خاص: إعداد سماح عادل
“صالح عبد الحي” مطرب مصري ينتمي للغناء الشرقي الأصيل.
حياته..
هو “صالح عبد الجواد خليل” تتضارب المعلومات حول تاريخ ولادته فمنهم من يرجعها إلى عام 1889 ومنهم من يقول أنها كانت في عام 1896.
نسب نفسه لخاله المطرب الكبير “عبد الحي حلمي”، ولد بالقاهرة، ونشأ محبا للغناء، مولعا بفنون الطرب، فعمل مذهبجيا يردد وراء خاله، ويحفظ ما ينشده من قصائد وأدوار وموشحات ومواويل، قبل أن يصقل موهبته من خلال العمل مع فِرَق القانونجيين الشهيرين “محمّد عمر” و”علي الرّشيدي”، والتتلمذ على يد الموسيقي الكبير الشيخ “درويش الحريري”.
بدأ رحلته الفنية عمليا عام 1914، أي بعد وفاة خاله “عبد الحي حلمي” بعامين، وبلغ ذروة المجد في حقبة العشرينيات، حيث كان مطرب مصر الأول بلا منازع، وصاحب الأجر الأكبر بين المطربين جميعا، حيث كان يتقاضى 300 جنيه في الليلة الغنائية، وحين غنى في حضرة الزعيم “سعد زغلول” تقاضى منه مبلغ 100 جنيه ذهب، كان يعيش كالملوك، وينفق ببزخ على ملذاته، ويركب عربة تجرها الخيول، يذهب بها إلى المحافل التي يحضرها علية القوم، والآلاف من محبي صوته القوي الصداح، وأدائه المتميز الفريد.
امتاز بعذوبة الصوت وحلاوة النغمة وامتداد النفس وشدة الحرص على تقاليد الغناء الشرقي الأصيل ويمثل “صالح عبد الحي” الصلة الأخيرة بين عهدين منفصلين من عهود النهضة الفنية، وهما عهد “عبده الحامولي” و”محمد عثمان” و”عهد أم كلثوم” و”عبد الوهاب” و”رياض السنباطي” الذي لحن له باقة من أجمل أغانيه.
شغف “صالح عبد الحي” بالاستماع للموشحات من تلك الفئة التي كان يطلق عليها لفظ “الصهبجية”، وهم صحبة كانت تحيي الحفلات الساهرة حتى مطلع الفجر. وكان كل منهم له صنعته في الصباح، فمن أسمائهم يبين أنهم هواة، لهم حرفتهم البعيدة عن الفن أصلا. نجوم مدرسة الصهبجية : (البوشي البولاقي- الحريري- المكوجي-الطراربشي- الحلواني- كريم الخياط- محمود الخضري)
تعلم “صالح عبد الحي” موازي الإيقاعات “الضروبات” وهي من أهم أسس الفن الموسيقي، وذلك من الحاج “راشد” و”الحاج خليل” و”عزوز الصهبجي”، ومن الطريف أن “الصهبجية” كانت تغني كلاما غير موزون في الغالب، ولكنها كانت تتحايل على وزن الضروب في اللحن ببعض الآهات، فكانت بذلك تمهد لأداء الموشحات ذات الصيغة الصحيحة السليمة.
حين تتلمذ “صالح عبد الحي على يد “محمد عمر” عازف القانون الكبير في تخت “يوسف المنيلاوي” وتخت “عبد الحي حلمي”، خال “صالح عبد الحي”. بدأ “عبد الحي” عمله الفني الجاد بغناء الموال، وبرع فيه، حتى سيطر على هذا اللون بالوسط الفني، واجتذب صوته الصادح الرنان جماهير المعجبين، وانتزع الصدارة من منافسيه أمثال: “زكي مراد” والد “ليلى مراد” و”منير مراد”، والشيخ “السيد الصفتي” و”محمد سالم العجوز” و”عبد اللطيف البنا”، ثم زاول “صالح عبد الحي” جميع أنواع القوالب الموسيقية الغنائية وتفوق على زملائه وأصبح نجم عصره.
