنسي، والمخلصة لبناء وطن متقدم ومزدهر بعد دحر المحتل وإعلان الاستقلال، فراح يزيف نضالها ويقزم دورها في كلّ شيء ويتهمها بالعمالة لفرنسا تارة وللصهيونية تارة أخرى..
هذه المنطقة التي أنجبت خيرة العلماء الجزائريين أمثال الفضيل الورتلاني، ومحمد أركون يدفن بالمغرب لأسباب سياسية، ومحمد الطاهر أيت علجت، ومحمد شريف قاهر.. ومن المجاهدين عبان رمضان يغتال بالمغرب، وكريم بلقاسم يغتال بألمانيا، وعميروش يغتال مع زميله ورفيق دربه في الجهاد والكفاح سي الحواس ببوسعادة، وأيت أحمد يعيش بالمنفى الإرادي.. ومن الأدباء مولود معمري، ومولود فرعون يغتال من طرف فرنسا قبيل الاستقلال، ومحمد الطاهر صديق،الطاهر جاووت يغتاله الإرهاب.. ومن الرسامين والموسيقيين أذكر إقربوشن ومحمد اسياخم.. هذه المنطقة المباركة توضع بعد الاستقلال في عين الإعصار، وموطن سهام النظام المسمومة، ويحوّلها كما يشاء إلى: منطقة تعادي العربية وتعادي الإسلام، موالية لفرنسا، سكانها من الحركى، يغلب عليهم الطابع الجهوي،أحرقوا العلم الوطني والقرآن الكريم…
هذا النظام الذي أوصل البلاد والعباد إلى الهاوية، وزرع فيهم الجهوية والنزعة الطائفية، وسلب من أموال الشعب الملايير من الدولارات، وأدخل البلاد في متاهات الإرهاب التي لا ينتهي مسلسلها، ما زال يعزف على نفس الآلة الموسيقية على كلّ من يعارضه أو يقف دون تحقيق جشعه في النهب والفساد. بعد خمسين سنة من الحكم بالقوة، تحتل الجزائر المراتب الأخيرة في الاقتصاد والصناعة والتجارة والمراتب الأولى في النهب والفساد والإجرام..
نفس السيناريو الذي قام به النظام ضد منطقة القبائل، أعيد تكراره على الجبهة الإسلامية للإنقاذ الفائزة بالانتخابات البرلمانية سنة 1992، فسوّد جبهتها وأدخلها زنزانة المغضوب عليهم.
في مصر، تقوم الآلة الإعلامية بتشويه وتقزيم كلّ من عارض النظام بعد الانقلاب المشؤوم على الإرادة الشعبية، من الإخوان المسلمين وزبدة مفكريهم أمثال، يوسف القرضاوي وصفوت حجازي.. ولم تتوقف آلة التسويد والتجريح عند هؤلاء بل امتدت إلى كلّ معارض نزيه مؤمن بأفكاره أمثال، محمد البرادعي، واللاعب أبو تريكة، ومن قبل بسنوات سعد الدين الشاذليرئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في الفترة ما بين1971و1973..
النظام لا يؤمن بالمعارضة أوالرأي والرأي الآخر، كلّ ما يؤمن به هي تلك المسيرات الشعبية التي تمجده وتضعه في مصاف الآلهة، “لا أريكم إلا ما أرى”. وكلّ تجاوز للخط الأحمر تتم عملية تصفيته أو نفيه أو تشويهه.
هل بقي شريف عربي لم تطله هذه السهام المسمومة؟ فالعربي الشريف إما مغلوب على أمره، أو معزول بين أهله وذويه، أو مسجون في أرضه وأرض آبائه، أو منفي يجوب أقطار العالم بحثا عن الحرية والعيش الرغيد،فمتى تتوقف هذه الآلة الجهنمية عن العمل ضد الشرفاء والمخلصين لهذا الوطن الجريح؟ الربيع العربي كفيل بالإجابة عن هذا السؤال.