26 نوفمبر، 2024 1:52 م
Search
Close this search box.

الإسلام .. بين محنة جهاد المناكحة وبين جهاد “يارا” ..

الإسلام .. بين محنة جهاد المناكحة وبين جهاد “يارا” ..

كثيرة هي النساء اللّاتي قامت على أكتافهنّ الحياة بشكلها الإنساني قديما وحديثُا .. والنشاط الأنثوي في إثراء الحياة “لا استنساخها” هو جهاد بحدّ ذاته بعرف جميع القوانين الوضعيّة وعرف جميع  قوانين الوحي ..

وقد روى لنا التاريخ نساء مجاهدات من معادن الرجال .. في القتال في الفكر في العلوم .. اسماء لا تحصى بسهولة .. منهنّ عربيّات .. أمّ عمرو زينب البغداديّة صفيّة العزفيّة .. الخنساء .. الخ .. ذلك في عصور الانفتاح العقلي عندما كانت المرأة تقود الرجال وتلقي عليهم الخطب .. “عائشة” مثلاً .. أو تقود الدول .. سمير اميس بلقيس زنوبيا .. ومنهنّ شهيدات .. أمّ حرام أو شهيدة البحر ..

ولئن كان دور المرأة في الإسلام في عصور الازدهار كان تحدّ من انتشاره مخافة أن يصل بموازاة الرجل الفهم الخاطئ والمتعسّف لموقف القرآن من المرآة من قبل الفقهاء والمحدّثون المسلمون ممّا حدّ الكثير من طاقات المرأة ونشاطاتها الحيويّة المكبوتة رغم الفرصة العظيمة الّتي وفّرها لها القرآن الكريم لمساواتها التامّة بالرجل من دون أدنى تمييز أو تحريف في نصوصه فإنّ دور المرآة الغربيّة اليوم يوزاي دور الرجل ويتفوّق عليه احياناً ويعد , بحسب وجهة نظر الرعيل الاسلاميّ الأوّل بكلّ تأكيد , التطبيق الصحيح لمنهج المساواة في القرآن .. حتّى عندنا في العراق قبل الاحتلال الأميركي للبلد فإنّ التفوّق العلمي في التحصيل “للمعدّلات” للفتيات كانت في غالبيّتها أعلى من معدّلات الفتيان في جميع المراحل الدراسيّة حتّى الجامعيّة وكذلك في سوريا وفي بقيّة البلدان “الدكتاتوريّة” الغير مؤمنة بالخلافة الإسلاميّة ولا بولاية الفقيه والّتي كانت المرآة تتنفّس منها هواء الحرّيّة والانتظام المعرفي أسوة بالبلدان الغربيّة المتفوّقة مثل الجزائر ومصر ولبنان وتونس أو حتّى ليبيا في بعض النواحي قبل أن تجرف هذه البلدان رياح الربيع بشكله السرياليّ الدادائيّ أو “الديندائي” ! أو لنقل الإسلام بشكله الشيزوفرينيّ الساديّ الماضويّ المجتزئ ..

الإسلام اليوم يمرّ بأصعب وأقسى وأشدّ ظروف التمثيل الهزيل له والتجنّي الصلف عليه بمن يدّعي الانتماء إليه ويواجه محن التشرنق والتشبيك والتكميم على ملامحه وبأشبه ما يكون بالحجر التام عليه وتكبيله وسد منافذ انتشاره وغلقها من أمامه إعلاميّاً واجتماعيّاً وفكريّاً لدرجةٍ لم يعد العالم يرى أيّ أثر للإسلام الّذي نعرف سوى شراهة وتعطّش للحروب والقتل والذبح وإنكار الآخر وإلغائه تماماً وإلغاء العقل الجمعي البشري وإلغاء لأيّ تشكيل منه على وجه الأرض .. ففي العراق وخلال العشر سنوات من الاحتلال والتفرّد النزق بالسلطة عرف العالم “ماهو الإسلام” وما هي حقيقته بعد أن وصلت زلازل المتفجّرات “الدينيّة” إلى مشارف الحدود الأوروبيّة مثلاً وأصبح الكثير من الغربيّون يحمدون الله ويثنون عليه ليل نهار على الانتصار الأوروبّي في معركة “بواتيه” التاريخيّة الّتي أوقفت زحف “الإسلام” إليهم ومنعت دخولهم هذا الدين والانضمام مع بقيّة المؤمنين ! .. حتّى أنّ , وهو يمثّل قمّة الهلع الغربي من هذا الإسلام .. أنّ أحد المعلّقين الفرنسيين في إحدى نشرات الأخبار قال لزميله جادّاً متندّراً في نفس الوقت “لو كان قد وصل الإسلام إلينا قبل قرن أو قرنين لكنت أنت الآن تقرأ القرآن كما يقرأه الجزائريّ” ! ..  

يارا .. صحفيّة عربيّة في ربيع وريعان الشباب حسناء وجميلة جدّاً من سوريّا عشقت المراسلة الحربيّة الّتي هي من أصعب المهن البشريّة على الإطلاق وامتهنتها بتوافر الفرصة لها في الأزمة السوريّة فانتمت بطبيعة اعتقادها بمنهج سوريا الدولة الحديثة والعقيدة الصحيحة الّتي تسيّر البلد والمواكبة للعصر بحسب قناعتها هي والراسخة فيها على ما يبدو حدّ الاستشهاد بغضّ النظر عن درجة التطبيق العادل والمهني الحكومي في تسيير دفّة الحكم من فوضويّته فيكفي أنّها وفّرت للمرأة بحسب قناعة يارا فرص الظهور أمام العالم لمواكبة دول قطعت أشواطاً بعيدة في التعملق الإنساني وفي القوّة المهيمنة حين حصلت المرأة فيها على كامل حقوقها ؛ فإنّها , يارا , اعتبرت “الفكرة” الحديثة لإدارة بلدها بالشكل الحديث فكرة عظيمة للابتعاد عن الماضويّة وللتخلّص من تفاصيلها الحاملة بين أكنافها الاحتراب والاقتتال والاصطفاف المضاد بين مكوّنات حملة المعتقد الماضوي وهي بالتالي من متطلّبات توافر فرص اختراق المرأة لحواجز الماضي الّتي طالما كبّلتها وجعلتها عبدة لشهوات وتصرّفات الرجل أفقرت المجتمع بتلك التبعيّة الظالمة وشلّت من قدراتها في رفد المجتمعات بالطاقات البشريّة اللازمة القادرة على النهوض بالبلدان على الوجه العلمي والمعرفي الّلائق ..