كان “صالح عبد الحي” قويا، وحلو الصوت، فظل الفارس الفرد في الغناء التقليدي حي قبل رحيله في أوائل الستينات، وكان يغني يدون مكبر للصوت في الأماكن المفتوحة أو المغلقة، والسرادقات، حتى إذا ما ظهرت الإذاعات الأهلية، وبعدها إذاعة الدولة، فكانت فرحة كبيرة لمحبي فن صالح لكي يستمعوا إلى غنائه الذي لا يبارى، وظل هو الحارس الأمين لألحان “عبد الرحيم المسلوب” و”عبده الحامولي” و”محمد عثمان” و”أبو العلا محمد” وغيرهم من أساطين التلحين والغناء.
ساهم “صالح عبد الحي” أيضا في مجال المسرح الغنائي، فعندما اختلفت “منيرة المهدية” مع “محمد عبد الوهاب” عام 1927 أثناء تقديمها للمسرحية الغنائية “كليوبترا ومارك أنطوان”، دعت “منيرة” “صالح عبد الحي” لكي يقوم بدور “انطونيو”.
وبعد هذه التجربة، ألف فرقة مسرحية غنائية باسمه عام 1929، ولحن له “زكريا أحمد” و”محمد القصبجي”، ولكن كان المسرح الغنائي قد أفل نجمه. وبدت الأزمة الاقتصادية العالمية تؤثر على الاقتصاد المصري، فتدهور المسرح الغنائي وحلت فرقة “صالح عبد الحي” المسرحية.
غنى “صالح عبد الحي” ألحان الملحنين القدامى والمحدثين الذين حافظوا على روح الغناء المصري الأصيل مثل: (محمد القصبجي- مصطفى رضا بك- أحمد عبد القادر- أحمد صدقي- مرسي الحريري- محمد قاسم).
لم يتزوج “صالح عبد الحي” وبالتالي لم ينجب، وعاش حياته طولا وعرضا للغناء ولنفسه حاملا راية الغناء المصري قديمه وحديثه، حافظا على التراث العربي الأصيل. فيعتبر “صالح عبد الحي”، من أعلام الغناء الشرقي الأصيل، وظل مستحوذا على عرش الغناء في حقبتي الثلاثينيات والأربعينيات، ظل يغني لمدة خمسين عامًا متصلة، ولم يوقفه عن الغناء سوى المرض حتى أن روسيا دعته ليعالج في إحدى مستشفياتها، وقامت بإرسال طائرة خاصة لتحمله إلى موسكو.
وكان “صالح عبد الحي”، أغلى مطرب في عصره حيث كان يتقاضى 3 آلاف جنيه ذهبا عن الحفلة الواحدة أي بمثابة ألف جنيه يوميا. وفي نهاية أيامه لحق “صالح عبد الحي” بالتليفزيون المصري فسجل له بالصوت، والصورة أشهر أغانيه.
وعن سؤاله في أحد اللقاءات معه قبل وفاته عن تلخيص حياته في كلمتين فكان جوابه: “الطعمية والذهب حيث إنني في بداية حياتي كنت أعشق أكل الطعمية، وكنت أتمنى أن أكون ثريا، وأن امتلك الأموال والذهب حتى وصلت إليها في عز تألقي، وشهرتي ثم عدت مرة أخرى إلى أكل الطعمية”.
يقول “محب جميل” صاحب كتاب “صالح عبد الحي.. فارس الطرب”: “طالما كنت أحزن عندما أرى الرجل وهو يتحول في بعض الأفلام السينمائية إلى مادة للتندر والفكاهة، صالح عبد الحي كان مطربا استثنائيا في الإذاعة المصرية وواحداً من الذين أسهموا بصوتهم في انطلاقها منذ يومها الأول إلى جوار أصوات الشيخ محمد رفعت والسيدة أم كلثوم والموسيقي سامي الشوا والموسيقار محمد عبد الوهاب، كما لعب صالح دورا بالغ الأهمية في الحفاظ على إرث غنائي ضخم لمدرسة النهضة التي انطلقت في النصف الثاني من القرن الـ19 على يد مطربين كبار أمثال: عبده الحامولي، محمد عثمان، يوسف المنيلاوي، محمد سالم العجوز، عبد الحي حلمي، وسلامة حجازي وآخرين”.
