يعتقد البعض أن استخدام مصطلح “الدولة العميقة” لا يقل تأثيرا عن حجم مؤامرة تحاك للنيل من الحكومات المستقرة وإدانة الموروث الوطني، لكن في حقيقة الأمر، تتشكل عناصر “الدولة العميقة”، من حيث المبدأ، في الدول التي تقوم بعسكرة الحكومة وتمنع عمل التنظيمات السياسية الحرة، وتجري فيها انتخابات شكلية واستعراضية بطرق غير نزيهة، تستخدمها الأنظمة التوتاليتارية كبدعة في محاولتها تضليل الناس وخداع الرأي العام.
ويعاد بناء “الدولة العميقة”، في أعقاب انهيار النظم السياسية وبالاعتماد على الفاعل الخارجي، أحيانا بتراتبية مغايرة، من أسفل إلى أعلى، أو من القاعدة إلى القمة، في محاولة للحفاظ على هيكلية الدولة العميقة وتوطيد أركانها وتحديد معايير عملها والمحافظة على المسارات المرسومة لها. وهي في حقيقتها، دولة داخل دولة، سواء في نظام عملها أم في مشاركتها في رسم السياسات والقرارات المهمة.
يعود تاريخ “الدولة العميقة” في العراق، إلى حقبة الانتداب البريطاني، حينما شكلت قواته المتواجدة هناك عام 1918 ما سمي بـ “الإدارة المدنية البريطانية” في العراق، وكانت بمثابة دولة ظل موازية للدولة الرسمية. وبعد أن استولى “حزب البعث العربي الاشتراكي” على مقاليد الحكم (1968 – 2003)، أقام دولة قمعية تألفت من المؤسسات العسكرية والمخابراتية والرئاسية، سارت بنهج الحزب وبحكم إرادته، من حيث الشكل والطبيعة وقوام الدولة، ثم تحولت الى قيادة فردية لشخص صدام حسين والحلقة الصغيرة المقربة منه.
بعد العام 2003، سعت أحزاب الإسلام السياسي، إلى تشكيل “دولة عميقة” في الظل (دولة موازية) ومنظومة متكاملة من شبكات المصالح، تمثلها قوى خفية متسلحة بالنفوذ السياسي والمالي ولديها ميليشياتها وإعلامها، شعارها: السلطة والثروة والنفوذ، قامت بتوظيف الفئات الرثة في المجتمع لديها علاقات ومصالح مشتركة مع دول الجوار، واعتمدت البيروقراطية الإدارية والفساد المنظم للاستحواذ على الموارد المالية وتعزيز مشاركتها في رسم سياسة الدولة، وفق مبتغاها.
تجذرت هذه الأحزاب في مفاصل الدولة المختلفة وأجهزتها، وسيطرت على وسائل الإعلام، كقوة إضافية لتعزيز مواقعها ومواقفها على السواء، وفرضت أجنداتها وفق مرامها ونهجها وأهدافها. وهي التي تتحكم اليوم بالموارد المالية والبشرية، وتعتمد على شبكات الفساد المعشعشة في قلب الدولة ومؤسساتها، التشريعية والقضائية، التي تم إنشاؤها أو السيطرة عليها والتغلغل فيها من خلال استخدام الموارد الطفيلية وغير القانونية، وهي تمتلك سلطة مدججة بالمال والسلاح، تستخدمها من أجل بسط نفوذها لقمع المعارضين والحفاظ على النظام العام.
إن وجود أذرع “الدولة العميقة”، التي تشكل شبكة معقدة من العلاقات والمصالح داخل كيان الدولة العراقية، أدى الى فشل الحكومات السابقة في تنفيذ وعودها التي قطعتها للشعب، في إصلاح النظام السياسي والإداري والتنمية الاقتصادية المستدامة، وتغليب الهوية الوطنية وقبر المحاصصة الطائفية، ومحاربة الجريمة المنظمة، والنهوض بالخدمات وإصلاح البنية التحتية وتوفير الخدمات والسكن. وما تزال الحكومة الحالية تراوح في مكانها، في ما يخص تحسين الظروف المعيشية للناس ومكافحة الفساد والقضاء على البطالة.
من الصعوبة بمكان تحجيم تأثير عوامل “الدولة العميقة” أو الحد من دورها في جسد الدولة الهشة والفاشلة، وهي دولة الظل التي تزداد فيها القوى المؤثرة في عملية صنع القرار، وتتوزع بين القادة السياسيين ورجال الدين، إضافة إلى عناصر إقليمية ودولية لها الكلمة الفصل والتأثير الفاعل.
الكثير من المسؤولين والشخصيات النافذة في المشهد السياسي العراقي، يتحدثون عن “الدولة العميقة” ويعترفون بوجودها، ففي تصريح أدلى به القيادي في “تحالف الإصلاح والإعمار” أحمد المساري إلى عدد من القنوات الفضائية يوم 15 نيسان (إبريل) 2019، قال: “إن الدولة العميقة تدير الدولة، والبرلمان جزء منها، كما تقود القرار الحكومي مراعاة لمصالحها… وتوزع اللجان البرلمانية على أساس المساومات والعروض”. وفي السياق، اعترف القيادي في “حزب الدعوة الإسلامية” ووزير التعليم العالي السابق علي الأديب، في لقاء تلفزيوني على قناة “الاتجاه الفضائية” بأن “محاربة الفساد قد تؤدي إلى انهيار العملية السياسية في العراق وسقوط رموزها”. وقال: “هناك خشية من أن مكافحة الفساد قد تعني إلقاء القبض على قمم سياسية”، لافتاً إلى أن “التأني في محاربة الفساد مرده الخشية من انهيار كل شيء في البلد”. وزاد: “إن الذي لديه رصيد في هذه الحكومة، لن يفرط بها.”
وقال الرئيس العراقي برهم صالح، في “ملتقى السليمانية السادس” الذي عقد في “الجامعة الأميركية” في 6 آذار (مارس) الماضي إن “الفساد في العراق تحول الى ما يشبه الدولة العميقة، ولا يمكن القضاء عليه بالشعارات، وإنما بالإجراءات المؤسساتية.”
إن “الدولة العميقة” تقود العراق الى المجهول، وتتلاعب أياديها الخفية والقوى التي تتبناها بمصيره، وتتآمر على مستقبل شعبه. بينما تعمل الفيالق الموازية والتابعة لها، للسيطرة على مرافق الدولة وشل مؤسساتها الشرعية والحد من الحراك الشعبي، ونشاط منظمات المجتمع المدني، وامتصاص نقمة الشارع. ترسخت عناصر “الدولة العميقة” داخل الحكومة ومؤسسات الدولة العراقية، وبقي النظام “الديموقراطي” عائماً لا حول له ولا قوة.
“الحياة”