وتجتمع المآسي على قلب فاطمة (ع) ،فتتجسّد المأساة على الصّدّيقة الطّاهرة ، وتعرف أنّ السرّ في ذلك كان بسبب موت القائد محمد ( صلى الله عليه وآله ) ولذا ؛ لا بدّ لها من أن تعيد شريط حياتها الماضية مع أبيها لتعطيه حقه ، ولكن في إطار من اللوعة والبكاء والأسى ، حيث صار ديدنها أن تبكي على أبيها بعد أن تتذكر أيّامها النديّة التي قضتها تحت ظلاله الوارفة ، ويزداد بكاؤها حتى يضرب بها المثل في حنينها إلى عميدها ، ويضيق أهل المدينة ذرعاً بما يجري في بيت الرّسالة ، فيطلبوا من عليٍّ(ع) أن تبكي فاطمة : إما ليلها أو نهارها ، ولكنها تستمر في لوعتها حتى طاب لها ـ يوماً ـ أن تسمع مؤذن أبيها (بلال) وهو يرفع صوته بالأذان لكي يذكّرها بأيام حبيبها الرّاحل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ويستجيب ( بلال) لطلبها ، ويرفع صوته بالأذان ، وما أن يذكر (بلالُ) اسمَ محمدٍ حتى يرتفع صوتُ فاطمة بالحنين إليه ، وتخرّ إلى الأرض مغمىً عليها ، مما اضطر (بلال) إلى قطع أذانه ، فيضجُّ المسلمون بالبكاء مواساةً لفاطمة ( عليها السلام ) . وتبدو آثار هذه اللوعة تلوح على شخص الزّهراء حيث خارت قواها ودبّ الوهن في جسمها ، وأصبحت لا تقوى على النُّهوض ، فاستسلمت للفراش ، واستسلامها للفراش كان إيذاناً بوقوع مأساةٍ جديدة لهذه الأُمّة الفتيّة.
فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله رسول الإسلام(ص)، أمّها خديجة بنت خويلد(رض)، ولدت يوم الجمعة 20 جمادى الآخرة في السنة الخامسة بعد البعثة النبوية بعد حادثة الإسراء والمعراج بثلاثة سنوات (حسب الروايات الشيعية( ، أو في السنة الخامسة قبل البعثة النبوية في مكة المكرمة, والنبي له من العمر خمسة وثلاثين عاماً (حسب روايات أهل السنة والجماعة)، زوجها هو الإمام علي بن أبي طالب(ع)أبو السبط الحسن(ع)الذي سمّه معاوية بن أبي سفيان،وأبو السبط الحسين(ع) الذي قتله يزيد بن معاوية بن أبي سفيان .
هي: فاطمة بنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أمها: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أن ما ثبت لأكثر علماء الشيعة ومؤرخيهم هو أنها ولدت بعد البعثة الشريفة بخمسة أعوام في أول شهر جمادى، ومنهم: المجلسي والطبرسي والكليني والإربللي والنيسابوري والشيخ الصدوق وابن شهر آشوب، لكن الشيخ المفيد في حدائق الرياض وقد نقل عنه الكفعمي في مصباح المتهجّـد والعدد القوية يرى أنها ولدت بعد عامين من البعثة. وانفرد ابن أبي الثلج البغدادي في تاريخ الأئمة برأي وافق فيه علماء أهل السنة في أنها ولدت قبل البعثة بخمس سنوات وقريش تبني البيت.
فبينما يكاد علماء الشيعة يجمعون على أن عمرها عند وفاتها كان 18عاماً ومنهم: المجلسي والطبرسي والكليني والإربللي والنيسابوري والشيخ الصدوق وابن شهر آشوب، يرى أغلب أهل السنة ومنهم ابن عبد البر أن عمرها كان عند الوفاة 29 عاماً ، غير أن هناك اتفاقاً على أن فاطمة كانت أصغر بنات رسول الإسلام محمد بن عبد الله(ص). وعلى جانب آخر تقول بعض الروايات الشيعية أن خديجة بنت خويلد ما كانت تشعر بثقل حملها، وكانت تكلّم فاطمة وهي جنين لتؤنسها وتسلّيها .
