في معرض إعلان رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي عن تأسيس المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق يوم 31 كانون الاول (ديسمبر) 2018، قال إنه “عقد العزم على مكافحة الفساد ومحاربة المفسدين، وبإرادة صادقة وجادة، تنفيذاً لتطلعات الشعب والبرنامج الحكومي”، مؤكداً إدراكه خطورة الفساد وتأثيره المدمرعلى العباد والبلاد، وامتثالا لاتفاق الأمم المتحدة لمكافحته.
تزامنا مع تأسيس المجلس، الذي انبثق عن القرار رقم 70، نشرت لي صحيفة “الحياة” في 16 شباط (فبراير) 2019 مقالة بعنوان: “العراق: 70 جعجعة بلا طحن” قلت فيه: “لا أعتقد أن المواطن العراقي سوف يفرح وتنفرج أساريره ولن يتوهم بأن المجلس الجديد سيكافح الفساد ويعاقب المفسدين… وفي العراق الجديد، كلما أراد مسؤول تسويف قضية ما وطمسها ورميها في سلة المهملات، فإنه يقوم بتشكيل لجنة خاصة بها”.
وهذا ما يحدث فعلا، إذ بعد مضي أقل من خمسة أشهر على تأسيس المجلس، أصدر في ختام جلسته الحادية عشرة يوم الخميس 9 أيار (مايو) 2019، بياناً أريد منه تكميم أفواه المنتقدين وتحجيم الكتاب ووسائل الإعلام، بدلاً من مساعدتهم في الحصول على المعلومة وفضح المفسدين ومعاقبتهم، جاء فيه: “إن المجلس أشار إلى الاتهامات التي تساق بحق المسؤولين الحكوميين في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من قبل جهات وأشخاص بغض النظر عن مسمياتهم وصفاتهم الوظيفية”، مطالباً “بضرورة تقديم الأدلة على هذه الاتهامات إلى المجلس الأعلى لمكافحة الفساد خلال مدة أسبوعين، وبخلافه يحتفظ المجلس باتخاذ الاجراءات القانونية في حق مطلقي الاتهامات”.
هذا البيان المخيب للآمال، جاء مفاجئاً للشارع العراقي. ففي وقت كان العراقيون ينتظرون بفارغ الصبر صولة حكومية على الفاسدين، جاء البيان متناغماً معهم ورادعاً للجهود التي تبذلها وسائل الإعلام في كشف المفسدين وفضح الفساد المستشري في جسد الدولة، وفيه تهديد بتكميم الأفواه وفرض الأمر الواقع على الصحافة والإعلام بالاستسلام ورفع الرايات البيضاء.
ماذا فعل المجلس حيال ملفات الفساد المتراكمة في غرف “هيئة النزاهة” ومكاتب المفتشين والوزارات السيادية والخدمية؟ وهل تمت محاسبة مسؤول رفيع، أو أحيل أحد سارقي المال العام على القضاء؟ ولا أقصد هنا الموظف البسيط الذي يتقاضى أجرا زهيداً لا يسد رمقه أو يكفل حياة هانئة كريمة لعائلته.
البيان المثير للجدل، لا يعدو كونه محاولة للتضييق على الحريات ومصادرة حق التعبير وتفريغ وسائل الإعلام من محتواها، وتحويلها من رقيب أمين على مصالح الشعب والمجتمع، إلى أبواق للحكومة، كونه لم يأت إلا لذر الرماد في العيون وتعميق الفجوة وانعدام الثقة بين الحكومة والشعب، الذي لم يجد جدوى في تشكيل المجلس مضافاً إلى “هيئة النزاهة” (تأسست في عام 2004) وديوان الرقابة المالية الاتحادي (تأسس في عام 2011) ومكاتب المفتشين العموميين (تأسست في عام 2004) وكلها تكلف خزينة الدولة أموالاً طائلة، من دون أن تتقدم خطوة في اتجاه الحد من الفساد أو مكافحته.
إن العراق ليس بحاجة إلى بيانات وقرارات لا تغني ولا تسمن، بقدر حاجته إلى حملة جادة لمقاضاة الفاسدين من الدرجات العليا، وإلى قرارات شجاعة ومحاكمات علنية وعادلة لحيتان الفساد والمتهمين بالسرقات وبالاستيلاء على ممتلكات الآخرين، والإثراء على حساب المال العام. وفي هيئة النزاهة وحدها، ما يزيد عن 13 ألف ملف ينتظر الإجراءات القانونية اللازمة.
هل سيقوم المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، الذي هدد بمعاقبة الكتاب والصحافيين ووسائل الإعلام التي تنشر غسيل الفاسدين، بمقاضاة رئيس تحالف “الإصلاح والإعمار” عمّار الحكيم؟، لأنه قال في معرض حديثه عن الفساد، خلال ندوة مفتوحة أقامها “مركز الرافدين للحوار” يوم الثلاثاء 14 أيار (مايو) الجاري في بغداد:
“إن هناك اتساعاً لظواهر الفساد، وليس هناك أي تراجع. فالمواقع (المناصب) بدأت تباع وتشترى في بورصة علنية في بغداد، فيما كانت خلال الدورات السابقة، تحدث بشكل سريّ خارج العراق وفي عواصم إقليمية”.
أم أنه سيعاقب رئيسة “حركة إرادة” حنان الفتلاوي، لأنها قالت إن “موظفين كبيرين في مفوضية الانتخابات، طالباها بمليوني دولار مقابل فوزها بمقعد انتخابي؟”، وهي التي أكدت أنها تمتلك تفاصيل في شأن تحكم أربعة أشخاص في المفوضية بجميع الأصوات من خلال بطاقات خاصة بالخوادم الخاصة بالأجهزة الالكترونية، وكانت الفتلاوي اعترفت سابقاً على شاشات التلفزة قائلة: “أخذنا العمولات وتقاسمنا الكعكة”. أم أن المجلس سيقاضي النائب السابق مشعان الجبوري، الذي قال بملء فمه أمام وسائل الإعلام:
“كلنا حرامية”، وأن لديه مخزون من المعلومات والإثباتات الموثقة؟
لا يسعني سوى أن أختتم مقالي، ببيت شعر جميل للإمام الشافعي، جاء فيه:
.”وعين الرضا عن كل عيب كليلة … ولكن عين السخط تبدي المساويا”
“الحياة”