(العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث)، إستند المتكلمون (علماء العقيدة) على هذا الدليل ويسمونه دليل التغيّر لأثبات وجود الله، وإلقاء الكلام على عواهنه ليس أكثر من ترف فكري، فهم يرردونه لقرون ولا يعلمون هل حقاً يتغيّر الكون أوهو ثابت؟ وهل هو أزلي أو حادث؟ فضلاً عن مستقبله. الفيزياء وحدها هي من أثبتت ذلك، بعد مخاض صعب ساهم فيه أبرز علماء الفيزياء، وحولوه إلى قوانين فيزيائية وأرصاد فلكية، بعد أن كان سفسطة مموهة لأسكات الخصم وإفحامه، وحتى سقوط تفاحة نيوتن، كان العالم يظن أن الأرض تقع في مركز الكون، وسقوط الأجسام على الأرض يفسرونها على وفق مبدأ أرسطو القائل أن جميع الأجسام تمتلك مكاناً طبيعياً في الكون وتتجه نحوه، وعليه فالأجسام الصلبة تتجه إلى الأسفل في حين أن المواد الغازية تتجه نحو السماء نحو الأفق الروحي.. وذكر الفيلسوف إيمانويل كانت في كتابه ( نقد العقل المجرد): تساوي الحجج القائلة بأن الكون له بداية وبنقيضها القائلة بأنه وجد منذ الأزل.
وفي عام 1692 بعد خمس سنوات على إكتشافه للجاذبية تلقى نيوتن رسالة من القس ريتشارد بنتلي، أشار فيها إلى أنه لو كانت قوة الجاذبية تجذب فقط ولا ترد فمعنى هذا أن النجوم سوف تتداعى على نفسها وينهار الكون على نفسه بأكمله، كانت الرسالة مربكة لنيوتن وأجاب عليها بعد التفكر في السؤال المقلق: إن الكون يتكون من مجموعة متماثلة ولا نهائية من النجوم وكل نجم ينجذب بنفس القدر من القوة في جميع الأتجاهات؛ مما يعني أن الكون ثابت!
ولكن هذا الأفتراض أثار مشكلة أكبر، وهي لماذا تكون السماء سوداء في الليل؟ فلو كان الكون فعلاً ثابتاً ومتسقاً فلا بد أن نرى السماء ملأى بعدد لانهائي من النجوم تضرب أضوائها أعيننا من جميع الأتجاهات، وتكون السماء في الليل بيضاء وليس سوداء.
وبعد ما يربو على قرنين من الزمن واجه إنشتاين ذات المسألة وإن كانت في صورة إخرى، فحتى عام 1915 كان الناس يظنون أن الكون بسيط مكون من مجرة واحدة تدعى درب التبانة، والأضواء المبعثرة في السماء ليلاً ما هي إلا مليارات النجوم، وبعدما انتهى إنشتاين من إشتقاق معادلة الجاذبية في النسبية العامة، وجد الكون وفقاً لأفتراضه الرياضي متحرك يتمدد أو ينكمش، ووجد نفسه غارقاً بذات الأسئلة الكونية التي حيرت العلماء والفلاسفة لعصور مديدة، ورغم نزعة إنشتاين الثورية لم يكن مستعد للتخلي عن صورة الكون السرمدي الثابت ولم يجد في نفسه الجرأة ليتقبل حقيقة أن الكون آخذ بالتمدد، فأضاف إلى معادلته عاملاً يسمى ( الثابت الكوني) إفترض فيه وجود قوة طاردة مضادة للجاذبية تخلق نوعاً من أنواع التوازن.
وإذا كنا نلتمس العذر لنيوتن في حله الملتوي، فأن إنشتاين غير معذور بسبب المبدأ الرياضي الذي يحكم النسبية العامة والذي فرضه هو بنفسه، وكذلك في وقته كان القانون الثاني في الديناميكيا الحرارية مكتشف من قبل كلفن وكلاوزيوس عام 1850 والذي ينص: (أي تغير يحدث تلقائيا في نظام فيزيائي لا بد وأن يصحبه ازدياد في مقدار إنتروبيته)، مما يعني أن الكون سوف يصل في يوم ما إلى حالة التوازان الحراري أو ما يسمى بالموت الحراري ولا يمكن استخراج أي عمل منه حيث يصبح الكون بارد جداً قريباً من الصفر المطلق مما يعني أن للكون نهاية ( سسناقش هذا الموضوع بصورة تفصلية في مقال آخر حول مستقبل الكون)، ولكنه إنشتاين أيقونة النجاح وحتى أخطائه انجازات عليمة، فبعد ثمانين عاماً وجود أن هذا الثابت الكوني يؤكد أن الفراغ يحوي طاقة، وصار هذا العامل المضاد للجاذبية يسمى اليوم ( الطاقة المظلمة) وهي الطاقة الموجودة في العدم والقادرة على دفع المجرات بعيداً عن بعضها البعض، ولكن في وقتها حدد إنشتاين قيمة الثابت الكوني بدقة بحيث يعادل الأنكماش الناتج عن الجاذبية بالضبط مما يجعل الكون ساكنا.