شهدت فاطمة منذ طفولتها أحداثاً جساماً كثيرةً، فقد كان النبي يعاني من اضطهاد قريش وكانت فاطمة تعينه على ذلك الاضطهاد وتسانده وتؤازره، كما كان يعاني من أذى عمه أبي لهب وامرأته أم جميل من إلقاء القاذورات أمام بيته فكانت فاطمة تتولى أمور التنظيف والتطهير.
وكان من أشد ما قاسته من آلام في بداية الدعوة ذلك الحصار الشديد الذي حوصر فيه المسلمون مع بني هاشم في شعب أبي طالب، وأقاموا على ذلك ثلاثة سنوات، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة ولا بيعاُ إلا واشتروه، حتى أصاب التعب بني هاشم واضطروا إلى أكل الأوراق والجلود، وكان لا يصل إليهم شيئاً إلا مستخفياً، ومن كان يريد أن يصل قريباً له من قريش كان يصله سراً.
وقد أثر الحصار والجوع على صحة فاطمة، ولكنه زادها إيماناً ونضجا. وما كادت فاطمة الصغيرة تخرج من محنة الحصار حتى فوجئت بوفاة أمِّها خديجة فامتلأت نفسها حزناً وألماً، ووجدت نفسها أمام مسؤوليات ضخمة نحو أبيها النبي الكريم، وهو يمرّ بظروف قاسية خاصة بعد وفاة زوجته وعمّه أبي طالب . فما كان منها إلا أنْ ضاعفت الجهد ، وتحمّلت الأحداث بصبر، ووقفت إلى جانب أبيها الرسول الكريم لتقدم له العوض عن أمِّها وزوجته، ولذلك كانت تـُكَنـّى بـ(أم أبيها).
هناك خلاف حول وقت وفاتها؛ ولكن ترجّح رواية أن الفترة بين وفاتها ووفاة أبيها هي خمسة وتسعون يوما، أي في يوم الثالث من شهر جمادى الآخرة، والخلاف حول عمرها عند وفاتها ناتج عن الخلاف حول وقت ميلادها.
لقد أوصت السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) بعدّة وصايا ، منها أوصته أن يدفنها ليلاً وسراً ، حيث ورد عنها أنها قالت ( عليها السلام ) له : ( أُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني ، فإنّهم عدوّي وعدوّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا تترك أن يصلّي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم ، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار .
وقد عمل الإمام علي ( عليه السلام) بوصيتها ، فقد أخرج الإمام علي(ع)مع مجموعة من أهل بيته وأصحابه جنازة الزهراء ( عليها السلام ) إلى مقبرة البقيع ـ باعتبارها مقبرة المدينة الرئيسية ــ وقيــل : دفنت في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودفنها هناك ليلاً ــ ثمّ عمل (عليه السلام) مجموعة من القبور الوهمية حتى لا يعرف قبرها الحقيقي ، وارتفعت أصوات البكاء من بيت عليّ (عليه السلام) فارتجّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، واجتمعت نساء بني هاشم في دار فاطمة (عليها السلام) فصرخن وبكين ، وأقبل الناس إلى عليّ (عليه السلام) وهو جالس والحسن والحسين بين يديه يبكيان ، وخرجت اُمّ كلثوم وهي تقول : يا أبتاه يا رسول الله! الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاءَ بعده أبداً . واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجّون ، وينتظرون خروج الجنازة ليصلّوا عليها ، وخرج أبو ذر(رض) وقال : انصرفوا فإنّ ابنة رسول الله قد أخر إخراجها في العشيّة ، وأقبل أبو بكر وعمر(رض) يعزّيان علياً (عليه السلام) ويقولان له : يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وهكذا تفرّق الناس ، وهم يظنّون أنّ الجنازة تشيّع صباح غد ( وروي أنّ وفاتها كانت بعد صلاة العصر أو أوائل الليل )، ولكنّ الإمامَ عليّاً (عليه السلام) غسّلها وكفـّنها هو وأسماء في تلك الليلة، ثم نادى: يا حسنُ يا حسينُ يا زينبُ يا اُمّ كلثوم هلمّوا فتزوّدوا من أمّكم فهذا الفراق واللقاء الجنـّة ، وبعد قليل نحّاهم أمير المؤمنين (عليه السلام) عنها. ثم صلّى عليٌّ (ع)على الجنازة ورفع يديه إلى السماء فنادى ( اللهمّ هذه بنت نبيّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلى النور ، فأضاءت ميلاً في ميل ) . فلمّا هدأت الأصوات ونامت العيون ومضى شطر من الليل تقدّم أمير المؤمنين والعباس والفضل بن العباس ورابع يحملون ذلك الجسد النحيف، وشيّعها الحسن والحسين وعقيل وسلمان وأبو ذر والمقداد وبُرَيْدة وعمار.
