23 نوفمبر، 2024 4:12 ص
Search
Close this search box.

بريخت عمل على تعميق الوعي الإنساني في مسرحياته

بريخت عمل على تعميق الوعي الإنساني في مسرحياته

عرف عن (برتوليت بريخت 1898 – 1956 م) بكونه مسرحيا وشاعرا ألمانيا ملتزما ذو توجهات يسارية؛ عبر من خلال كتاباته إيمانه بالتوجهات (الماركسية – اللينينية)، والالتزام عنده كمبدع في كتابة الأعمال المسرحية و الشعر ليس باتجاه الذي يفهم بكونه التزاما بأوامر السلطة الأعلى مهما كانت شكلها حزبية أو دينية أو اجتماعية؛ وذلك لان – أي التزام – يأخذ صفة (السلطة) فهو يرفضها رفضا قاطعا، بقدر ما يكون الالتزام عنده متمثلا بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وبكل ما يوازي المعرفة والعقل والفكر وحرية الفنان وحرية الأخر وبحدود التي لا تقيد حرية الفرد إلا بحدود حرية الأخر في إبداء رأيه دون قمع وتروع وردع .

هذا هو مفهوم الالتزام عند (بريخت)، التزام لا يكون مغلقا في حدود الانتماء البيروقراطية الحزبية أو بيد الساسة المحترفين والزعماء المستبدين، ولأنه كان صادقا مع نفسه ومع الآخرين؛ الأمر الذي جعله يتجاوز أي تقيد وهو يدرك بهذا ولكن لا يستطيع تقيد حدود مبادئه وأفكاره ليتجاوز على القيم الإنسانية لأنه ملتزم بقيمها كل الالتزام؛ وهو يعي لوعة انطلاقه عبر تأملات فكرية لا حدود لها في سياق رؤية من الانسجام والتفاعل المعقد بين أفكاره والقيم (الشيوعية) وحرية تقديراته الذاتية ونقده الموضوعي لأي فكر وأطروحة فلسفية، لان يقينه بان لا تفاحة بدون دودة، وكل نظام وحزب وفكر لا يغيب عنه ما ينغص متعة قضم التفاحة بعيون مغمضة – كما يقول (بريخت) – لان ليس هناك من حقيقة مطلقة وكمال مطلق، ومن غير ممكن إن يكون الإنسان مبصرا ولا يتجنب ما يخدشه وهو يعي ذلك، ولذا فان (بريخت) يعي حقيقة التزامه رافضا إن يكون التزاما مغلقا يدار بيد بعض البيروقراطيين من المتحزبين (الشيوعيين) أو بما يسموا بـ(البرجوازيين الوضعيين) ممن خانوا الخط (الستاليني)، سواء من كان منهم في (بون) أو في (موسكو) آنذاك، لان (بريخت) كمبدع كان دوما يجد نفسه بكونه ابن المجتمع؛ فكان يجد في نفسه صعوبة فصل ضميره عن واقعه، وكان يؤمن بالتغيرات المهمة التي أحدثتها (الماركسية – اللينينية) والاتجاه العلمي الذي سارت علية الدولة (الشيوعية) في (الاتحاد السوفيتي) لبناء اقتصادها، ليجد دور الالتزام والتنظيم والعمل الجماعي يحقق اكبر قدر من الانجازات؛ لأنه أدرك بان معاناة المجتمع ليست بفعل عوامل خارج حدود السيطرة بل يمكن السيطرة عليها وتغيرها، لان فهم (التاريخ) عند (الماركسيين اللينينين) هو فكر جماعي نضالي مستمر؛ وان حرية التفكير والنقد هي جوهر وأساس المنهج العلمي (الماركسي)، ليشكل عند (بريخت) قناعة بهذا الفهم تنقذ أزمته النفسية التي كان قد جنح إليها في مستهل كتاباته المسرحية الأولى بالعبثية، بعد أن كانت نظرته باتجاه العالم بان كل شيء يسير بالاتجاه العبث.. والعدم.. والفوضى.. وبعدم وجود أي نظام يحكم هذا العالم العبثي، ليجد بان (الماركسية – اللينينية) وحدها هي من استطاعت إن تضع نظاما علميا وفلسفيا تفسر كل هذه التناقضات والأزمات التي تمر بها مجتمعاتنا، لدرجة التي أمكنتها تحويل (الاتحاد السوفيتي) من دولة محراثيه إلى دولة نووية بامتياز، بل وأمكنتها تحويل كل ما هو سلبي إلى ايجابي وبفترة وجيزة عبر التغيير الجذري والتحرر الذي شهدها (الاتحاد السوفيتي) .