غير أن المسألة إزدادت تعقيداً خلال السنوات القليلة التي تلت ذلك، فقد أكدا كل من العالم الروسي ألكسندر فريدمان 1922 و القس البلجيكي جورج لوميتر 1927 من خلال حل لمعادلات إنشتاين في النسبية العامة أن الكون يتمدد، وقد بدت الفكرة غريبة انذاك، حتى أن اينشتاين احتج على لوميتر وقد احمر وجهه بتصريح مفاده: (معادلاتك الرياضية صحيحة، لكن فيزياءك فظيعة).
وفي عام 1929 حسم النزاع إدوين هابل في مرصده الفلكي على جبل ويلسون، فقد هدم فكرة وجود مجرة واحدة في الكون بعد أن رصد مجرات إخرى بعيدة عن مجرة درب التبانة بملايين السنين الضوئية وكانت المجرات المكتشفة في حينها من قبل هابل فقط تسع مجرات ولكنه رأى أن الكون يتالف من مليارات المجرات، تحتوي كل مجرة على مليارات النجوم، وتوصل إلى أن الكون آخذ بالتوسع بسرعة خارقة من خلال ملاحظته أن الضوء القادم من النجوم والمجرات ينزاح نحو الأحمر وكلما زادت سرعة المجرة في تقهقرها عن الأرض كانت أبعد والعكس صحيح وهو ما يعرف اليوم بقانون هابل، وفي عام 1930 ذهب آنشتاين إلى المرصد الفلكي على جبل ويلسون حيث إلتقى لأول مرة مع هابل، وعندما شرح هابل لآنشتاين النتائج التي حصل عليها وكيف حلل سرعات المجرات عن طريق إنزياح الضوء القادم من النجوم نحو الأحمر، بقي آنشتاين اسبوعاً كاملاً في المرصد الفلكي ليتأكد بنفسه من النتائج، بعدها أقر آنشتاين بأن الثابت الكوني أكبر الأخطاء التي ارتكبها في حياته وبأن الكون يتمدد بالفعل، حينها تفاخر الفلكيون بتلسكوبهم الضخم الذي يبلغ قطره 2.54 متر والذي كان يعد أكبر تلسكوب في العالم آنذاك، والتقطت الصور مع آنشتاين أمام التلسكوب، وقدم آنشتاين شكره لهابل شخصيًا وألغى الثابت الكوني من معادلاته.
وفي نفس العام اقترح لوميتر بان كوننا المتمدد قد بدأ من نقطة متناهية في الصغر اطلق عليها الذرة الاولية، وهي المسماة فيما بعد بالمُتفردّه والتي من خلالها بدأ الانفجار العظيم، ثم اخذ بالتوسع او التضخم كما يفسره قانون هابل،وفي وقتها بدت الفكرة غير معقولة، حتى أن عالم الفلك البريطاني فريد هويل أطلق عليها ساخراً من لوميتر في مقابلة على BBC نظرية الأنفجار العظيم Big Bang Theory ، وعرفت بهذا الأسم من تلك الساعة، علما أن فريد هويل إعتذر عن ذلك فيما بعد.
وفي عام 1998 أكتشف العلماء أن الكون يتمدد بتسارع وبشكل مضطرد وليس على نحو متباطئ كما كان متوقعاً، من خلال مراقبتهم نوعا معينا من السوبرنوفا، إن مثل هذا التسارع لايمكن أن يحصل ما لم تتوفر في الكون طاقة من نوع ما تُكسب المجرات هذه السرع العالية وتجعلها تنفر عن بعضها البعض، هنا ابتدع علماء الكون (الكوزمولوجيون) مصطلحا جديدا هو (الطاقة المظلمة Energy Dark)،هذه الطاقة الإفتراضية التي لم تعرف ماهيتها على وجه الدقة، يفترض الكوزمولوجيين أنها تملأ الكون في كل جنباته وهي التي تدفع بالمجرات في هروبها المتسارع عن بعضها، وبموجب تقديرات تحليل الخلفية الكونية المايكروية فإن حالة الكون حاليا يمكن وصفها بمادة عادية (تسمى باريونية) تشكل بحدود 4.6% وهي المرئية و23% مادة مظلمة و72% طاقة مظلمة، وعاد العلماء إلى الثابت الكوني الذي حذفه آنشتاين وأعادوه مرة ثانية إلى معادلة الجاذبية في النسبية العامة، وهذه المرة أصبح يمثل الطاقة المظلمة.