ونزل عليّ (عليه السلام) إلى القبر ، واستلم بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأضجعها في لحدها وقال:( يا أرضُ أستودعك وديعتي ، هذه بنت رسول الله ، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله وعلى ملـّة رسول الله محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله)، سلمتكِ أيتها الصدّيقة إلى من هو أولى بكِ منـّي ، ورضيتُ لكِ بما رضي الله تعالى لكِ ) ، ثم قرأ: ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة ً أُخرى ) ، ثم خرج من القبر ، وتقدّم الحاضرون وأهالوا التراب على تلك الدرّة النبويّة، وسوّى عليّ (عليه السلام) قبرَها .
ولمّا أصبح الصباح من تلك الليلة التي دفنت فيها السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، أقبل الناس ليشيّعوا جنازة الزهراء ( عليها السلام ) ، فبلغهم الخبر أنّها قد دفنت البارحة سراً .فتوجّهوا إلى البقيع يبحثون عن قبر فاطمة ( عليها السلام ) ، فأشكل عليهم الأمر ، ولم يعرفوا القبر الحقيقي لسيّدة نساء العالمين ، فضجّ الناس ، ولامَ بعضـُـهم بعضاً ، وقالوا : لن يخلفَ نبيّكم إلاّ بنتاً واحدة(*) تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها ، والصلاة عليها ، ولا تعرفون قبرها .ثمّ قال ولاة الأمر منهم : هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتّى نخرجها ، فنصلي عليها ، فبلغ ذلك الإمام علي ( عليه السلام ) ، فخرج مغضباً قد احمرّت عيناه ودرت أوداجه ، وعليه قباؤه الأصفر الذي كان يلبسه في كل كريهة ، وهو متكئ على سيفه ذي الفقار ، حتى ورد البقيع .
سبقت الأخبار عليّاً إلى البقيع ، ونادى مناديهم : هذا علي بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه يقسم بالله لئن حول من هذه القبور حجر ليضعن السيف على غابر الآمرين ، فتلقاه بعضهم فقال له : ما لك يا أبا الحسن ، والله لننبشن قبرها ولنصلين عليها ، فضرب الإمام (عليه السلام) بيده إلى جوامع ثوبه ، فهزّه ثمّ ضرب به الأرض .
وقال ( عليه السلام ) : ( أمّا حقي فقد تركته مخافة أن يرتد الناس ، وأما قبر فاطمة فوالله الذي نفس عليٍّ بيده لأنْ رمتَ وأصحابك شيئاً من ذلك لأسقين الأرض من دمائكم ، فإنْ شئت فأعرض.
فتلقاه آخر فقال : يا أبا الحسن ، بحق رسول الله وبحق من فوق العرش إلاّ خليت عنه ، فإنّا غير فاعلين شيئاً تكرهه ، فخلى عنه وتفرّق الناس ، ولم يعودوا إلى ذلك .