لقد تبلور هذا الفهم عند (بريخت) وأصبحت عنده قناعة بان الصراع الطبقي الذي كان قائما في ظل (الرأسمالية) ما هو إلا صراع اثر تأثيرا كبيرا وسلبيا على الإفراد و بين العلاقات الاجتماعية الاقتصادية، وهذا ما أراد (بريخت) إن يثور عليه في إعماله المسرحية؛ ليواجه الجماهير بان مثل هكذا أوضاع لا يمكن عليها، السكوت؛ ولابد إن يضع لها حد؛ لان معاناة الإنسان لا بد إن يكون لها نهاية، ومن خلال هذه الرؤية أراد (بريخت) تسييس المسرح عبر تقديم أعمال مسرحية هادفة تستطيع ربط الواقع المعاش بالفن من اجل تغييره، ولما كان المبدع هو ابن المجتمع فانه يكون شديد الارتباط بمجتمعه لأنه يعيش واقعهم يتأثر بكل ما يصيبهم، ومن هنا فان ما حصل على واقع المجتمعات الأوربية من تغيرات مهمة وثورات وحروب وصراعات طبقية؛ التي كان لها تأثير بالغ الأهمية على أصعدة العلاقات الاجتماعية الاقتصادية؛ فلا محال فان الأدب كان لا بد منه أن يتأثر بهذه الإحداث؛ وهو ما أدى إلى خلق وابتكار أساليب من الأدب الجديد ذات صلة وارتباط بهذا الواقع الذي تسير فيه الإحداث بشكل متغير وسريع، ولهذا حاول المبدعون مواكبة ما يجري على ارض الواقع محاولة منهم لفهمه والتعبير عما يحدث من اجل التغيير، وهذا ما أدى إلى ابتكار أساليب جديدة من الأدب والفن عبر مدارس فنية التي أخذت تظهر وتنشأ بفعل التغيرات الحاصلة على ارض الواقع؛ فتضع مناهج جديدة لتواكب الحداثة والتطور بما تعبر عن واقع المحن التي تعيشها المجتمعات؛ ليكون التعبير عنها شديد التماس مع معاناة الإنسان، وهو ما أدى بالمبدعين إلى مراجعة الذات وفحص منظومة الحياة لكي يوازوا الحدث ولكي يعبروا عنه بعيدا عن الصيغ التقليدية المصطنعة والمزيفة السابقة، لان نظرتهم إلى الحياة وفق هذا المنظومة الاجتماعية يتطلب من الأدب والفن المشاركة.. والإفصاح.. والاقتسام.. والتعايش.. وتغيير المألوف.. وتعترف بالتعددية والاختلاف.. وترفض الأفكار الجاهزة اللامعقولة؛ بقدر ما تتجه إلى مواجهة المتلقي عبر واقعه.. وأحلامه.. وكوابيسه.. وأمنياته.. وطموحاته، ليكون المتلقي جزء من العمل الأدبي والفني يشارك ويتفاعل مع إحداثه، لان هذه المشاركة هي التي تولد عملية التغيير التي يسعى الأدب والفن طرحه في الأعمال الإبداعية، لان (المبدع) لديه شعور وموقف وباعث لخلق العمل الأدبي أو الفني بما يمتلك من أحاسيس ومشاعر قد لا يشعر بها الإنسان العادي؛ ولكن حين تواجهه لا محال ستثير في أعماقه باعثا يحفزه لتغيير بما أثار في أعماقه من قلق وتساؤلات، لتكون المشاركة بين الطرفين معرضة لنقد وفق هذا المنظور؛ أي بين المتلقي والمرسل، الذي يسهم في تطوير الإبداع جماليا، وهذا النقد قبل أن يكون متوجها من المتلقي فان المرسل – الذي هو المبدع – يلجئ إليه أثناء تأليف العمل؛ وهو ما ينشا ويفرز عنده الكثير من التعديلات من حيث الحذف.. والابتكار.. والإضافة، بغية ارتقاء بالصورة والمشهد إلى نقطة التعبير بأسلوب الأكثر تأثيرا وإيقاعا في النفس من تسامي، فمارس (بريخت) هذا (النقد) باتجاه القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية .

فعلى صعيد أعماله المسرحية فان جل أعماله المسرحية والتي يربو عددها بنحو ( خمسة وأربعين نصا مسرحيا)، وما زالت مسرحياته حاضرة على خشبة مسارح العالم حيث يعتبرونه نقاد المسرح من أفضل كتاب ومخرجي للمسرح المعاصر بعد شكسبير(1564 – 1616) و مولير (1622-1673) و جوته (1749 – 1832) و شيلر (1759 – 1805) و جورج برنادشو(1856-1950)، ونذكر منها (دائرة الطباشير القوقازية) و(الأم شجاعة) و(حياة غاليليو) و(الخوف في الرايخ الثالث) و(المعيار) و(القرار) و(كومونه باريس) و(محاكمة لوكولوس) و(السيد بونتيللا) و(الإنسان الطيب) و(إدوارد الثاني ملك إنجلترا) و(أوبرا الثلاثة قروش) و(الاستثناء والقاعدة) و(جان دارك) و(القائل نعم والقائل لا) و(يوحنا المقدسة على المذابح) و(رجل برجل أو الرجل هو الرجل أو الإنسان هو الإنسان) و(الرؤوس المستديرة والرؤوس المدببة) و( طبول في الليل، التي أعاد كتابتها بعد إن كانت تحمل عنوان سبارتاكوس) و(في أحراش المدن) ومسرحية (الإنجيل) و(بال أو بعل 1918) والى أخره .

فاغلب أعماله المسرحية ما هي إلا توجهات نقدية لما التمسه من معطيات الواقع وهو الأمر الذي قاده إلى تجديد المسرح بعد إن رفض أساليب المسرح القديمة بكل ما هو عليه إلى ما يمكن أن يكون عليه المسرح؛ فأسس (المسرح النقدي الملحمي)، حيث عمل (بريخت) في المسرح النقدي في رسم شخصيات العمل وربطها بالواقع (المادي) ومن ثم يجعل الجمهور ينقد ما يشاهده بشكل ايجابي وهو أسلوب ابتكره (بريخت) لكي لا يجعل من المتلقي فحسب متلقي سلبي على ما يعرض على خشبة المسرح بل يشارك بفكره وبنقده في الأحداث التي تمثلها الشخصيات لكي يشارك في عملية التغير الأوضاع القائمة .