يارا قابلت التحدّي الماضوي بتحدٍّ لا هوادة فيه ؛ فاعتبرت الحرب السوريّة ـ السوريّة حربها هي واعتبرتها حرب بين من يريد إعادة المرأة إلى جحور المتعة والمسيار والعرفي والغرف التحتيّة لحريم “السلطان” وبين من فتح لها الآمال على مصاريعها للانعتاق من الاستغلال الجنسي والتفريخ العشوائي .. حرب بين سوريا الماضي وبين سوريا الحاضر .. بين سوريا المحمّلة بأعباء الفتن الطائفيّة الدينيّة والمذهبيّة الّتي تحرق الأخضر بسعر اليابس إن انفتحت أبوابها كما انفتحت في العراق وليبيا ومصر وبين سوريا رياض الأطفال واحتفالات الطفولة دون تمييز بين ذكر منفلت مدلّل وطفلة “محجّبة” أو منقّبة لا ترى الرجل إلاّ بعد بضع سنين ومن داره لدار القبر وكأنّها لم تولد إلاّ للتفريخ وإرضاء شريكها المتسلّط  .. سوريا الزمالة الجامعيّة والعلميّة والمعرفيّة كتفاً بكتف مع الرجل وللتفوّق عليه .. حرب بين تحويل البشر والحجر والشجر و”البايسكلات” ومناطيد الطفولة إلى مفخّخات وعبوات ناسفة وكواتم واختطاف تهين من قدر من خلقه الله ليجعله خليفةً له على سائر مخلوقاته وتحطّ من منزلته وبين من يحاول أن يسعى للريادة وإن أخطأ وإن عصف الفساد في بعض مفاصله وإن تكاثرت أوجاعه فالمهم أنّ “الفكرة” تأخذ طريقها لحين اكتمال عناصر “التجربة” .. هكذا فهمت يارا الأزمة الّتي تجري على أرض بلدها ومسقط رأسها وفتّحت عينيها على حقوقها فيه وقرأت عن “الظلام” القديم وكأنّه لن يعود أبداً ؛ فعاد ! .. وهنا انتفضت يارا كالوحش الكاسر  كالمارد الّذي لا يهدأ يصول ويجول في ساحات النزاع المسلّح تنتصر لمن تظنّ هي أنّه الأصلح مخافة أن تعود أسيرة مكسورة الخاطر ذليلة لقصر السلطان وعصور النكاح والاستغلال الشهواني والتفريخ الّذي لا طائل منه سوى مؤشّرات بشريّة تقف أمام عدسات المغامرون الأوروبّيّون الباحثون عن اكتشاف المجاهيل والغرائب متسمّرةٌ أمامها تقول نحن هنا لا زلنا نأكل لنتناسل ولنتغوّط  فلا تنسونا هَيْ .. هَيْ .. هو .. تذكّروا .. لا تنسونا ! .. ..

 وهكذا فهمت أنا عن ماذا كانت تستقتل يارا ولماذا .. فمن كان يتابع أحداث الأزمة السوريّة من فضائيّات هذا البلد وما تجري على أرضه من معارك فستكون صورة يارا هي القاسم المشترك في ذهنه ما أن يؤذّن مؤذّن نشرة الأخبار بعرض صور جديدة من أرض النزال بين الطرفين ستكون يارا كالمعتاد هي محور تلك الصور تندفع أسرع من جنود الجيش السوري باتّجاه بنادق “العدوّ” حتّى يكاد المرء المتابع يسأل نفسه كيف لحدّ “الآن” لم يصب قنّاص الطرف الأخر المراسلة الحربيّة يارا ؟ هل يوجد “اتّفاق” ! أم الّذي نراه مجرّد تمثيل لاستغفال السوريين ! .. كيف لحدّ هذه اللحظة ويارا بهذا الاندفاع والجرأة لم يصبها الأذى إلاّ شظايا بسيطة زادت من فعّاليّة يارا بدل أن توهن من عزمها ..؟

 يزول العجب أخيراً وبعد سنتين من سعي يارا دون هوادة لنقل ما يجري في معركتها من أرض النزاع حين أصابتها الإطلاقة المميتة الّتي تبحث عن يارا منذ زمن ونحن لا ندري فأصابتها .. ! وسقط عنصر نسوي مهني لا يقوى على امتهانه أقوى الرجال نشيط ومندفع على أرض النزال ولا يعادل مهنيّتها إلاً مهنيّة “نكاح الجهاد” في الطرف الآخر الساعي لإحضار من مات وطواه النسيان ! .. المهم عندي انا أنّ يارا أثبتت أنّ سوريّا الحاضر غير سوريّا أيّام الانتداب .. تغيّرت كثيراً .. وكثيراً جدّاً .. أعتقد هيهات أن تعود سوريّا إلى الوراء .. يارا أثبتت ذلك وبصمت بدمها عليه ..

أحدث المقالات