ومهما يكن من أمر؛ فلا يصح التحرّي عن حقيقةِ مكان دفنها (عليها السلام) ما دام الإمام علي (ع) هو قد أخفى سرَّ المكان، وإنَّ أيّة محاولة إسلامية للبحث عن المكان الحقيقي لدفن فاطمة الزهراء(ع) تعد مخالفة صارخة وخرق عهد ٍ لما أراده أمير المؤمنين علي (ع)، والرواية المذكورة لدى الشيعة الإمامية إنَّ إعلان مكان قبرها الحقيقي رهين بظهور ولدها المهدي المنتظر(عج) . لكن؛ من حق الباحثين الإسلاميين أن يبحثوا بأسباب إخفاء الإمام علي (ع) هذا القبر عن عامة المسلمين .
ولعلَّ من أهم الأسباب التي جعلتْ عليّاً(ع) يتكتم على قبر فاطمة الزهراء (ع) مايلي : ـ
أولاً : كانت فاطمة (ع) غير راضية عن بعض الصحابة خلال حياتها، لما تسببوه من نقض لبيعة أبيها إلى بعلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .. والد ولديها الحسنين السبطين (ع)، وهضم حقها الإرثي من فدك، ولا أظنـُّها ضانة ً بالإرث المادي بقدر ما هو عن المعنى الاعتباري.
ثانياً : عدم رغبة الإمام علي (ع) بتشريف من لا يستحق التشريف بالصلاة عليها(ع) عند الدفن، بسبب إساءاتهم المتتابعة لرسول الله (ص) في حياته وبعدها. قال أمير المؤمنين(ع): اللهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ضروباً من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحلـّت بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدائرة عَلـَيَّ ، اللهم أحفظ حسناً وحسيناً ، ولا تمكـِّنْ فجرة قريش منهما ما دمتُ حيـّا ، فإذا توفـّيتني فأنت الرقيبُ عليهم،وأنت على كلِّ شيءٍ شهيد.
ثالثاً : عدم رغبة الإمام علي (ع) بتشريف أم المؤمنين عائشة (رض) من أن تدفن بجوارها بعد موتها،لظنه بأنّها ستقوم بهذا العمل،كما حصل في تشريفها دفن أبيها أبي بكر(رض) جوار قبر الرسول الأعظم (ص)،وهي التي ستخرج في واقعة الجمل على إمام زمانها وخليفة الأمّة.
رابعاً : ولأنه عربيٌّ غيورٌ على الحرائر،ولأنَّ قبرها لا يمثل مشتركاً منهجياً في سلوك عامة المسلمين لمرحلة ما بعد محمد (ص)،فقد حرص علي (ع) على قبر الزهراء(ع) من أن تنتهك حرمته يوماً فأخفاه ، وهو القائل : ((علـّمني رسول الله ألف باب من العلم ، يُفتح لي من كل باب ألف باب)) ، فخشي (ع) هنالك من أنه سوف تستجد محاولات عدائية.. ربّما؛ ستحدث في مستقبل الأمّة الإسلامية ، تتسبب في انتهاك حرمات قبور الأولياء والصالحين من أتباع آل محمد(ص) وصحبهم (رض) ، كما حصل اليوم في الحادثة المشؤومة لنبش قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي (رض) .
***
(*) / (( لأن هنالك رواية تذكر إنَّ رقية وأم كلثوم مُتبنتا رسول الله (ص) من أخت خديجة وهي تولت رعايتهما بعد وفاتها ، ورواية تقول إنهما بنتاه اللتان ولدتا قبل البعثة وفاطمة بعد البعثة ، بعد الإسراء والمعراج وأكله من ثمار الجنـّة في السموات العليا ، فتكونت منها نطفة فاطمة التي أريقت برحم السيدة خديجة ـ رض ـ ومن هنا جاء تميّزها )) ((المصادر:مختلفة))