ولهذا عمل (بريخت) على نقد مظاهر الحياة لطبقات البرجوازية.. والأغنياء.. والنفاق.. والفساد.. والانحطاط الذي كان سائدا بين هذه الطبقات والتي كانت تمارسها وتعيشها في المجتمع، وقد إلف في هذا الاتجاه النقدي على النظام الاجتماعي والمجتمع الرأسمالي الذي كان قائم آنذاك مسرحيات عدة نذكر منها مسرحية (طبول في الليل) و(في أحراش المدن)، وكما ونقد وبقسوة بالغة ما عكسته مظاهر الصناعة الحديثة وعصر الآلة على الإنسان، كما انه نقد (النظام الديني)عبر مسرحيات هادفة نلتمس منها في نص مسرحية كتبها عن عالم الفيزياء (غاليليوا) – و( غاليليو) عالم بحث في الحركة والسرعة والسقوط واخترع ترمومتر و أتثبت إن الأرض كوكب صغير يدور حول الشمس مع غيره من الكواكب، وشكا بعض أعدائه إلى السلطة الكنسية الكاثوليكية بأن أفكار(غاليليو) تتعارض مع أفكار الكنيسة، فاتهم بالهرطقة واستدعيا إلى روما وهناك تمكن بمهارته الإفلات من العقاب لكنه اجبر على عدم العودة إلى كتابة هذه الأفكار، وظل ملتزما بوعده لكنه بعد حين كتب بنفس الأفكار، وفي هذه المرة أرغمته الكنيسة على أن يقرر علانية أن الأرض لا تتحرك على الإطلاق وأنها ثابتة، ولم يهتم (غاليليو) لهذا التقرير العلني وحكم عليه بالسجن ولكن بعد ذلك خفف الحكم إلى الإقامة الإجبارية وتم منع كتبه وظل منفيا في منزله حتى وفاته عام 1642 وتم دفن جثمانه في (فلورانسا) المدينة التي كان يعيش فيها تحت نظام السلطة الدينية لبابا – فاستوحى (بريخت) من هذه القصة مسرحيته المعنونة تحت عنوان (حياة غاليليو) تعكس واقع الحياة وأزمته الشخصية التي كان يعيشها (بريخت)؛ فاختار شخصية العالم الفيزيائي (غاليليو) كشخصية للعمل طرحها لتشابه معاناة (غاليليو) مع معاناته الشخصية، فـ(غاليليو) هذا العالم الفيزيائي والفلكي قد اختار إما أن يعيش بين العمل الشاق و حياة الرفاهية في خدمة حاكم (فلورنسا) – حيث كان نظام حكم فيها نظام ديني وبسلطة (البابا) الذي كان مسيطرا على مقاليد الحكم فيها – وبالتالي فقد وجد (غاليليو) بان أبحاثه في قوانين الفيزياء والفلك والتي أحدثت ثورة حقيقية في العلم ستكون حياته – لا محال – معرضة لخطر بسبب تعارضها مع تعاليم الدينية التي كانت الكنيسة تبناها؛ كما حدث لمن سبقوه من العلماء؛ ولهذا كتب (غاليليو) مؤلفا علميا دون إن يفصح عن مضمونه لأحد لكي لا يكشف أمره، تضمن على أبحاثه الهامة في نظريات العلم وهي في غاية الأهمية؛ وقد استطاع أحد تلاميذه تهريب الكتاب ونشره؛ وفي مسرحية (حياة غاليليو) هذه إحداث شيقة يصعب الدخول في تفاصيلها في هذه الأسطر القليلة .

أما مسرحية (الأم شجاعة) هي مسرحية مقتبسة من رواية الكاتب الألماني (غريميتسها وزن) تدور أحداث القصة في القرن (السابع عشر)، ألفها (بريخت) في عام 1939 وتعتبر هذه المسرحية من أعظم مسرحيات (بريخت) مناهضة للحرب وضد الفاشية والنازية التي كتبها على الإطلاق في القرن (العشرين) أثناء اجتياح (هتلر) دولة (بولندا) عام 1939، فالمسرحية تروى قصة (أم ) تسعى لتأمين الحياة لنفسها ولأولادها الثلاثة مطلع القرن (السابع عشر)، وفي ظروف الحرب التي دامت ثلاثين عاما هزت أوروبا الشرقية و(ألمانيا) بشكل مؤثر؛ فتفقد هذه (الأم) أولادها الثلاثة في الحرب وينتهي مطافها وهي وحيدة فقدت أعز ما كانت تملكه أولادها الثلاث، درجة الذي لم تفقد أولادها فحسب بل أصبحت رويدا – رويدا تفقد رشدها أيضا، وفي المسرحية إحداث وانتقادات وتحليلات قدمها (بريخت) بمنتهى الذكاء والحبكة لتثير المتلقي كل الإثارة عما تخلفه الحرب من تزيف وتحطيم لذات وللقيم المجتمع والمشاعر الإنسانية؛ وقد أخذت هذه المسرحية منذ عرضها على المسارح اهتمام النقاد؛ وكتب عنها دراسات وتحليلات مهمة؛ وما زال إلى يومنا هذا تمثل هذه المسرحية في شتى دول العالم لما لها من معاني مناهضة للحرب( أي ضد الحرب) وما تخلفه من أثار مدمرة في قيم الإنسانية .

كما أن (بريخت) قدم انتقاداته للمجتمع الرأسمالي بمسرحيته (صعود وسقوط مدينة ماهوجني 1929)، حيث قدم (بول إيكرمان) البطل إلى عقوبة الإعدام لأنه لم يتمكن تسديد ديونه، وفي هذه المسرحية عمل (بريخت) بتقديم الحدث لا من اجل أن يتعاطف الجمهور مع معاناة البطل بل – وهو أسلوب الذي يتميز (بريخت ) بتقديم مسرحياته بشكل مستحدث في عالم المسرح – حيث كتب بخط عريض على لوحة علقها على خشبة المسرح لكي يواجه الجمهور نفسه بهذه الحقيقية، كتب عليها ((الكثيرين منكم ربما يشهدون إعدام (بول إيكرامان) باشمئزاز، ولكنكم أيضا في رأينا غير مستعدون لأن تدفعوا له ديونه، حيث أن المال أصبح شيئا غاليا جدا في عصرنا هذا…!))، وهذه الطريقة التي لجئ إليها (بريخت) إنما تأتي لأحداث صدمة لتوعية الجمهور بكونه يواجههم بحقيقة الأمر ليدفعهم للتفكير بكل مجريات الحدث وليس فقط للإثارة المشاعر .