وعن تحديات رحلة بحثه عن “صالح عبد الحي” يقول “محب جميل”ً: “كانت مشكلتي الأساسية أن معظمنا تقريبا يعرف صالح عبد الحي اسما لكن تفاصيل حياته غير معلومة بشكل تفصيلي، ولاحظت أيضا أن أغلب المعلومات عنه مكررة وليس بها أي جديد، فكان عليّ أن أبدأ من نقطة الصفر وأبحث عن مراحل حياته المختلفة بشكل أكثر توسعا، فنحن نستمتع طول الوقت إلى تسجيلاته المتوفرة على الشبكة العنكبوتية لكن السؤال: ماذا عن طفولته؟ كيف كانت نشأته؟ كيف كان تأثير خاله المطرب القدير عبد الحي حلمي في حياته؟ كيف دخل إلى دنيا الطرب؟ كيف عاش بعيدا عن عالم الأضواء والشهرة؟ وكل هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات تفصيلية بلا شك. كان لا بد من العودة إلى الدوريات الفنية والاجتماعية المصرية منذ أن بدأ العمل في 1914 حتى رحيله في 1962. إن من أبرز ما لفت نظري بشكل شخصي وبحثي في سيرة صالح عبد الحي هي الحياة التي عاشها وحيدا متنقلا بين السهرات والأفراح التي يحييها، وهذا الذكاء الفطري الذي امتلكه ومكنه من أن يدرك أدق التفاصيل في عالم الطرب والغناء. رغم الطفولة القاسية التي عاشها، لكنه نجح في أن يكمل طريقته ويتجاوز كل العقبات، وسعدت جدا خلال بحثي عنه في الوصول إلى حلقات مذكراته النادرة التي نشرتها إحدى المجلات، والأمر الغريب هنا أن المجلة لم تكن فنية بالأساس لكنها اجتماعية شاملة وهي (صباح الخير)، فتلك الحلقات هي بمثابة وثيقة شديدة الأهمية ليست لكونها تسرد حياة صالح عبد الحي الفنية والشخصية بل ترسم لنا صورة شاملة حول طبيعة الحياة الاجتماعية والفنية في مصر منذ الحرب العالمية الأولى حتى بداية الخمسينيات”.
عقب رحيل “صالح عبد الحي” بأيام، كتب عنه الأديب الكبير “عباس محمود العقاد” مقالا قال: “كان هو الصلة الأخيرة بين عهدين منفصلين من عهود النهضة المجددة في فنون الغناء والموسيقى والتلحين، وهما: عهد عبده الحامولي ومحمد عثمان، وعهد أم كلثوم وعبد الوهاب… كان صوته كالماء العذب النقي يأخذ من كل إناء لونه كما يأخذ من كل إناء شكله، واستطاع بهذا الصوت الغني «المثالي» أن يحاكي عبده، والمنيلاوي، وعبد الحي حلمي، وسلامة حجازي، ومحمد السبع وإخوانهم وزملاءهم أبناء المدرسة السابقة، فلم يَقصُر عن واحد منهم بحلاوة النغمة، وامتداد النفس، وطمأنينة «المعلم» المرتاح في جلسته وإشارته، ولا أذكر أنني رأيت مغنيًا قط يستوي على «التخت» مثل استوائه، ويمتزج بأعضاء التخت الآخرين مثل امتزاجه”.
وفاته..
وبعد رحلة الشهرة والمجد التي وصل إليه “صالح عبد الحي”، جلس وحيدًا في منزله بحدائق القبة مصابا بالروماتيزم، وتصلب الشرايين لا يقوى على الحركة، ورحل “صالح عبد الحي” عام 1962.