كما وعرض مسرحية (أوبرا الثلاث قروش – 1928) لينتقد ما تفرزه (الرأسمالية) من أمراض في المجتمع حيث قدم مدينة كبيرة للدعارة وفيها كل شيء مباح ومعروض للبيع، بسبب قلة المال، فـ(ألمانيا) في أعقاب الحرب العالمية الأولى تغلغل فيها كل أمراض المجتمع البرجوازي، فعرض رجل صاحب المال بمظهر برجوازي وهو جالس في الملاهي الليلية الرديئة يتصرف بكل فج و وقاحة يشتري ذمم الناس بماله ويستغل أوضاع الفقراء بماله؛ وهذه الصورة هي نموذج وجد منها الكثير في المجتمع، بل إن هذه الصورة ما هي إلا إفراز من إمراض المجتمع (الرأسمالي) التي هي مصدر كل شر.. ورذيلة.. وبلاء.. ومن النصب.. والاحتيال.. والخداع.. والعنف، كما إن المسرحية سلطت الضوء وبشكل عفوي ضمن محاورها في كيفية بداية الطعام ومن ثم عن قيمة الأخلاق في مسرحية، وهذا النمط من مسرحيات (بريخت) أخذت أشكالا أعمق من خلال تقديم مسرحيات اللاحقة .

كما إن (بريخت) كانت غايته من كتابة مسرحيته (دائرة الطباشير القوقازية) هو تسليط الضوء عن أحقية الملكية لمن يحرص على رعايتها واحتضانها بأفضل أسلوب وان يستثمرها لخدمة المجتمع فـ(بريخت) في هذه المسرحية يطرح موضوعين رئيسين فيها، قصة (الأم الحقيقية) وقصة (الأرض لمن يزرعا)، ففي الأولى يجد (بريخت) وهو قد اقتبس فكرة هذه المسرحية من قصة (صينية)، مفادها بان احد القضاة كان يحكم بين السيدتين ادعتا بكونها كل واحدة منهما هي (الأم الحقيقية لطفل)، فرسم القاضي دائرة بخط الطباشير ثم وضع الطفل فيها، وطلب من السيدتين أن تسحب الطفل إليها، فمن استطاعت أن تخرجه من دائرة الطباشير تكون الأم الحقيقية له، لكن(بريخت) وظف هذه الحكاية (الصينية) بشكل مغاير، لأنه لم يحكم لـ(لأم الحقيقية) بل حكم القاضي لـ(لام الخادمة أو المربية)، التي تبنت الطفل وعنيت بتربيته، لأنها هي التي اهتمت بالطفل ورعته بينما (ألام الحقيقية) هربت وتركت طفلها حين اندلعت الثورة في البلاد، رغم إن (الأم الحقيقية) نجحت بجذب ابنها من خارج الدائرة الطباشير بينما (المربية) الأكثر رأفة وحنانا لم تستطع فعل ذلك خشية من أن يؤذى الصغير، وهنا رأى القاضي أن (الأم المربية) كانت أكثر حنانا من (الأم الحقيقة)، على عكس (الأم الحقيقية) التي تعاملت مع الأمر بقسوة وعنف، فحكم لـ(لأم المربية) برعاية الطفلة، وهنا نوضح، بان هناك حكاية مشابه في منطقتنا الشرقية يحكى عنها إن الحكيم (الملك سليمان) الذي حكم بين امرأتين متنازعتين على طفل ادعتا كل واحدة منهما بكون الطفل ابنها، لذلك يقترح (الملك سليمان) بتقسيم الطفل إلي جزئيين أثر أدعاء كل من ألامرأتين المتنازعتين بأنه أبنها، فوافقت (الأم المزيفة) بينما رفضت (الأم الحقيقية) أن يشطر الطفل لان ذلك معناه قتله ولهذا فضلت أن تتخلى وتتنازل عنه من إن يقتل أمامها، وتبين لـ(الملك سيلمان) أنها (ألام الحقيقية) وحكم لها بحاضنته، وهنا إن نذكر هذه القصة هو لكي لا يتلبس أمر قصة (الملك سلمان) عن قصة التي ذكرها (بريخت) والمأخوذة من (القصة الصينية) عند القارئ؛ بكونه ربما قد سمع هذه الرواية في تراثنا الشرقي، وفي نص هذه المسرحية هناك مواقف وأطروحات فكرية و دروس وعبر في القيم والأخلاق في غاية الأهمية . إما في (القسم الثاني) من المسرحية ( دائرة الطباشير القوقازية)، فان (بريخت) يقدم حكاية صراع بين جماعتين من الفلاحين متنازعتين حول ملكية الأرض، كانت أحدى المجموعتين قد رحلت وتركت الأرض عندما هاجم (الجيش ألماني) على (روسيا)، وبعد هزيمة (ألمانيا) عادت هذه الجماعة التي تركت الأرض وفرت تطالب بالأرض، بينما جاءت جماعة أخري تنازعها وتطالب بملكية الأرض بكونهم استثمروا الأرض وزرعوها بالأشجار والمثمرة، ليصدر الحكم بملكية الأرض لمن زرعها واستثمر فيها فيحسم النزاع في حل ألازمة باتجاه إلى من يرعي الشيء هو الأحق بملكيته، ليكون (بريخت) استثمر في طرح (الإيديولوجية الماركسية) من خلال الصراع الاجتماعي.. والعامل الاقتصادي.. ونظام الملكية التي تبناها في هذا الطرح؛ وهي أحد تحليلات (بريخت) وقراءته لطبيعة المجتمعات وما أخذه من ملاحظات وانطباعات حول طبيعة هذه المجتمعات في ظل النظم (الرأسمالية) والنظم (الاشتراكية) اثر مكوثه في (أمريكا) لمدة سبع سنوات فأراد إن يسلط الضوء عن حقيقة النظام (الرأسمالي) وظروف القائمة تحت ظلاله اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بهذا العمل الذي كتبه هناك .

إما على صعيد أنشطته الحزبية أو مع ارتباطاته الحزبية حيث كان عضوا في (الحزب الشيوعي الألماني)، فان (بريخت) كثيرا ما وجهه انتقادات للحزب؛ بما وجد من تصرفات بيروقراطية بين أعضاءه؛ وهو الأمر الذي رفضه الحزب فاتخذوا مواقف صارمة ضده بين حين وأخر وتسببت له الكثير من المضايقات سواء بمنع بعض مسرحياته التي كانت تنتقد مواقف (الحزب الشيوعي) وهذا ما جعل الحزب يصدر أمر بمنع عرض بعض من مسرحياته كمسرحية (المعيار) و(القرار) التي انتقد فيها البيروقراطية القائمة داخل الحزب والانتهازية السياسة داخل النظام سلطة الحزب وقد أستشف معلوماته عن هذا الجانب من خلال عمله في الحزب الذي كان يمارس هنا وهناك، علما بان (بريخت) كان مؤمنا بالفكر (الماركسي اللينيني) وشديد الإعجاب بقيادة (ستالين) كما انه منح جائزة (ستالين) وهي ارفع جائزة كانت تمنح في (الاتحاد السوفيتي) .

وقد ظل (بريخت) يتحدى وينتقد البيروقراطية الحزبية من اجل تصحيح مسار عملهم في (ألمانيا)، ولم يكتفي بهذا النحو بل صاعد انتقاداته ضد ممارسات السلطات في (ألمانيا) وخاصة بعد صعود (النازية) ومسك زمام الأمور فيها؛ في وقت الذي عرف عن (بريخت) في عموم (ألمانيا) بمواقفه المؤيدة للحزب (الشيوعي) وانه كان من اشد منتقدي سياسية السلطات في (ألمانيا)، حيث عمل (بريخت) بتشكيل ممثلين من العمال كهواة لتمثيل في مسرحياته التي أخذت تجوب مدن (ألمانيا)، مما أدى إلى تعرضها للقمع والمنع من قبل رجال الأمن والشرطة الأمر الذي قرر (بريخت) بعد عام 1933 إلى ترك (ألمانيا) حين استلم (هتلر) الحكم في (ألمانيا)؛ وبعد إن أخذت السلطات (النازية) تضطهد كل كاتب ومفكر وأديب وفنان لا ينتمي إلى (النازية) ويتم حرق كتبهم، فهرب (بريخت) من (ألمانيا) ليقضي بعد ذلك حياته في المنفى؛ بعد إن أصدرت سلطات في (برلين) أمر بسحب الجنسية الألمانية منه عام 1935 ، فاخذ ينتقل بين دول الأوربية (سويسرا) و (فرنسا) و (فينا) و (دانمرك) و (سويد) و (فنلندا)، وبعدها هاجر إلى (أمريكا)، وبعد مكوثه في (أمريكا) سبع سنوات قرر (بريخت) العودة إلى (ألمانيا) عام 1948 ولكن فوجئ بمنع سلطات في (ألمانيا الغربية) دخوله البلاد فتوجه إلى (ألمانيا الشرقية)، حيث استلم هناك إدارة المسرح حتى وفاته بعد إن قضى أكثر من خمسة عشر سنة في المنفى بعيدا عن وطنه .

وخلال هذه الفترة كتب (بريخت) اغلب مسرحياته رغم إن الكثير من هذه الأعمال رفض عرضها في هذه الدول، وخلال العقد الأخير من عمره أي ما بين عام (1948 – 1956) استمر (الحزب الشيوعي الألماني) غير راضي لانتقاداته رغم تقديمه تنازلات؛ وحين قدم مسرحيته عن (كومونة باريس) عام 1949 – و(كومونه باريس) هي أول دولة عمالية في التاريخ استلمت الحكم في (باريس) العاصمة (الفرنسية) لمدة ثلاثة أشهر في الثامن عشر من مارس عام 1871 مما إربك العالم (الرأسمالي) حين وجدوا راية العمال مرفوعة في (باريس) قلب أوربا وان الثورة الاشتراكية رفعت شعارات (تحرير العمال) مما ضنت الدول (الرأسمالية) بان لا محال بان العالم كله مهدد بالسقوط، ولهذا عملوا بكل ما في وسعهم لإسقاطها وحصر نطاق الثورة العمالية في (باريس) ومنعوها من التوسع إلى مدن (فرنسا) والدول الأوربية المجاورة بكل وسائل القمع؛ وفعلا نجحوا في ذلك، و رغم سقوط (الكومونة) في (باريس) فإنها بقت في ضمير وعقل كل أحرار العالم مؤكدين بأنه لا بديل مهما طال الزمن عن (الثورة العمالية) لإسقاط النظم (الرأسمالية) ولا بد لأي (ثورة عمالية) إن تبدأ بالخطوة الأولى في تحطيم الدولة البرجوازية والرأسمالية الغاشمة – ولهذا أقدمت الحكومة إلى منع مسرحته (كومونه باريس) واخذ الحزب يضايق (بريخت) كثيرا مما اضر إلى تقديم استقالته من الحزب؛ واخذ يقدم مسرحياته القديمة؛ في وقت الذي لابد من الذكر بان (بريخت) منح جائزة (ستالين) من (موسكو) قبيل وفاته عام 1956 بعد إن تدهور أوضاعه الصحية، لأن (بريخت) بقى وفيا ومخلصا و مؤمنا بمبادئ (الماركسية – اللينينية) وان انتقاداته لم تكن لفكر الحزب (الشيوعي) بقدر ما كانت تتجه نحو تصرفات بعض القيادات الحزب، وهنا لا بد إن نذكر بان (بريخت) رغم انتقاده لبعض مواقف (ستالين) إلا انه كان شديد الإعجاب بقيادته وقد كتب الكثير من الإشعار يمدح فيها قيادة (ستالين) في الاتحاد السوفيتي كما كتب فصائدا عدة منتقدا عن بعض مواقفه، ولكن في مجمل مسار عملة ونشاطه احتسب على التيار (الستاليني)، ولكن في المجمل ظل (بريخت) مؤمنا بـ(الماركسية – اللينينية) بيقينه المطلق بان ليس هناك من نظام يحكم بالعدل والإنصاف هذا العالم المليء بالتناقضات والأزمات ويستطيع تحويل كل الجوانب السلبية في الحياة إلى ايجابية، لان (الحزب الشيوعي) في اعتقاده هو النظام الأكثر وعيا وتطبيقا وإيمانا بقوة التغير وبناء منظومة إنسانية واعية دورها في العطاء والتضحية والعمل والكفاح والنضال؛ ولذلك تبنى (بريخت) الاتجاه العلمي (للماركسية – اللينينية) ووجد في معطياتها ملاذا فكريا تبحر فيه وقدم أعظم أعمال المسرحية لخدمة الإنسانية برمتها، ليعطي جل أوقاته بدراسة (الماركسية) وفلسفة (هيجل) وخاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914، ولذلك ومنذ لحظة الأولى لثورة (لينين) وقف (بريخت) مناصرا ثورته ومؤيدا لتطلعاته الثورية وكتب في ذلك قصائد غنائية يمجد قيادة (لينين) .

هكذا كان الكاتب والشاعر الألماني (برتولد بريخت) يعبر عن إيمانه بـ(الماركسية – اللينينية) من خلال أشعاره وكتاباته المسرحية؛ لان ما حرك مشاعر ووجدان وإيمان (بريخت) إلى النظام (الماركسي اللينيني) ويتخذ من (المادية التاريخية) منطلقا لكتابة مسرحياته عبر التحليل العلمي باتجاه الأوضاع الاجتماعية والسياسية، لان (بريخت) الذي جند قلمه بعالم المسرح بعد إن هام بهذا العالم، عالم المسرح؛ فقد وجد بان المسرح آنذاك أي في مطلع قرن (العشرين) والربع الأول منه، كان يخدم ويطرح كل ما يخدم (الطبقات البرجوازية) لان أغلبية كتاب المسرح في هذه الحقبة كانوا من النخب (البرجوازية) التي كانت تسيطر على عالم المسرح فلم تكن لمسرحياتهم أي هدف اجتماعي أو سياسي بقدر ما كان التقديم يعرض لمجرد التسلية؛ فكانوا يمنعون أي عرض هادف يحاكي هموم الطبقات العمالية، ولهذا دب الوهن والضعف في الإعمال المسرحية لحجم التسطيح الشكلي للمسرحيات وخلوها من أي مضمون هادف، واعتبر(بريخت) بان كل ما يقدم على خشبة المسرح ما هو إلا تنويم مغناطيسي يخدر عقل المشاهد بكونه يحاصر عقله داخل أحداث العمل المقدم من دون أن تبلور لديه أي فكرة لتحليل الإحداث و مناقشة واقع الحياة بهدف تغيره وإيجاد حلول واقعية نحو الأفضل، ولهذا وعى (بريخت) ما آلت إليه المسرح؛ ولما فكر بتغير هذا النمط من المسرح الغير الجاد والعبثي؛ أدرك بان منطلق (التغيير) يبدأ بإسقاط السلطة (البرجوازية)، وهذا لا يتم ما لم يكن هناك وعي اجتماعي وسياسي ويتجه اتجاها ثوريا لتغيير؛ بعد إن وجد صعوبة في تقديم إعماله المسرحية في بداية عمله كمسرحي بسبب منع الطبقات (البرجوازية) لأعماله التي اتسمت بطابع تعليمي وذات ملامح سياسية، رغم إن (بريخت) عام 1922 حصل على جائزة (كلايست) عن أول أعماله المسرحية، كما وانه لفترة عمل مخرجا مسرحيا وقد أخرج العديد من مسرحياته في (برلين) ولكن بصعوبة نتيجة اعتراض من قبل الطبقات (البرجوازية) على أعماله المسرحية، التي كان تهيمن على هذا القطاع، ورغم كل المعوقات التي كانت تعترض طريقه إلى المسرح إلا انه تميز (بريخت) بكونه من ابرز كتاب المسرح في (ألمانيا) لكونه كان يسلط الضوء على شخصيات ألتي يقدمها على الجانب (النفسي) لأنه كان متأثرا بأفكار (فرويد 1856 – 1939) في التحليل النفسي والذي كان معاصر له، لذلك عمل (بريخت) إلى تحليل القضايا بأسلوب (التحليل النفسي) باعتقاده بان ذلك يؤثرا في نفوس المشاهدين تأثيرا ايجابيا في مسرحياته، وبقى (بريخت) أمينا للمسرح يقدم أعمالا هادفة بما يطرح من مواقف إنسانية واجتماعية وسياسية بالفهم (الماركسية – الينينية) ومتحديا للأفكار (البرجوازية) و(الرأسمالية)، لأنه كان مؤمنا بضرورة تسييس الفن والمسرح؛ لان اعتقاده كان يتجه بان لا تغير ما لم يعي الإنسان واقعه السياسي ويتفاعل معه من اجل إبداع صورة حقيقة لنهضة المجتمع، ولهذا عمل على كتابه (المسرح التعليمي) بغية تنبيه المتلقي وإيقاظه وإثارته ودفعه إلى (التغيير) تغيير الواقع، ومن اجل إيقاظ وتركيز المتلقي عمل (بريخت) على استحداث المؤثرات البصرية والسمعية على المسرح لتمنح (أولا) جمالية للعمل و(ثانيا) تجذب المشهد و(ثالثا) لترسل رسالتها بصيغة مقنعة عبر إحداث التواصل بين النص والمتلقي، ولهذا ابتكر(بريخت) أسلوب (المسرح الملحمي) الذي هو عبارة عن سرد القصة كمقدمة لبداية المسرحية، إذ يتم خروج ممثل إلى خشبة المسرح فيجلس ليروي ويسرد أهم أحداث المسرحية على الجمهور حتى تثير لدى الجمهور المشاهد فرصة التأمل والتفكير في الواقع إثناء بدا العرض ليتخذ موقفا ورأي من القضية المتناولة في عمل المسرحية، كما فعلها (بريخت) في مسرحيته (دائرة الطباشير القوقازية)، ولهذا فان (بريخت) اعتبر بان المشاهد هو عنصرا أساسيا في كتابة المسرحية وعرضها واعتبر بان خشبة المسرح ما هو إلا غرفة من ثلاثة جدران والجدار الرابع هو جدار وهمي الذي يقابل الجمهور ولهذا فان إي عمل يقدم لا بد إن يكون ذو أحداث غريبة ومثيرة وباعثة على تفكير والتأمل عبر تقديم حكم وأمثال ومواعظ و تسلية؛ وهي تتجه أو تأخذ منحى سياسي من اجل التحريض السياسي للمتلقي وبأسلوب (السخرية الكوميدية) للمواضيع الحساسة فاستخدم (أغنيات) بين المشاهد كنوع من التحريض والتسلية للعمل كي يبقى الجمهور مشدودا إلى المسرحية، ولهذا عمل (بريخت) في كتابة العمل المسرح بتجاوز البناء التقليدي في كتابة المسرحية والمتمثل بـ(البداية تتم بمدخل بسيط) ثم (ترتفع الأحداث لتصل إلى جوهر العقدة) ثم (الحل)، حيث (لم يعتمد) على هذا النمط من البناء، إذ التجئ (بريخت) إلى كتابة أكثر من مسرحية في مسرحية واحده، إي إنه عمل على بناء مسرحية واحدة ولكن تشمل في داخلها مسرحيات أخرى؛ وكل من هذه المسرحيات تشمل على فصل واحد يختلف كل واحد منها عن الفصل السابق من حيث وقوع أحداثها وبما تشكل من مشاهد متفرقة في أزمنة مختلفة ولا يربط بينهما إلا هدف واحد هو (التوعية)، كم قدم هذا النمط من العمل المسرحي في مسرحيته (دائرة الطباشير القوقازية) و مسرحية (الخوف والبؤس في الرايخ الثالث)، كما استخدام (الموسيقى) و(الأغنيات) بين المشاهد لتواكب هذه القطع الموسيقية مجمل أحداث المسرحية مع عرض مناظر وأفلام سينمائية كمؤثرات تواكب احدث المسرحية على نحو ما قدمه في مسرحية (طبول في الليل) و(أوبرا القروش الثلاثة) و(حياة ادوارد الثاني)، وذلك كنوع من المزج بين التحريض والتسلية والتركيز على الواقع الاجتماعي التي في إطارها تتحرك أحداث المسرحية؛ وذلك من اجل تعميق وتحريك وعي المشاهد بالواقع وبالتناقضات المجتمع، ولهذا عمل (بريخت) باستخدام أسلوب (الغرابة) أي انه يكتب عن (أمور مألوفة ولكن بصورة غريبة)، وذلك لكي لا يترك مرور المشهد المسرحي على المتلقي بصورة مملة؛ وهو يعي سلفا ما سيؤول إليه المشهد، ولكن عندما يقدم مشهد ما بشكل جديد (غير مألوف) إنما كان (بريخت) يقصد من ذلك فرصة للمتلقي إن يحاور ذاته بصدد هذا المشهد (الغريب)، رغم كونه ليس بالجديد ولكن صيغ بشكل جديد بما يربك المشاهد عن وضع الذي يتلقاه عبر هذا المشهد؛ إما بتقبله والإقناع بما يحدث أو رفضه، لتكون صبغة صياغة المسرحية عند (بريخت) يعتمد في بعض مسرحياته على (التاريخ) كأحد أركان التغيير الذي أراد من خلاله تحويل (المسرح الملحمي) إلى (المسرح الدايلكتيكي) عبر البحث في معطيات (التاريخ) تاريخ الماضي للاستفادة منه في الحاضر والمستقبل، ليكون (التغيير) احد أهداف هذه الإلية؛ لتفادي سلبيات التي يواجهها المجتمع، ولهذا نجد بان (بريخت) اخذ يقتبس من قصص وأحداث (التاريخ) وإعادتها بشكل (حديث) كما فعل في مسرحيته (الرؤوس المستديرة والرؤوس المدببة) التي اقتبس فكرتها من مسرحية (كيل بكيل) لـ(شكسبير)، وكما كتب مسرحية (أوبرا الثلاث قروش) التي اقتبس فكرتها من (أوبرا المتسولون) للكاتب البريطاني ( جون كاى )، وكما كتب مسرحيته المعنونة (يوحنا المقدسة على المذابح) وهي مسرحية اقتبس فكرتها من مسرحية (عذراء اورليانز) للكتاب الكبير(شلر)، وكما كتب مسرحية (الاستثناء والقاعدة) وهي مسرحية مقتبسة من رواية (الأم) لروائي الروسي (مكسيم غوركي)، ومن خلال هذا الابتكار في كتابة المسرحية؛ إنما أراد (بريخت) أحياء التراث بالمفهوم المعاصر ويعاد صياغته بمنظور فكري وفلسفي وسياسي يواكب المعاصرة لكي يتحول النص إلى موضوع عام يمس المجتمع فيتقبله المتلقي كونه يعالج ويخاطب قضايا ومشاعر الإنسانية، ولهذا فان ميزة أعمال (بريخت) المسرحية هي تعميق الوعي الإنساني بكل ما يحيط وجوده من تناقضات الواقع بهدف تغييرها، ولهذا لم يكتفي (بريخت) بمعطيات التي ابتكارها في (المسرح الملحمي) والتي كانت تعارض خط المسرح (البرجوازي) الذي كان سائدا في عصره بنمط المسرح (ارسطوي) التقليدي؛ فعمل على تطويره متأثرا بأفكار (ماركس) و(هيغل) إلى (المسرح الدايلكتيكي) لكي يواكب مسرحه طبيعة التناقضات الحاصلة في المجتمع على خشبة المسرح؛ لكي يكون المتلقي لديه فرصة المشاركة في عملية التغيير بعد إن وجد (بريخت) بان (المسرح الملحمي) ليس بوسعه (التعبير) عن طبيعة التي يرغب (بريخت) التوجه إليها عبر (التغيير) لذلك عمل على إيجاد مسرح بديل عنه؛ فابتكر (المسرح الدايلكتيكي) جمع فيه بين عناصر (المسرح الملحمي) و(المسرح الارسطوي) محاول منه التقريب بين منطلقات المسرحين باتجاه واحد وهو (المسرح الدايلكتيكي)، لان (أرسطو) كما اعتقد (بريخت) كان شديد تأثير بالمسرح (الإغريقي) في وقت الذي نجد بان أشهر كتاب المسرح (الإغريقي) من (سوفوكليس) و(ايسخولوس) و(يوريبيديس) هم كتاب سبقوا (أرسطو) وكانوا في كتابة نصوصهم المسرحية يهتمون بإبراز عناصر (الغرابة ) وشي من بعض مقومات التي عمل (بريخت) على ابتكارها وإظهارها وتركيز عليها في مسرحياته وتحيدا في نمط الذي نسميه بـ(المسرح الملحمي البريختي)، وان (أرسطو) تأثر بالمسرح (الإغريقي) تأثيرا كبيرا؛ ولهذا فانه صاغ وكتب قواعد كتابة (الفن الدراما والشعر) من (مسرحيات إغريقية) وتحديدا مسرحية (اوديب ملكا)، وكمل عمل (أرسطو) في تطوير فن (الدراما) بتأثير من الفن (الإغريقي)، فان (بريخت) عمل إلى تطوير المسرح بتأثير أفكار (ماركس) و (هيغل) إلى المسرح (الدايلكتيكي) – كما قلنا – لكي يفهم الجمهور طبيعة حركة (الدايلكتيك) في تتابع الأحداث لكي يعي المفارقات التي تحدثت و تجددت وتطورت في المسرحية، وعن إمكانية معرفة طبيعة التناقضات وعن إمكانية (التغيير) ما هو عليه إلى ما يمكن أن يكون عليه، حيث قدم شخصياته بملامح أرسطية ولكن بطبيعة (دايلكتيكية)، أي إن هذه الشخصيات تنمو وتتطور بفعل الإحداث، وهذا هو فهم (المسرح الدايلكتيك) الذي قدمه (بريخت) على خشبة المسرح وأبدع فيه لتشكل إعماله المسرحية مدار اهتمام الباحثين ولدارسي المسرح بعد إن احتل (بريخت) مرتبة من المراتب المتقدمة في عالم المسرح بعد (سكسبير) و (جوته) و (شيلر) و(مولير) و (جورج برنادشو) .

لان ما قدمه (بريخت) من إعمال فاضت بالأفكار والمشاعر الإنسانية وتكلمت بصدق عن واقعها لتكون ليست مجرد إعمال أدبية مسرحية أتقنت حرفيتها بقدر ما كانت تعبر عن أحداث التي أحاطت بالآم الشعوب ففاضت بروح ومشاعر الإنسانية النبيلة بما جعلتها أعمال لا تمر على متلقيها دون إن تترك فيه تأثيرا؛ لان ما قدمه (بريخت) من مسرحيات جسد بصدق هموم الإنسان وقضياهم ليجعل من مسرحه في خدمتهم لأنه كان يرصد ويشعر بهموم المجتمع وما يتعرض من معاناة في حياته أليوميه، ولهذا فان (بريخت) جسد هذه المعاناة في لغة المسرح ليتوهج ما يقدمه على خشبة المسرح بحضور حيوي تناغم المتلقي مع رؤيته الفنية التي واكبت كل مستحدثات واقعه ومتطلباته .

أحدث المقالات

أحدث المقالات